
الدكتور محمد بغداد
يقتضى معنى كلمة (المجابهة) قيام التحدى وتوفر المقاومة وممارسة المحاربة ومنع الانتشار، وفي الفضاء الإعلامي يرتفع سقف المعني وتثقل تكلفته خاصة في العصر الذي نعيشه، فمن ساروته نفسه الفوز بنعيم أجر ممارسة المجابهة في الدنيا والأخرة، أن يكون الاخبات ديدانه وأن يدرك أن قيام التحدى لا يكون إلا بتوفر فولاذية الإرادة، وتوقد بريق البصيرة، وعلو همة النفس، والإيمان بالإنتماء، وبعدها جسارة الطموح، وعبقرية التخطيط وامتلاك خزائن الصبر والتشبع بروح المغامرة والاستثقال من أدوات التحكم، والاحترام الشديد لقوانين التاريخ والحذر من مكره المؤلم.
كما أن التفكير في ممارسة المجابهة أو الاشتغال بفقهها، لا يكون متوفرا للكثيرين بل هو مخصوص بالبعض الذين يرسمون الملامح الكبرى والأهم منهم من يقتنصون الفرصة فيرفعون سقف الإبداع من المستويات التفكير إلى روعة التنفيذ الميداني القاهر.
ـــ 1 ـــ
بعد التفرغ من هموم إدارة البيت الأبيض، قرر الرئيس الأمريكي السابق بارك أوباما رفقة زوجته الانخراط في عالم المستقبل من خلال الشروع في الصناعات الإعلامية، وهي الصناعات التي لها أهداف تخدم المصلحة العليا للنموذج الكوني الأمريكي، فاسغل مناسبة شهر رمضان الذي يمثل مناسبة متفردة في حياة المسلمين، فبدأ بانتاج برنامج إعلامي يقدم فيه الرؤية الأمريكية لنموذج المسلم الأمريكي، وأختار له إسم (أرضية أعلى.. أخبريهم من أكون)، وهو البرنامج الذي تنتجه شركة (أرضية أعلى) وهي الشركة التي يملكها أوباما مع زوجته، بالاشتراك مع (سبوتفاي الإذاعية).
إن مشروع (أرضية أعلى و سبوتفاي الإذاعية)، سيكون التحدي الأكبر أمام المؤسسات الإعلامية العربية والإسلامية (العمومية والخاصة)، التي ستواجه مشكلة كبرى تتمثل في مصادرة الغرب لمعالم الهوية الدينية التي طالما شكلت المصدر الأكبر في الحصول على ثروات من خلال ما ينتجونه من منتوجات إعلامية واتصالية تعمل على تسويقها في أجواء رمضان، ولطول بقائها في الساحة محتكرة لهذه المنتوجات ومسيطرة على المستهلكين، سرعان ما اختارت هذه المؤسسات الجوانب الترفهية السمجة والمواد الدينية السطحية، مما جعلها منتوجات غير قابلة للاستهلاك، وأحيانا مضرة بالمستهلكين.
مما جعل شركة (أرضية أعلى و سبوتفاي الإذاعية)، تنفطن لوضعية الكساد والمخاطر المتزايدة من المنتوجات الإعلامية الرمضانية، فسارع إلى مصادرة الموضوع من العرب والمسليمن وعمل على التوجه إلى انتاج ما يفترض على أن يكون مادة إعلامية استهلاكية لا تكون ذات شهية عالية ولكنها ستكون درسا لمن يمارسون المنتوجات الإعلامية الرمضانية وضربة مؤلمة لأصحاب الأصوات الصارخة في الساحة عندنا.
ـــ 2 ـــ
لقد أختار مشروع (أرضية أعلى و سبوتفاي الإذاعية)، مساحة استهلاكية تمتد لأكثر من (86 دولة)، مما يتجاوز (03 مليار مشاهد)، إضافة إلى أستقطاب كبرى الشركات الترويجية التي سارعت إلى الاستثمار في مشروع (أرضية أعلى.. أخبريهم من أكون)، مما يجعل النموذج الغربي يتجه إلى الاستيلاء على المقدسات الذاتية والهوية المحلية وبالذات الدينية منها، ليشكل ملامحها وطعمها حسب رؤيته الخاصة، وفرضها في النهاية كنموذج وحيد قابل للاستهلاك وغير قابل للمنافسة، ومن يأتي بعده ما عليه إلا أن يقوم بالتقليد فقط، والسير على المسار المرسوم.
إن الاستهلاك على مساحة استهلاكية تمتد إلى (86 دولة)، أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية، يجعل النموذج (المسلم الأمريكي) القيمة المضافة التي تستند عليها المرجة الأمريكية، القادمة في التعامل مع المسلمين القادمين من الفضاءات الزرقاء، مما يزيد من سطوة الحصار على الذات ويرفع من شدة الألم الذي يعذب الذات ويسحق الروح، ويصادر الجغرافيا الإعلامية، عبر بث البرنامج من (استوكهولم غربا إلى نيويورك شرقا)، لتكون هذه المساحة هي المجال القادم الذي سيدور عليه الصراع القادم للمنتوج الإعلامي الديني.
ـــ 3 ـــ
لقد فضل مشروع (أرضية أعلى و سبوتفاي الإذاعية)، إن يخاطب المسلمين في شهر رمضان من خلال شخصية مسلمة ومن أصول مسلمة وذات سطوة إعلامية مرموقة في الفضاء الأمريكي، ففضل التواصل مع المسلمين وفرض النموذج الغربي لهم ورسم ملامحه من خلال ريشة الباكستناية ( متشيا أبوسيف)، واختيار شخصية باكستناية، لها مدلولها الثقيل في الجرافيا الإعلامية، كون هذا العنوان يشير إلى القوة الديمغرافية الناجحة والمنخرطة في الهوية الغربية، ولها من التأثير ما يجعلها قادرة على حمل القيم والمفاهيم التي يراد انتاجها وفرضها في سوق الاستهلاك.
فكل تفاصيل مشروع (أرضية أعلى و سبوتفاي الإذاعية)، تمت بناؤه بعناية وفي سنوات طويلة، وهو نتيجة دراسات وأبحاث متخصصة، في مختلف مجالات المعرفة ومن مراكز علمية ذات سمعة معرفية عالية، وهو ما يجعل مثل هذه المشاريع مندرجة في سياق المصالح الكونية لدولهم.
ـــ 4 ـــ
إن مشروع (أرضية أعلى و سبوتفاي الإذاعية)، سيكون الضربة المؤلمة في سياق المنتوجات الإعلامية الرمضانية المحلية، وهي المنتوجات التي مل منها المستهلكون وسئموا من أصحابها التي لا تخرج على المواعظ البائسة والمشاهد المقرفة والروح الجامدة، وما يضاف إليها من كل توابل العزوف، فالبرغم من الدعوات المتكررة ومن النداءات الصادقة، إلا أن القائمين على الانتاج الإعلامي الرمضاني، يصرون على ارتكاب المحضور والسير في طريق التخلف والتقليد، وتسميم المستهلك بما يجعله يقاوم بطبيعته الأصلية درن هذه المنتجات.
إن المنتوجات الإعلامية الرمضانية عندنا، يصدق فيها النواهي النبوية والممنوعات القرآنية فرب العالمين يقول (ولا يأتونك بمثل إلا جاناك بالحق وأحسن تفسيرا)، ولكن واقع الحال في المنتوجات الإعلامية الرمضانية عندنا، العكس تماما من مدلولات الأية الكريمة، ويصادم أوامرها، ولكن الروح المتكلسة في براثين الجمود، يجعلنا بعيدين عن مدلولا(وأحسن تفسيرا)، وهو المستوى الذي لا يمكن توقع حدوثه في المدى المنظور، كوننا نعمل بعيدا عن العلم ونخضع للأهواء النازقة والأمزجة المقلبة، ونعتمد على معايير بالية من الولاء والطاعة والتقليد والاستهتار بالابداع والمبادرة.
ـــ 5 ـــ
فمن كان عاجز عن إنتاج صورة فتوغرافية أو تسويقها، فكيف يكون حاله وهو يتخبط في ميادين المعارك المدمرة، وسنة الأولين تصدح بالتعوذ من عجز (الثقة) الذي تكون تكلفة انتمائه باهظة ومكلفة، ومن جلد (الفاجر) الخصم المناوئ الذي يتمادى في القهر والايغال في الإذاء، وهؤلاء يتكاثرون بسبب تواري (أهل الثقة) الخيرين من ورثة ابن العنابي والمنتبهون لبريجنسكي، فيتسلل إلى الميدان العاجز والمتعطشون إلى الأنوار وبهرجة الظهور.
فكم هم المتحدثون بإسم القضايا العادلة، وفي مقدمتها الدين والهوية، يكونون في مقدمة الذين يلحقون الضرر المؤلم بعدالة القضايا، لأنهم غارقون في التخلف ومثقلون بأمراض النفس، ومتسلبون بأسقام الهوى وملوثون بشهوات الذات، فيفتحون أبواب السيل العرم بإصرارهم على استعذاب المعاصى، على أمتهم وأنفسهم ما يجعلهم مجرد صور كاريكاتورية تجلب الشفقة أكثر من السخرية، لأنهم يقحمون أنفسهم في مجال الإعلام وهم أجهل الخلق بأبسط أدبياته.
وقد أثبتت التجارب الميدانية فداحة أخطائهم، وبشاعة أفعالهم في أبسط المستويات، وفي كل ما اقتربوا من ميدان إلا وحققوا الأرقام القياسية من الفشل الذريع، ومع ذلك يتجسد فيه (إذا لم تسحى فأفعل ما شئت)، ويجاهرون بالمعصية بإدعائهم زورا أنهم من أهل (النخبة)، وهي النخب المغشوشة، والخسارة الكبرى تلحق بالجيل الحالي، ويمتد إلى الأجيال القادمة، بوضع المزيد من العراقيل والمتاريس في طريقها التي تحرمها من إمكانية الانخراط في التاريخ.