أقلامالأولى

أسقطوا الإمبراطورية.. وأعادوا التوازن النفسي للأمة

بقلم: صالح عوض

تعالوا أيها الطيبون أبناء الشهداء أبناء المجاهدين وزوجاتهم وعائلاتهم.. تعالوا نتلمس بوابات الجزائر وأزقتها ومغاراتها ودروبها، نتحسس التصميم يسكن قلوب ملايين الجزائريين وهم يقفون وحيدين عشرات السنين في مواجهة حلف استعماري دفع بأبنائه وسلاحه وأمواله ومستشرقيه وقساوسته ينفذ قراره لإزاحة الجزائر من خارطة الوعي والتاريخ ولتصبح كما قال الوالي الفرنسي عن الجزائر في 1930: لقد مات الإسلام في  الجزائر.

تعالوا أيها الأحباب.. إنهم ينهضون في هذا الصباح أميرا قبلوا منه اليدين وإماما قبلوا منه الجبين وفرسانا قبلوا منهم جراحهم.. يمرون وينشدون: 132 عاما لم تكن انتصارا للمستعمرين إنما مقاومة بكل أشكالها ضد المستعمر بكل أشكاله.. فأي صباح مبارك هذا الذي وحد انطلاق الثورة و المولد النبوي؟ لنشهد انطلاق ثورات الشعوب فتسقط الإمبراطوريات الواحدة تلو الأخرى، ويشرق عهد جديد في المسيرة الإنسانية.

طبيعة استعمارية مختلفة:

لم يكن القرار الاستعماري إزاء الجزائر فقط من قبيل الحمايات الاستعمارية أو الاحتلال الطامح في ثروات البلاد وخيراتها أو المتطلع للسيطرة على موقعها الاستراتيجي فلقد كان على شاكلة كيفية الاستيلاء على الأندلس ومحاكم التفتيش أو على طريقة العدوان الأمريكي على الهنود الحمر او طريقة المستعمر الأبيض في جنوب إفريقيا وعلى طريقة الاستعمار الإحلالي الصهيوني لفلسطين.. ولم يكن القرار الاستعماري فرنسيا فقط فلقد جاء بعد اجتماع ثمان دول أوربية في فينا اتخذت قرارا بدأ بالحصار البحري على شواطئ الجزائر بعد هزيمة الأساطيل الإسلامية العثماني والجزائري والمصري في موقعة نافارين في أكتوبر 1827.

كان إسقاط الجزائر في نظرهم إسقاطا للمغرب العربي كله والانتهاء من جزء أساسي من الجسم العربي الإسلامي الأقرب لشمال المتوسط، كما أن إسقاط إفريقيا المسلمة سيكون أسرع نتائج سقوط الجزائر، ولقد اختلط في المشروع الاستعماري البعد السياسي بالاستراتيجي والأيديولوجي بالديني فكان تعقيد المواجهة أنها مفتوحة على كل عناصر الحياة ومناشطها..

ولا يتوقف المشروع في دوافعه عند حدود هذه المهمة الإستراتيجية ومفاعيلها الإقليمية إنما يمتد الى شواغل الاستعماريين في الإجابة على تحد حضاري وجودي يتمثل في البحث عن ضمانات نتائج صراع حضاري مع الأمة في مرحلة حساسة خطرة فهو سيجعل مهمة إسقاط الخلافة العثمانية أكثر سهولة ويكون الاستفراد بها متيسرا كما ان هناك بعدا تاريخيا حاضرا في الذهن الاستعماري فلقد كان سقوط مملكة بيت المقدس الصليبية الكاثوليكية في بلاد الشام التي امتدت من 1099 إلى 1299 وسقطت لأن مراكز فاعلة نشطة في أطراف الأمة مشرقا و مغربا تحركت في مواجهة حاسمة وطردت جيوش الحملة وأسقطت مملكة بيت المقدس.. ومن المعلوم أن المغرب العربي بقيادة الغوث شعيب سيدي بومدين اشترك بربع جيش صلاح الدين في تحرير القدس، ولعله أصبح من المعلوم كيف وعد نابليون اليهود بوطن لهم في فلسطين وبموجب ذلك زودوه بالمال في حملته على المشرق وعندما فشلت الحملة وعادت أدراجها فكر الاستعمار في أسباب فشله عندما استهدف القلب مجددا، فأجرى تعديلات إستراتيجية على مشروعه بأن أضاف لدوافعه الاستعمارية نحو الجزائر بعدا عميقا جديدا فكانت مفاوضاته لاحتلال الجزائر مع محمد علي، وعندما فشلت مفاوضاته توجه ليجعل احتلاله للجزائر هدفا أساسيا لكل مشروعه الصراعي وبهذا اعتقد المشروع الاستعماري انه تخلص من جزء كبير من الأمة العربية في معركته النهائية في فلسطين التي سيضع فيها كتلة بشرية غريبة عن نسيج المنطقة كيان تغريبي يقوم بوظيفته الاستعمارية بإتقان.

من هنا كان التوجه الاستعماري نحو الجزائر في سياق الصراع الحضاري الوجودي الذي اندفعت إليه الدوائر الصليبية بكل إصرار على اعتبار ان الانتصار فيه سيحدد مسار الصراع كله مع الأمة لقرون قادمة، 

المواجهة المستحيلة:

لم يتوقع الاستعماريون أن الجزائر ستدافع خارج إطار الوضع الرسمي وبعد إن درست اللجان الاستعمارية المبعوثة والمتسللة للجزائر كل الأوضاع الاجتماعية والعسكرية والاقتصادية خلصت إلى نتائج معينة في كيفية المواجهة مع جيوش الآيالات والداي وفي نظر القيادات العسكرية الفرنسية كان الأمر لن يتعدى أشهرا قليلة.. فوجئ قادة الحملة الاستعمارية ان المقاومة الجزائرية موجة بعد موجة بل لعلهم في لحظات قاسية أصابهم اليأس والإحباط وهم يواجهون قائدا عبقريا كالأمير عبدالقادر الذي أقام أركان دولته في أقسى الظروف او كمن تبعه من أمثال بوعمامة وبوبغلة وبومعزة وسواهم من قادة الحركات الصوفية الميامين.. وتواصل الكفاح الجزائري وقد تميز فيه قادة من نوع فريد استطاعوا تحشيد المجاهدين وتخطيط المعارك بإتقان رغم تفوق القوات الاستعمارية عدة وعددا ومنذ سنة 1830 الى سنة 1916 استمرت المقاومة من مكان إلى آخر واستمرت مشاغلة الاستعمار فيما لم يكن لها مساند إقليمي او دولي.. وقد كان الاستعمار يرسى ركائز وجوده الاستعماري على حساب المجتمع الجزائري الذي تعرض لضربات عنيفة.. ومجازر مريعة تبلغ حد الوصف وقد سرقت أرضه الخصبة وممتلكاته وحرقت مكتباته ودمرت قراه ومداشره وفتك به والقي به إلى الأوبئة والأمراض.

ومنذ البداية كان تحطيم اللغة العربية وتشويه الدين الإسلامي هدفا مباشرا تفرغ له جيل من القساوسة والمستشرقين.. وفي احتفال بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر أقام الوالي الفرنسي حفلا ضخما في قسنطينة 1930 دعي إليه رهط كبير من الفنانين والمثقفين الغربيين وقف فيهم الوالي خطيبا ليشرح طبيعة الاستعمار الفرنسي للجزائر: نحتفل اليوم بموت الإسلام في الجزائر وانطلاق قنديل الإنجيل إلى كل إفريقيا.

يذكر محمد فريد وجدي المصري المفكر الإسلامي الشهير أنه زار الجزائر في بدايات القرن فوجد أن العربية فيها قد درست تماما وان الإسلام أصابه تشويه كبير فيما تقوم المؤسسات التبشيرية بدور نشط لاستقطاب أبناء المسلمين.

لم يطل الإحباط في المجتمع الجزائري بعد آخر مقاوماته العسكرية.. فانبعث يتحرك في اتجاهات عدة بتواز كان مشروع الإمام عبدالحميد أكثرها نضجا وتأسيسا حضاريا في محاولة لبعث حضاري جديد يستند إلى عناصر الهوية الخاصة للشعب الجزائري فكان تأسيس جمعية العلماء المسلمين في 1931 أي بعد عام واحد من خطاب الوالي الفرنسي وكان التعليم ورفع شأن العربية وفتح المدارس وتكوين الأجيال على صحيح الدين ولسان العرب المبين والوطنية الحقة مما أنشأ أجيالا في الجزائر قل مثيلها في الوطن العربي من عشق العروبة والإسلام ولقد اجتمع في الجزائر ولها جيل من العلماء المتميزين لم يجتمع مثله في مجتمع عربي دفعة واحدة.. وعلى التوازي من ذلك كانت الفعاليات الثقافية السياسية كعباس فرحات ورفاقه من الدكاترة والحقوقيين  تخوض غمار العمل السياسي لانتزاع بعض الحقوق للشعب الجزائري و تسارعت وتيرة استعادة الذات وبرزت الأحزاب المتوازية فلقد تأسس حزب الشعب الجزائري  بعد سبع سنوات من انطلاق جمعية العلماء أي في 1937 وكان له دور كبير في تنشيط الوضع السياسي وتحريك الشارع الجزائري.. وكانت عناوينه تتطابق مع عناوين جمعية العلماء: العربية لغتنا والإسلام ديننا والجزائر وطننا.

وواصلت الكتل الاجتماعية والثقافية والسياسية نشاطها الدؤوب وصولا إلى الحرب العالمية الثانية و كان الشعب الجزائري قد تحددت أهدافه الوطنية وبرزت فيه نخبة قيادية ممتازة وفي ظل الضعف الكبير الذي انتاب الدولة المستعمرة أعطت وعودها للمجتمع الجزائري بأنها ستسمح له بتقرير مصيره بعد الانتهاء من الحرب.

غدرت الإدارة الاستعمارية بالشعب الجزائري الذي خرج معبرا عن مطالبه السياسية فسلطت عليه جام نيرانها ليقتل في يوم واحد في 8 مايو 1945 أكثر من 50 ألف مواطن ويصاب مثل هذا العدد فكانت فاجعة أليمة لكنها أسهمت في اختصار المسافة نحو الثورة..

في رحلة الشعب من 1945 الى 1954 كان كل شيء يتبعثر الأحزاب والقوى كلها تتشظى وتتنازع فبعد أن مات الشيخ ابن باديس وتم نفي الشيخ الإبراهيمي أصاب الجمعية ما أصابها بين أجنحتها ولقد أصاب حزب الشعب التمزق بين المركزيين والمصاليين وحاولت الطبقة السياسية أن توحد صفوفها في أحباب البيان إلا أن التحديات كبيرة و تذمر الشباب الثوري تضغط بقوة من اجل عمل ثوري ينهي حالة الترهل السياسي.

وبعد محاولات في إطار العمل العسكري السري والتي تمكنت أجهزة الاستعمار الأمنية من السيطرة عليها وتم اعتقال عدد من المناضلين.. بدأ التفكير لدى مجموعة متميزة من لياقاتها الروحية والفكرية بعمل ثوري مستفيد من تجارب العمل بكل أبعاده فكان الحوار الذي شمل عددا أساسيا منها على رأسه مصطفى بن بولعيد و محمد بوضياف والعربي بن مهيدي وديدوش مراد تكامل العدد ليكون 22 شابا حددوا الخطوط الرئيسية لمشروعهم الثوري ولأهدافهم الاجتماعية والسياسية وضمنوا ذلك بيانا وحددوا ساعة الصفر والطلقة الأولى ومكانها وتوزع قيادة العمل على خمس ولايات، وكلمة السر فكان عقبة خالد إجابة تاريخية على المشروع الاستعماري. وكانت ليلة ليست كأي ليلة أن شمس الجزائر أشرقت قبل فجرها وأضاءت على العالمين.

سنن الانتصار:

لم تنطلق الثورة الجزائرية بالتفاهم مع أي طرف إقليمي أو دولي، وعندما انطلقت لم يكن لها سند دولي حتى أن الاتحاد السوفيتي تأخر طويلا عن الاعتراف بها، جاءت لتعلن رفضها المطلق للمشروع الاستعماري في رد كبير على من صنعه وجاء باللفيف الأجنبي من كل أوربا ليحتلوا الجزائر.. استندت الثورة الى حق شعبها في وطنه حرا سيدا وإزالة كل الوجود الاستعماري واسترداد السيادة.. ولم تسمح للتوهان في دهاليز العمل السياسي العبثي.

ومن المهم جدا هنا إبراز أسباب الانتصار العظيم الذاتية التي إلتزمتها الثورة الجزائرية طيلة الوقت ولعل العنصر الأول: الوحدة والوحدة هنا تعني بوضوح أنها وحدة التمثيل ووحدة القيادة ووحدة الأداة الثورية.. ولم تتنازل الثورة عن هذا المبدأ طيلة سنواتها السبع، والعنصر الثاني: وضوح الهدف والتمسك به فلقد كانت الوحدة الترابية والوحدة السكانية هدفا ومبدأ غير قابل للتفاوض، العنصر الثالث: تفعيل قدرات الشعب الجزائري بأقصى درجة على اعتبار إما مع الجبهة أو ضدها.. العنصر الرابع: الانضباط والالتزام بأقصى درجاته في تنظيم يحمي من الاختراق ويحفظ من التبعثر، العنصر الخامس: تطوير القدرات القتالية والسياسية والإعلامية لتحقيق أقصى درجات التأثير على معامل التوازن. العنصر السادس: الإدارة الممتازة للصراع والانفتاح على الخيارات في إطار التمسك بالهدف وتعزيز الأدوات فكان الرفض المطلق لكل المناورات التي أطلقها المستعمر حول حلول جزئية او مرحلية، العنصر السابع: عدم التدخل في شئون الغير وعدم السماح بتدخل أي قوة أو جهة في شأن الثورة ولقد حافظت الثورة على جزائريتها بدقة ولم تمل ذات يمين او شمال.

تحول كوني:

جاء انتصار الثورة الجزائرية وسقوط المخطط الاستعماري 1962 بعد ثماني سنوات من نكبة فلسطين ليعلق القلق الوجودي على رأس الكيان الصهيوني، فبعد أن مال قادة المشروع الاستعماري الى الطمأنينة بأنهم وجدوا الحل الجذري لإسقاط امتنا وإقامة مملكة يهوذا والتي تقوم محل مملكة بيت المقدس الكاثوليكية.. جاءهم انتصار الثورة الجزائرية لتعود الجزائر بعنفوانها رغم أنها مدماة إلى حضنها العربي الإسلامي كعامل أساسي في نهضة أمتها.. ولعل متابعي مراكز الدراسات العبرية وأقوال الاستراتيجيين لديهم يعرف حجم الرعب من النموذج الجزائري الذي لا تغيب عين الأجهزة الأمنية الصهيونية عنه ليل نهار.

ظن المستعمرون أنهم اوجدوا الحل لإشكالية التهديد الخطر لدول بيت المقدس الكاثوليكية الصهيونية بعد ان ظنوا أنهم ابتلعوا الجزائر واسقطوا الخلافة العثمانية ونصبوا على ممالك المشرق العربي صنائعهم.. وإذا بالجزائر تعود كاملة عنقها مشرئبا للسماء.

انفرط عقد الاستعمار في إفريقيا وانهارت الإمبراطورية الاستعمارية وتحرر المغرب العربي كله وهذا جزء من الهجوم المضاد فلقد أصبحت الجزائر معقلا للثوار وكعبة للأحرار وكان درسها بالغا وقد أعادت التوازن النفسي للأمة التي أقنعتها نخبها السياسية والثقافية بان الهزيمة قدرها.. وهنا توجه الاستعمار الفرنسي إلى المشرق بتكثيف للحفاظ على تفوق الكيان الصهيوني استراتيجيا فزوده بالمفاعل النووي.. وتحركت أطراف الاستعمار محاولة تدارك الخلل الكبير وعمقت من تواصلها في دول الإقليم تؤجل على الأقل من سقوط دولة يهوذا الاستيطانية..

رسائل القلوب أقوى من تنظير الألسنة ومن بحوث مراكز الدراسات والتحليل.. لقد فهم الشعب الفلسطيني قيمة الجزائر بدون هذا التنظير وقد فهم الشعب الجزائري دوره في القضية الفلسطينية دونما تنظير فنالت كل كلمة تأتي في هذا السياق الاحترام والتقدير وهكذا أصبح شعار “مع فلسطين ظالمة ومظلومة” ليس سياسة أو مشاعر إنما هو عقيدة تلازم الجزائر شعبا وحكومة وأحزابا وحق للفلسطينيين أن يفتخروا بثورة الجزائر ويطمئنوا أنهم ليسوا وحدهم.. والله غالب على أمره.

 

    

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى