بقلم: أحمد قصوري
أقول أحيانا، أننا كنا سعداء الحظ، أن تتلمذنا على يد هذا الأستاذ، أو ذاك. لكن، في الوقت نفسه، أتأسف، لكوننا لم ننتبه إلى القيمة العلمية التي كان يحملها بعضهم، أو أحدهم، ولم نستفد منها بالقدر الذي كان متاحا أمامنا. ولا شك أن فرصا كثيرة قد أُهدرت، ووقتا بلا حساب قد ضاع منا، ولم نعرف أن نمسك إلا بالشيء القليل. وعجلة الزمن لا تتوقف طبعا، ولا تنتظر. أقول قولي هذا، وفي ذهني الآن صورة عالم كبير كان يتحرك بيننا، ويدرّسُنا. في سنة 1977، كان يجيء على متن سيارة بيجو 204 صغيرة، ـ كان يقترب من السبعين ـ وكنا نحن في السنة الأولى الجامعية، في تخصص الجغرافيا في بلفور (الحراش).
يتناول قطعة الطباشير، ويرسم دائرة متناسقة كأنها رُسمت بفرجار. ويوقّع عليها خط الاستواء، ثم دائرتا الجدي، والسرطان، والدائرتان القطبيتان، ويشرع في توزيع الظاهرة الجغرافية التي يود تقديمها، بمنهجية واضحة، وبمعلومات قليلة، لكنها مركزة ونفاذة. لم يكن أمامه دفتر، أو كتاب. إنه يشتغل من الذاكرة. ولم نره يوما يجلس على كرسي، برغم السن.
في الوقت الذي كان بعض الأساتذة في المعهد آنذاك يأتون ويجلسون، ولا كلام، ولا سلام. ثم يشرعون في إملاء عشرات الصفحات. ولا أحدا كان يسألهم أو يناقشهم. كانوا يمارسون الإرهاب جهارا نهارا، وكان سلاحهم الوحيد هو العلامة. يمدوننا بقناطير من الكلام الإنشائي، لنحفظه، ثم يطالبوننا بإعادته إليهم بالنقطة والفاصلة على ورقة الامتحان. لذلك، كان بعض الطلبة أيضا، يلخصون تلك القوالب في أوراق صغيرة، وبخط مجهري، ويغشون منها، والبادي أظلم.
لا الجامعة، ولا أحدا، نبهنا إلى أننا كنا في حضرة عالم كبير من علماء الجغرافيا. كنا نسير نياما. وكان الجميع في شغل عنه. كنا مهووسين بمسألة العلامة والتخرج والالتحاق بالوظيفة في أقرب وقت.
وأذكر أننا سألناه يوما:
ـ إننا بعد التخرج، سنُطالب بتدريس التاريخ، ونحن الآن في معهد يدرّس الجغرافيا وحدها، فكيف نتصرف؟
حسنا، قال، سأعرّفكم على جامعة ليلية، لو واظبتم على حضورها ستزودكم بتاريخ الإنسانية كله.
وفكرنا نحن، أننا بالكاد صرنا نتحمل جامعة النهار، فها هو يقترح علينا جامعة أخرى تلتهم ليالينا.
وقال هو، إن أردتم الإلمام بتاريخ الإنسانية، فعليكم بقراءة كتاب مهم جدا، وهو يمثل لوحده كلية بكاملها في التاريخ. ثم استدار نحو السبورة وكتب عنوان الكتاب واسم مؤلفه: “قصة الحضارة” تأليف: ” ول ديورانت”.
كان يتحدث بشغف كبير عن ذلك الكتاب الذي يقع في 32 مجلدا، ومؤلفه الأمريكي الذي أنفق نصف قرن في إنجازه، والمترجمون العرب الذين نقلوه إلى اللغة العربية، وهم كلهم مفكرون وكتاب مشهورون. وكان قد شوقنا جدا إلى قراءة الكتاب. وقال مما قاله أيضا، ” أن صورة المعلم الذي يجلس حوله الطلاب، لينهلوا من علمه، صارت صورة من التراث، تجاوزها الزمن، فأنتم اليوم تتوفر لكم وسائل كثيرة، مثل التلفزيون، والصحف، والكتاب. الكتاب هو المعلّم الدائم والطيع الذي يقف دائما رهن الإشارة، وهو في متناول اليد..”.
وأنا رحت في الأيام التالية اسأل وأبحث، عن كتاب “قصة الحضارة” في كل مكان. كانت هناك مكتبة صغيرة جدا في شارع عبان رمضان بالعاصمة، وكان فيها رجل عجوز، ضئيل، وضعيف النظر. أعطيته العنوان واسم المؤلف في ورقة، فقربها من نظاراته السميكة، وقال:
ـ موجود.
كانت فرحتي عارمة. كانت تلك المكتبة عبارة عن غرفة واحدة، والكتب مرصوصة في رفوف تغطي الجدران الأربعة، وتترك فراغا وحيدا لباب صغير إلى الخارج. حتى الأرضية كانت مفروشة بالكتب. راح العجوز يبحث بين الرفوف، ولما استدار وجدني واقفا لا أزال خلفه، فقال:
ـ عد إلي بعد ساعة.
وبعد ساعة، وجدته قد لف خمسة كتب في ورق الجرائد. كانت تلك هي الأجزاء الأولى التي اقتنيتها من تلك الموسوعة العظيمة.
وأنا بعد ذلك أخذت الليسانس، وذهبت إلى ميدان العمل، ووجدت نفسي أمام محك عسير منذ أول يوم. كان علي أن أدرّس 15 ساعة تاريخ أسبوعيا، منها سبع ساعات للمتكونين في رتبة أستاذ التعليم المتوسط في التاريخ والجغرافيا، وكان التاريخ مادة تخصص بالنسبة إليهم، فكان علي أن أقرأ دون توقف. في تلك الأيام كنت عثرت على أغلب الأجزاء الناقصة من “قصة الحضارة” في مكتبات عمومية. وأنا أعترف اليوم بالفضل الكبير لتلك الموسوعة العجيبة، التي أسهمت في تكويني التاريخي. كما أنها كانت عونا لي في مواجهة مهمة التدريس الصعبة وأنا في بداية عهدي بالمهنة.
ومرت السنون وظهر الانترنيت، وبدأنا ننبش في الأسماء التي لعبت دورا حقيقيا في تكويننا العقلي، ووجدت الآتي:
الدكتور إبراهيم أحمد رزقانة، ولد بقرية هُهيا بمحافظة الشرقية (مصر) في 25 أفريل 1912. تخرج من قسم الجغرافيا بجامعة القاهرة سنة 1934، وحصل على شهادة أخرى في علم الآثار سنة 1938، وهي السنة التي عين فيها معيدا بقسم الجغرافيا بجامعة القاهرة، ثم أستاذا بقسم الجغرافيا بجامعة الإسكندرية سنة 1942. وهو أول متخصص في الجغرافيا التاريخية بدرجة دكتوراه دولة في سنة 1947، وعين أستاذ كرسي بجامعة القاهرة ابتداء من سنة 1949.
وقد بدأت رحلة إعارته إلى الدول العربية، في ليبيا، حيث ساهم في إنشاء أول قسم للجغرافيا في جامعتها. ثم أُعير إلى السعودية حيث شغل منصب رئيس قسم الجغرافيا بجامعة الرياض (1971 ـ 1977). بعد ذلك التحق بالجزائر في سنة 1977، ولا نعرف متى غادرها. وهو عضو المجمع العلمي المصري، وعضو لجنة الجغرافيا بالمجلس الأعلى للثقافة منذ الأربعينيات في مصر، وعضو في معهد الآثار الألماني ببرلين. ومنذ سنة 1935 وهو يشتغل على الحفائر في مصر، للكشف عن آثار إنسان ما قبل التاريخ، وعلاقة تفاعله مع المكان (الجغرافيا التاريخية). وقد أصبح مديرا للحفائر ابتداء من سنة 1953. ولدية عشرات المؤلفات في مجالات الجغرافيا، والجغرافيا التاريخية. وأكبر إنجازاته على الإطلاق هو موسوعة عن حفائر المعادي، صادرة باللغة الإنجليزية في أربعة مجلدات، تم طبعها على نفقة المعهد الألماني للآثار المصرية..وقد حاز الدكتور رزقانة عدة جوائز محلية وعالمية، توجها في سنة 1992، بجائزة الدولة التقديرية تكريما له على جهوده العلمية.
أما ول ديورانت، صاحب موسوعة “قصة الحضارة” فهو فيلسوف أمريكي (1885ـ 1981). نال الدكتوراه في الفلسفة سنة 1917، وصار أستاذا في جامعة كولومبيا. لكنه توقف عن التدريس بعد عشر سنوات، ليتفرغ للبحث وإلقاء المحاضرات، والتأليف. وقد ساعدته الإيرادات المالية التي حققها كتابه الناجح “قصة الفلسفة” الصادر في 1925، ليتفرغ لمشروعه الضخم “قصة الحضارة” بمساعدة زوجته أريل، التي كانت طالبة فلسفة لديه في جامعة كولومبيا. ولإنجاز هذه الموسوعة التاريخية الضخمة، أنفق ديورانت نصف قرن من حياته، وهو يجوب مواقع الحضارات والثقافات المختلفة، ويزور البلدان والمتاحف، ويجمع الوثائق والمؤلفات. تنقل من الصين واليابان إلى الهند، إلى مصر والعراق، وأوربا كلها، والقارة الأمريكية. وقد تتبع بالبحث والكتابة، مسيرة الإنسان منذ بداية ظهوره على سطح الأرض، مقتفيا آثاره واكتشافاته، والأحداث الكبيرة والحروب. وتناول بالدرس كل الحضارات القديمة والأديان، وعصر النهضة في أوروبا، والاكتشافات الكبرى، والثورة الصناعية إلى غاية الثورة الفرنسية في سنة 1789. ولازال أساتذة التاريخ يوصون طلبتهم في الجامعات بالإقبال على هذا الأثر العظيم، ليسهم في تكوينهم العلمي، وتوسيع مداركهم.