أقلام

أحداث وأحاديث.. التغييرات في العالم الجديد وضرورة فهمها

بقلم : د. لبيب قمحاوي

‪ ‬‬

إن محاولة فهم عالم المستقبل واستيعاب متغيراته باستعمال أدوات الماضي حصراً هو أمرٌ سوف يؤدي بالضرورة إلى فشل القدرة على فهم تلك المتغيرات والتعامل معها بشكل صحيح . إن استيعاب المتغيرات الدولية المرتبطة ارتباطاً حثيثاً بالسيطرة على مكامن القوة العسكرية والاقتصادية والمالية والتكنولوجية وأدواتها الجديدة أمراً ضرورياً لفهم ما يجري من تغييرات في عالمنا وإلى أين تتجه الأمور وهذا الأمر يستدعى تَمَلُّكْ القدرة والرؤية على تقييم التطورات ضمن منظور أدوات المستقبل خصوصاً في حقل التكنولوجيا العالية والذكاء الاصطناعي‪ (Hi Tech and AI) ‬والتي سوف تشكل أساس ومنطلقات القوة الحقيقية للسيطرة على عالم المستقبل . وهذا الأمر من شأنه أن يعطي أهمية خاصة للموارد الطبيعية وامتلاكها ، خصوصاً ما يتعلق منها بالتأثير المباشر على ما يلزم من تلك الموارد لتصنيع أدوات ووسائط التكنولوجيا العالية مثل‪ Micro Chips.‬‬‬
قضايا التغيير الاستراتيجي
ما زال العالم ينظر إلى قضايا التغيير الاستراتيجي التي تعصف الآن بالعالم من منظور تقليدي ضيق يتم بموجبه تقييم التغيير والأخطار المرافقة له بإصرار وباستخفاف باعتبارها قد تتناقض أو لا تنسجم مع مقاييس العالم القديم . وقد ساعد على ذلك أسلوب الرئيس الأمريكي ترامب والذي يبدوا في ظاهرة غير متوازن ويبعث على الاستخفاف بالنسبة للبعض والسخرية بالنسبة للبعض الآخر. وفي واقع الأمر ، فإن ترامب يعني ما يقول وتصريحاته ليست عشوائية بقدر ما هي عناوين لبرامج أو أفكار لا تعترف إلاّ بأولوية المصالح على أي ترتيبات أخرى قد تعكسها أولوية التحالفات التقليدية أو متطلبات القانون الدولي إلى آخر ذلك من قِيَمْ انبثقت عن حقبة الحرب العالمية الثانية في العالم القديم ، تلك القيم التي ما زالت سائدة حتى الآن وإن بدرجات متفاوتة‪ .‬‬
إن ما تسعى إليه إدارة الرئيس الأمريكي ترامب حالياً هو فرض التغيير الذي تريده على الساحة الدولية واقتناص أقصى ما يمكن من المكاسب قبل أن تتبلور المعارضة لسياساته على مستوى العالم وبما قد يحد من إمكانية تَفَرُّدّه بِفَرْض التغيير الذي يريده بحد أدنى من المعارضة. فالعالم الآن ما زال يعيش في صدمة ترتبط بسلوك الرئيس ترامب وتصريحاته ، والعالم ما زال مشتتاً بين مفاهيم وقِيَمْ العالم السائد ومفاهيم وقيم العالم الجديد القادم ، وما زالت ردود فعله بطيئة ومشوشة على التغيير القادم ، مما يجعل الفرصة ما زالت مفتوحة أمام الرئيس ترامب لفرض التغييرات التي يريدها أو في أضعف الظروف وضع الأسس لمثل تلك التغييرات‪ .‬‬
لا يسعى الرئيس ترامب إلى تفجير الأوضاع سعياً لإنفاذ ما يريد لأن ذلك من شأنه أن يُفْسِد هدفه من إحداث التغيير ضمن أجواء عالم بعيد عن الحروب التقليدية . فاستعمال القوة العسكرية هو الأسلوب التقليدي لإحداث التغيير أو منعه في النظام القديم وهو السائد حالياً ، علماً أنه قد ثبت فشله في معظم الأحيان في أحداث التغيير المنشود من قبل الدول صاحبة القوة العسكرية من جهة ، بالإضافة إلى كونه أحد أهم أدوات القوة في يد الدولة الوطنية من جهة أخرى ، مما يتعارض مع رؤية النظام الدولي الجديد الذي يسعى إلى إضعاف الدولة الوطنية وإلى إحداث التغيير بواسطة الضغوط الاقتصادية والتكنولوجية للكيانات السياسية والاقتصادية الكبرى دون الحاجة إلى اللجوء للقوة العسكرية . ومن هنا تجئ دعوة الرئيس ترامب خلال حملته الانتخابية وبعد نجاحه في الانتخاب لوقف الحروب ومساعيه من أجل ذلـك باستثناء دعمه المفتوح لمسار إسرائيل العدواني‪ .‬‬
إن التعامل مع الدولة الوطنية وسيادتها باستخفاف والسماح للدول الأقوى باقتطاع ما تريد من أراضي الدولة الوطنية وثرواتها الطبيعية باعتبارها عقاراً ، وشعبها باعتبارهم بشراً مقيمين يتم تهجيرهم منها كيفما كان يشكل امتداداً لعقلية العالم الجديد القادم الذي يعطي الدول صاحبة القوة بأشكالها المختلفة الحق في استعمال تلك القوة لفرض إرادتها من خلال الضغوط الاقتصادية والمالية والتكنولوجية دون مراعاة للاستقرار الدولي الذي توفره الهوية الوطنية والسيادة الوطنية والانتماء الوطني ضمن اطار الدولة الوطنية في المفهوم السائد حالياً‪ .‬‬
موقف الرئيس ترامب من إقليم غزة

إن موقف الرئيس ترامب من إقليم غزة وتهجير وطرد سكانه لا ينحصر مثلاً بشكل كامل بتأييد إسرائيل وأطماعها فقط كما يهيئ للكثيرين ، ولكنه يتعلق وبالإضافة إلى نظرة ترامب إلى دول العالم بشكل عام واحتقاره الكامل لمفهوم الدولة الوطنية كما اتضح بشكل واضح من موقفه من كندا وجرينلاند وبنما . الموضوع بالنسبة لترامب أقرب ما يكون إلى الرغبة في امتلاك أجزاء من أوطان باعتبارها عقاراً يمكن شراءه أو امتلاكه الآخرين فقط لمجرد احتوائه على ما يحتاج إليه من موارد طبيعية أومن موقع جغرافي استراتيجي أو أهمية استثمارية . ما نحن بصدده إذاً هو عالم مستباح للأقوى ، قيمته تكمن فيما يملكه تحت الأرض وليس فوقها حصراً مما سيؤدي حتماً إلى تجميع منابع القوة والثروة بأيدي قلة من الكيانات السياسية وتتحول الكرة الأرضية بذلك إلى ملعب مفتوح أمام تلك القوى باعتبار الانتماء للبشر هو في الأساس كوني ، والحُكْم مرتبط بتوفر القدرة على إدارة الموارد الطبيعية واستغلالها بشكل كفوء ضمن مفهوم أمني عام يعطي مسؤولية حفظ الأمن الكوني لشركات عالمية متخصصة وليس لدول بعينها ، واعتبار تلك الشركات هي الوريث للدولة الوطنية التقليدية‪ .‬‬
إن التقلص المتزايد في أهمية الدولة الوطنية قد أصبح مساراً واضحاً تقوده الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب كوسيلة لتقليص سيادة تلك الدول وسيطرتها على مواردها الطبيعية لصالح النهج الجديد القاضي باعتبار تلك الموارد ملكاً مشروعاً لمن يستطيع إدارتها بكفاءة والاستفادة منها عوضاً عن تبديدها من خلال الإدارة السيئة للدول التي تملك السيادة الوطنية عليها‪ .‬‬
من الواضح أن الأولوية في التغيير بالنسبة لإدارة ترامب هي في الاستيلاء على الموارد الطبيعية لتعويض النقص الخطير المتزايد في توفر تلك الموارد نتيجة لاستهلاكها المفرط من جهة ، ولأثرها الحاسم في القدرة على تطوير أجهزة التواصل والاتصال والرقائق الإلكترونية التي تتحكم الآن وبشكل متزايد في كل شيء له علاقة بالتكنولوجيا الحديثة . وهذا الأمر المتعلق بالموارد الطبيعية هو أساس موقف أمريكا من كندا وجرينلاند ومؤخراً أوكرانيا عندما طالبها ترامب بإعادة قيمة المساعدات والقروض التي قدمتها الولايات المتحدة لأوكرانيا في حربها ضد روسيا من خلال تسديدها على شكل مواد ثمينة من مواردها الطبيعية بالإضافة إلى النفط والغاز . والرسالة هنا واضحة وهي سعي الولايات المتحدة إلى السيطرة على الموارد الطبيعية في العالم بغض النظر عن أماكن توفرها وعن حقوق الدول التي تملك تلك الموارد وسيادتها الوطنية عليها ، وبالرغم عن تصنيفها كدول حليفة للولايات المتحدة ، حيث لم يعد لصفة الحليف الاعتبار الذي كانت تحظى به الدولة المعنية في النظام الدولي القديم‪ .‬‬

ازدياد ملموس في دور الشركات الكبرى

التطورات الأخيرة المواكبة لبدء إدارة ترامب الحكم في أمريكا تعطي مؤشراً واضحاً على ازدياد ملموس في دور الشركات الكبرى في إدارة شؤون الدولة ، فمثلاً الدور الذي يقوم به الآن‪ Elon Musk ‬في مراقبة أداء مؤسسات الدولة الفدرالية وكفاءتها بواسطة فريق من المختصين الذين ينتمي معظمهم لشركات‪ Musk ‬قد أدى عملياً إلى وضع المؤسسات الفدرالية ومستقبلها في قبضة القطاع الخاص الأمريكي ، وهذا يعني عملياً قلب موازين الأمور بشكل يؤدي إلى إضعاف مؤسسات الدولة لصالح تقوية دور الشركات الكبرى في إدارة شؤون الدولة وهذا الأمر على ما يبدو في ازدياد وإلى الحد الذي قد يحول الشركات الكبرى في المستقبل إلى بديل للدولة الوطنية ويتم تصنيف العالم وتقسيمه بما يتناسب وهذا التغيير‪ .‬‬‬‬
في ظل استحالة استعمال أسلحة الدمار الشامل في التعامل مع الحروب والنزاعات الكبرى ، يُعتبر سلاح المقاطعة الاقتصادية والحصار المالي الذي تمارسه أمريكا هو السلاح الأقوى والأكثر فعالية في الترسانة الأمريكية خصوصاً وأن عملتها الوطنية ، الدولار ، هي العملة الأقوى دولياً وهي التي تتحكم بحركة التجارة الدولية والدورة الاقتصادية والاستقرار المالي للعديد من الدول . ويأتي استعمال هذا السلاح المالي والاقتصادي منسجماً مع أدوات التغيير المنشودة للعالم الجديد والتي تسعى إلى الابتعاد بشكل ملحوظ عن استعمال الخيار العسكري والحروب . وتقديراً لأهمية وخطورة هذا السلاح وفعاليته ، قامت مجموعة من الدول بطرح عملتها الخاصة بها مثل عملة اليورو‪ Euro ‬بالنسبة للمجموعة الأوروبية كرديف للدولار الأمريكي في التجارة الدولية والمعاملات المالية الدولية ، وكذلك محاولة مجموعة دول‪ Brix ‬إصدار عملة بديلة للدولار في تعاملاتها المالية والاقتصادية الدولية كوسيلة للحد من سطوة وسيطرة الدولار الأمريكي على التعاملات المالية والتجارية الدولية‪ .‬‬‬‬
يستدعي هذا التطور في النظام الدولي بالضرورة السيطرة على طرق المواصلات الدولية أو ضمان حيادتيها دولياً خصوصاً المفاصل الهامة التي تتحكم في الملاحة البحرية الدولية مثل قناة بنما وقناة السويس ومضائق باب المندب وجبل طارق ، باعتباره أمراً حيوياً في الصراع الدائر الآن للسيطرة على الموارد الطبيعية في العالم ، وجزأً هاماً من سياسة التحكم في المصالح الاقتصادية بين التكتلات الجديدة في العالم مثل مجموعة بريكس‪ BRIX ‬والصين والخطط المتعلقة بالسيطرة المستقبلية على الموارد الطبيعية في القطبين الشمالي والجنوبي عند توفر التكنولوجيا اللازمة لذلك‪ .‬‬‬

شكل وطبيعة العالم الجديد

الأفكار الواردة في هذا المقال ليست نبوءات بل هي تحليل جاد وإن كان مختصراً لمسار قد ابتدأ وسوف يتفاقم مع مرور الأيام آخذاً أشكالاً مختلفة في مجالات متعددة قد تتطور لتصبغ شكل وطبيعة العالم الجديد ، إلا إذا نجحت منظومة الدول الوطنية في تأخير حصول مثل هذا التطور أو منعه ووضع حداً لكل من يسعى إلى الانفراد بالقوة والثروة وذلك من خلال التعامل مع الكرة الأرضية ومواردها باحترام يراعي أهمية تلك الموارد ووحدة مصير الجنس البشري القاطن لهذا الكوكب‪ .‬‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى