
كما كان منتظرا، وبعد تقريبا أسبوعين على ضرب القنصلية الإيرانية بدمشق من قبل الكيان الصهيوني واغتيال قادة من النخبة في فيلق القدس التابع للحرس الثوري من بينهم الجنرال محمد رضا زاهدي، قامت الجمهورية الإيرانية الإسلامية بالرّد على العملية ليلة الأحد 14 أفريل 2024 وذلك بمهاجمة أراضي الكيان الصهيوني عن طريق طائرات مسيّرة وصواريخ تعددت تسميتها، تصدت لها ترسانة الدفاع الجوي الصهيوني بمساعدة أمريكا وبريطانيا وألمانيا… وبعض الدول العربية كما جاء في تقارير صحفية متباينة.
وبغض النظر عن نتائج الهجوم المباشرة خاصة من حيث الخسائر المادية والبشرية، يمكن من خلال ما جرى ليلة الأحد طرح بعض الاستنتاجات على عجل في انتظار تطور الأحداث مستقبلا:
1- الروم في مواجهة الفرس
كما قامت دول الغرب الوارثة للحضارة البيزنطية بالهرولة نحو الكيان الصهيوني لمساواته وإنقاذه من عملية طوفان الأقصى، هرعت أيضا نفس الدول هذه المرّة لإنقاذه ومساعدته عملياتيا في الرّد على الهجوم الإيراني باعتبار أنّ الضربة كانت منتظرة وكل المؤشرات توحي إلى القيام بها. لقد كانت كل القواعد الأمريكية والبريطانية بالمنطقة في حالة تأهب قصوى منذ ضرب الكيان للقنصلية الإيرانية بدمشق، خاصة القواعد العسكرية البريطانية بأكروتيري ودكليا ذات السيادة البريطانية بجزيرة قبرص، حيث احتفظت بهما بريطانيا رغم استقلال قبرص، نظرا للمركز الاستراتيجي لقبرص في البحر الأبيض المتوسط ولقربها من الكيان الصهيوني والشرق الأوسط عموما.
ولا تشكل هذان القاعدتان البريطانيتان أي حساسية سياسية في الرأي العام العربي والإسلامي عموما باعتبار أنهما تابعتان سياديا لبريطانيا صانعة الكيان الصهيوني والتي تؤكد للمرّة الألف وفاءها لوعد بلفور المشؤوم. وقد لعبت القاعدتان دورا هاما في الصد للمسيرات والصواريخ الإيرانية، وهذا عكس القواعد الأمريكية المنتشرة بالبلدان العربية والتي حذرت مسبقا استعمال هذه القواعد ضد إيران انطلاقا من اتفاقيات الدفاع المبرمة بين الأطراف العربية وأمريكا، والتي تنص صراحة على استعمال هذه القواعد في حالة تعرض البلد المضياف لهجوم من قبل دولة معادية. فعلى سبيل المثال لا يسمح لأمريكا استعمال قاعدة عديد بقطر لصد الهجومات الإيرانية خاصة وأن لقطر علاقات مميزة مع إيران. ومع ذلك قد يكشف المستقبل اللجوء إلى هذه القواعد لصد الهجمات الإيرانية.
2- حماية الكيان من الثوابت الدبلوماسية الغربية
منذ تأسيس الكيان الصهيوني في 14 مايو 1948 بعد قرار التقسيم الأممي رقم 181، والغرب يسعى إلى حمايته وتقويته عسكريا ودبلوماسيا حتى وإن تغيّر الحامي حسب الظروف السياسية والإستراتيجية. ففي الحرب العربية-الصهيونية الأولى التي جرت عقب إعلان دولة إسرائيل، لعب الاتحاد السوفيتي بقيادة جوزيف ستالين دورا محوريا في إنقاذ الكيان من الجيوش العربية. اعتقد ستالين أن إسرائيل ستمسي دولة اشتراكية منحازة للقطب الشيوعي وتكون بذلك نقطة انطلاق للانقلاب على الملكيات العربية وجرها إلى النفوذ السوفيتي. وكان الاتحاد السوفيتي أول دولة اعترفت بإسرائيل وتكون بذلك قد سبقت الولايات المتحدة الأمريكية. كما قامت بتدعيم الكيان ماليا وبشريا وخاصة عسكريا عن طريق تشيكوسلوفاكيا.
كما قامت بريطانيا وفرنسا بالتنسيق مع إسرائيل للهجوم على جمهورية مصر بعد قيام جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس في سنة 1956. وقد لعب الاتحاد السوفيتي في هذه الحرب دورا معاكسا للحرب الأولى بعد أن انحاز الكيان إلى القطب الرأسمالي-الأمريكي، فيما انحازت الثورة المصرية إلى القطب الاشتراكي. دفع هذا التغيير السياسي في المنطقة بالاتحاد السوفيتي إلى تغيير إستراتيجيته في تسيير الشرق الأوسط دبلوماسيا، وكان له الفضل الأكبر في انسحاب إسرائيل من سيناء وقطاع غزة.
أمست فرنسا في الخمسينيات الحليف الأول لإسرائيل، وقد زودت جيشها بأجهزة عسكرية متطورة وخاصة طائرات الميراج، كما ساعدتها على اكتساب التكنولوجيا العسكرية النووية. وازداد دعم فرنسا لإسرائيل بعد انحياز جمال عبد الناصر للثورة الجزائرية. وكان من الطبيعي أن يستمر الرئيس ديغول في تدعيم إسرائيل في حربها الثالثة مع الجيوش العربية في يونيو 1967. غير أن لهجة ديغول الدبلوماسية تغيرت مع احتلال الكيان للأراضي العربية، وخاصة بعد الغارة الإسرائيلية على مطار بيروت في يناير 1969.
في حرب رمضان 1973، كانت للولايات المتحدة الأمريكية دورا رئيسيا في انقلاب الكفة لصالح إسرائيل بعد الهجوم المباغت الذي قام به الجيشان المصري والسوري بمساعدة بعض الجيوش العربية، حيث استطاع الجيش المصري اجتياز خط بارليف والتوغل 20 كم شرقا داخل سيناء، فيما استطاع الجيش السوري أن يتوغل إلى عمق هضبة الجولان وصولا إلى سهل الحولة وبحيرة طبريا. أقامت أمريكا جسرا جويا لإسرائيل عبر البرتغال لإيصال الأسلحة والدخيرة قدره المؤرخون بـ 27895 طنا. وقد قال الرئيس المصري أنور السادات بعدها “نحن نحارب أمريكا وليس إسرائيل” وذلك لتبرير تطبيعه الدبلوماسي مع الكيان الصهيوني.
كما لعبت أمريكا دورا محوريا في عملية التطبيع العربي-الإسرائيلي بدءا بمصر ومنظمة التحرير الفلسطينية والأردن وصولا بالإمارات والبحرين والمغرب والسودان. كما هرولت بأساطيلها البحرية وغواصاتها النووية لإنقاذ الكيان بعد عملية طوفان الأقصى.
3- الحرب من صنع المتطرفين
الهجوم الصهيوني على القنصلية الإيرانية بدمشق كان بإيعاز من الحكومة الصهيونية اليمينية المتطرفة بقيادة نتنياهو والتي تضم وزراء متطرفون يمثلون أحزابا صهيونية دينية على غرار وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير عن حزب الجبهة الوطنية اليهودية، ووزير المالية بتسلئيل سموتريش عن حزب البيت اليهودي. الرّد الإيراني على الهجوم الإسرائيلي جاء هو الآخر للحفاظ على التوازنات داخل النظام وليلبي على الخصوص رغبات النخبة المتطرفة في السلطة الإيرانية والتي يمثلها بقوة الحرس الثوري الإيراني بقيادة حسين سلامي، وهو أحد فروع القوات المسلحة الإيرانية المكلف بحماية الثورة الإيرانية الإسلامية في الداخل والخارج وله دور أيضا في تصديرها إلى الخارج، وهو المسؤول عن مساندة الأذرع الشيعية بكل من لبنان واليمن والعراق وسوريا، ومساندة حركة حماس والجهاد الإسلامي بقطاع غزة.
هل ترد إسرائيل من جديد على الهجمة الإيرانية؟ أم تكتفي بالقول أن إسرائيل نجحت بفضل القبة الحديدية في تحطيم كل الطائرات المسيّرة والصواريخ التي أطلقتها إيران قبل وصول أغلبها الأراضي الإسرائيلية. المتطرفون في الحكومة الصهيونية يسعون جاهدين للتأثير على مجلس الحرب لضرب الأراضي الإيرانية، وربما حتى استغلال الفرصة لضرب المفاعل النووية بإيران، وهو ما قد يدفع إلى إشعال المنطقة بدخول الجمهورية الإسلامية الحرب بقوة بمعية أذرعها المختلفة التي لم تستعمل كل قدراتها العسكرية على غرار حزب الله اللبناني الذي يحتوي على آلاف الصواريخ حسب التسريبات الاستخباراتية.
أكيد الرئيس الأمريكي جو بايدن لا يريد إنهاء عهدته الرئاسية بحرب شاملة بالشرق الأوسط الأمر الذي يستغله سياسيا وانتخابيا الرئيس المهزوم والعائد بقوة، المرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي صرّح على عادته “لو كنت بالبيت الأبيض لما حدث الهجوم الإيراني على إسرائيل”. فهل يسمع نتنياهو لنصيحة بايدن؟ أم أنّ مصيره هو الآخر بيد المتطرفين في حكومته؟
4- إيران وحيدة في مواجهة الأحادية القطبية
تعتبر الهجمة الإيرانية على الكيان الصهيوني أول حرب كلاسيكية بين البلدين رغم غياب الحدود بينهما. تبلغ المسافة بين طهران وتل أبيب 1917 كلم برا، وتفصل بينهما دولتان عربيتان هما الأردن والعراق، وهذا ما أدّى بسقوط الكثير من الصواريخ والطائرات المسيرة بالأراضي العراقية والأردنية. وبخلاف أذرعها الشيعية بالبلدان العربية السابقة الذكر، لم يساند إيران في ضربته أي بلد عربي أو أعجمي رغم علاقته الإستراتيجية مع الاتحاد الروسي والصين الشعبية. فيما وجدت إسرائيل كل الدعم العسكري والدبلوماسي والسياسي من قبل الدول الغربية خاصة أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.
لقد أثبت هذه الضربة العسكرية الإيرانية ضد الكيان الصهيوني أن مسألة زوال الأحادية القطبية لصالح الثنائية القطبية (أمريكا-روسيا) أو لصالح تعدد الأقطاب (الغرب-روسيا-الصين-الهند) لم تنضج بعد، ولم تصل مستوى التحالف العسكري كما هو عليه حلف الناتو الذي يزداد قوة وتمددا. نذكر أنّ إيران دعمت روسيا عسكريا في حربها مع أوكرانيا وذلك بتزويد الجيش الروسي بطائرات مسيّرة استعملتها روسيا في حربها ضد أوكرانيا. كما نذكر أن إيران انضمت مؤخرا إلى منظمة البريكس التي تبقى منظمة اقتصادية بحتة. فهل تلجأ روسيا إلى الدفاع عن إيران واستعمال دفاعها الجوي لإسقاط الطائرات الإسرائيلية في حالة الهجوم الصهيوني عليها كما فعلت أمريكا مع المسيرات والصواريخ الإيرانية؟ يبقى احتمال ضعيف، خاصة وأن روسيا منشغلة بحربها مع أوكرانيا ولا تريد هي الأخرى فتح جبهة جديدة لا فائدة يرجى منها من الناحية الإستراتيجية.
5- أين مكان العرب من هذه “المسرحية”
مباشرة بعد نجاح الثورة الإيرانية سعى أغلب العرب إلى الدخول في حرب استنزافية ضدها دامت تقريبا عقدا من الزمن وذلك بقيادة الرئيس العراقي صدام حسين وبتدعيم من دول الخليج ودول الغرب. وتحوّل الصراع العربي-الإيراني إلى صراع طائفي سني-شيعي استهلكت فيها أطنان من الكتب والحصص الدينية المتضاربة وتراشق في الكلام الفارغ بين الطرفين وإحياء صراعات الموتى الحقيقيين والأسطوريين.
وإذا كان للعرب كل الحق للدفاع عن أمنهم القومي من التوسع الإيراني الذي سعى منذ نجاح الثورة إلى تصديرها، فإنّ اللوم يقع عليهم باللجوء إلى الحماية الأمريكية عن طريق إرساء القواعد العسكرية بكل دول الخليج وبعض دول الشام في التسعينات خاصة بعد احتلال العراق للكويت حيث أمسى الخوف من محورين هما إيران والعراق. الدرس الإيراني حتى وإن كان “مسرحية” كما تدعي بعض نخب العرب، يكمن في الاعتماد على النفس والسعي إلى خلق صناعة عسكرية محلية رغم الحصار المضروب عليها من قبل الدول الغربية، ناهيك عن محاولتها الجريئة لصنع القنبلة النووية وهو ما أخاف أكثر ليس فقط الدول العربية، ولكن أيضا الدولة الصهيونية.
محمد سعيد بوسعدية: كاتب وباحث