أقلام

أزمة الطاقة…بوادر شتاء قاس على أوروبا

أزمة الطاقة…بوادر شتاء قاس على أوروبا

 
خلفت الأزمة الروسية الأوكرانية الأخيرة تهديدا بشتاء قاس على أوروبا وبمستقبل قريب متقلب للطاقة،  مما أدى بالعديد من الدول الأوروبية الى البحث عن ممولين غير اعتياديين للنفط والغاز والاستغناء بذلك عن السوق الروسية، وكذلك ضمان إمدادات آمنة من هذه المواد الحيوية، والتفكير كذلك في الانتقال الى الطاقات المتجددة من أجل ضمان من جهة سيادة في الطاقة ومن جهة أخرى لأسباب ذات طبيعة استراتيجية أكثر منها بيئية.

 
 بعد الغزو الروسي لأوكرانيا ظهر التهديد بتعطيل إمدادات النفط والغاز الروسية مما جعل الاتحاد الأوروبي الذي يعتمد على 40٪ من الغاز الطبيعي و26٪ من النفط على موسكو يبحث عن مخرج طارئ، ويظهر رغبة في قطع التبادل والابتعاد بسرعة عن موسكو وتلبية احتياجاته الهائلة من الغاز والنفط من مصادر اخرى.
في هذا السياق وحيث أن الدول الأخرى المنتجة لهذه المصادر التقليدية لا تستطيع تغطية حصة روسيا في حالة أوقفت هذه الأخيرة امداداتها، فانه من المفيد جدًا الاستعانة بموارد طاقوية أخرى على غرار الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين الأخضر والكتلة الحيويةإلخ، وحتى الاستعانة كذلك على الموارد غير التقليدية مثل ما فعلت الولايات المتحدة الامريكية الرائدة في مجال النفط والغاز الصخري.
الحلول المتوفرة:
من المسلم به أن روسيا هي ثالث أكبر منتج للنفط في العالم وثاني أكبر مصدر، وتمثل صادراتها التي تبلغ حوالي 5 ملايين برميل يوميًا من النفط الخام حوالي 12٪ من التجارة العالمية، وتمثل كذلك منتجاتها البترولية البالغة 2.85 مليون برميل يوميًا حوالي 15٪ من التجارة العالمية في المنتجات المكررة.
بعد أن قامت الولايات المتحدة الامريكية مؤخرا بوقف الواردات الروسية من النفط والغاز والتي تمثل 7٪ عام 2020من إجمالي واردات النفط (بما في ذلك الخام) و3٪ من واردات الخام، فإن أزمة الطاقة ستتفاقم أكثر، كما ستتأثر أسواق النفط العالمية.
بالإضافة الى ذلك ستؤدي قضية الحرب هذه والعقوبات المستقبلية للولايات المتحدة ضد روسيا إلى صدمة سلبية هائلة لإمدادات النفط والغاز الكلية وعلى الاقتصاد العالمي كذلك، مما سيقلل من النمو ويزيد التضخم بمعدل مرتفع للغاية، أما في حالة رد ة فعل روسيا بخفض إنتاجها من النفط والغاز فان العواقب ستكون وخيمة.
إن أوروبا تستورد معظم نفطها وغازها من إفريقيا والشرق الأوسط والأمريكيتين و روسيا، علاوة على ذلك فإن الدول الأوروبية تعتمد أكثر على الغاز الروسي فمقدونيا الشمالية تعتمد بنسبة 100٪، وفنلندا 94٪، وبلغاريا 77٪، وسلوفاكيا 70٪، إيطاليا 46٪، بولندا 40٪، وفرنسا ب 24٪ فقط، ووفقًا لأحدث البيانات المتاحة فان النرويج هي المورد الرئيسي لفرنسا بنسبة 35٪ من الغاز، وتستورد ألمانيا 55٪ من الغاز و42٪ من النفط من روسيا أما إسبانيا فلا تظهر على قائمة زبائن روسيا فنصف إمداداتها من الغاز من مصادر محلية ووارداتها بشكل رئيسي من النرويج وقطر والجزائر.
ليس أمام أوروبا خيار في مواجهة هذه الأزمة سوى تنويع مصادر إمداداتها الطاقوية، كما أن سيناريو استبدال الغاز الروسي بالغاز الطبيعي المسال الأمريكي، الذي يأتي جزئيًا من الغاز الصخري، سيكون أسوأ سيناريو من ناحية المناخ، وحتى استخدام الغاز الطبيعي المسال  GNLالبلجيكي والذي يتم نقله بالبواخر لا يفي بكل الغرض، وحتى قطر (أول منتج ومصدر عالمي للغاز الطبيعي المسال) التي أبدت استعدادها لمساعدة أوروبا ليست لديها القدرة بمفردها على تلبية الطلب الأوروبي وتعويض العرض الروسي.
من ناحية أخرى، يمكن لأوروبا تأمين كميات إضافية من خلال زيادة واردات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة أو قطر أو حتى أستراليا، ومن الغاز النرويجي (النرويج هي ثاني مورد للغاز في الاتحاد الأوروبي وتمثل إمداداته حوالي 22٪ من إجمالي الغاز الطبيعي المسال من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز في عام 2021، وقد قررت في خريف 2021 زيادة إنتاجها من الغاز للأشهر الـ 12 المقبلة ببضعة مليارات متر مكعب لدعم الدول الأوروبية).
ان استخدام سيناريو الغاز الجزائري، كون الجزائر دولة استراتيجية جغرافيا وقريبة من حدود الاتحاد الأوروبي وثالث مورد للغاز الطبيعي لأوروبا بعد روسيا والنرويج، وقبل قطر، وتزود الغاز لعدة دول في أوروبا، وخاصة إسبانيا وايطاليا، بالإضافة إلى أن الجزائر بحاجة إلى الكثير من الغاز للاستهلاك الداخلي، ولا يمكن للأحجام المتوفرة والبنى التحتية القائمة أن تضاعف الصادرات وتعوض الغاز الروسي على المدى القصير. أما على المدى المتوسط والبعيد فان الجزائر تعتزم رفع انتاجها ما بين 8 و10 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي السنة القادمة والى حوالي 15 مليار متر مكعب بين 2024 و2025، مما يجعلها صمام أمان لأوروبا.
من جهة أخرى وفي ظل هذه الازمة ستلجأ ولجأت بعض الدول المصدرة الى مراجعة سعر الغاز، ما جعل أوروبا تعتزم الاعتماد على صفقات شراء جماعية للغاز لتفادي السعر المرتفع ولملء المخزونات، وباختصار فان هذه السيناريوهات لن تحل قضية التبعية بصفة عامة وستبقى الوضعية الطاقوية الأوروبية مضغوطة على الأقل في الأشهر المقبلة.
الانتقال الطاقوي يفرض نفسه:
إن حزمة الطاقة المناخية للاتحاد الأوروبي لعام 2014و بحلول عام 2030، ترتكز على زيادة حصة مصادر الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة إلى 27٪، وخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 40٪ مقارنة بعام 1990، وتقليل استهلاك الطاقة بنسبة 27٪ بحلول عام 2030 من خلال تحسين نجاعة الطاقة. بالإضافة إلى ذلك، تمثل الطاقات المتجددة ما لا يقل عن 70٪ من المنشآت الجديدة في العالم في عام 2019، باستثناء إفريقيا والشرق الأوسط حيث تبلغ الحصص 52٪ و26٪ على التوالي، علما ان IRENA في تقريرها السنوي لعام 2020 يظهر ان الطاقات المتجددة نمت بنسبة 7.6٪ في عام 2019، وسيطرت عليها آسيا بنحو 54٪.
ان من المؤكد جدا أن هذه الأزمة قد رفعت الغطاء عن استراتيجيات الطاقة والاقتصاد التقليديتين للعديد من الدول، حيث يبدو أن كل الأنظار تتجه الآن نحو السيادة الطاقوية التي أصبحت قضية مركزية خاصة للدول المستوردة للنفط والغاز. ووفقًا لهذا النموذج الجديد يوصى بأن تطلق الحكومات سياسات لتعزيز الطاقات المتجددة لتحل محل الوقود الأحفوري. اما بالنسبة الى أوروبا على وجه الخصوص فان الانتقال الطاقوي يعد أمرًا ضروريًا ليس لأسباب بيئية ولكن لغاية استراتيجية بحتة، كما أن استخدام هذه الطاقات المتجددة هو توصية ذات صلة بالمدى المتوسط والطويل لتحقيق أمن الطاقة، ومع ذلك، فإن هذا الحل لا يمكن ان يكون ذا فعالية على الأقل في القريب العاجل وبوتيرة متسارعة للغاية.
الحل الآخر لأوروبا على المدى القصير، يكمن في ترشيد وتقليل استهلاك الغاز المستعمل في التدفئة المنزلية وكذلك الكهرباء، بينما على المدى المتوسط والطويل، فانه من الاستراتيجي لأوروبا أكثر من أي وقت مضى تسريع الاستثمارات في الطاقة المتجددة وتشجيع حلول إنتاج الكهرباء بموارد لا تعتمد على إمدادات الوقود الأحفوري مع المحافظة على التأثير على المناخ.
من ناحية أخرى فان البلدان المتخلفة المنتجة للنفط والغاز ستستفيد بشكل أكيد من ارتفاع أسعار النفط والغاز ولكن بنسبة اقل لأنها معتمدة من الناحية التكنولوجية والاقتصادية على الدول المتقدمة، كذلك نعلم أن الزيادات في أسعار النفط والغاز سيكون لها انعكاس على المنتجات الأخرى التي تستوردها الدول المنتجة للنفط والغاز وعلى أسعار النقل البحري مما يجعل نسبة الفائدة محدودة، ونسبة تضخم اكثر، بالمقابل فإن النفط والغاز الروسيين لا يمكن أن يظلا راكدين ولكن ستسعى روسيا لإيجاد أسواق أخرى لتصدير منتجاتها بعيدا عن الأسواق الأوروبية

محمد الرشيد شريطي: مهندس متخصص في مجال الطاقة.
البريد الالكتروني: r_cheriti@yahoo.fr   

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى