أقلامالأولى

اغتيال ياسر عرفات من جديد.. محاسبات!!

صالح عوض

في جو الهزيمة تتبدل المفاهيم، وتستبدل القيم، يصبح الوعي دربا للانتحار، والوطنية طيشا، و الكرامة مقامرة، والرجولة تهورا، والمقاومة ارهابا.. وفي جو الهزيمة تكون الطأطأة للطغاة والاستعمار سياسة، وتصبح الدونية انفتاحا وسلوكا حضاريا..

أجل أننا نواجه اخطر توابع الهزيمة العسكرية انحدارا في ابسط ما يجب ان يتمسك به الأشخاص فنصبح كفرة بأمجادنا وطاعنين لمواقف العز.. اخطر توابع الهزيمة ان لا نعتصم بالوفاء لتلك اللحظات الرائعة التي تجلت فيها أرواحنا إقداما و عزة.

اجل انها مرحلة الفرز العميق لكي لا يبقى في الوادي الا حجاره، أخطاء ياسر عرفات الاستراتيجية وقوفه ضد العدوان الأمريكي على العراق و رفضه إهانة شعبه ومقدساته وقيادته الانتفاضة و جمعه للصف الوطني ورفضه الاستسلام.. يريدون قتله مرة ثانية ولكنها أقسى من الأولى فالأولى كان فيها شهيدا اما الان فيريدون ان يجعلوا منه مخطئا جر على شعبه الويلات.

الأخطاء الاستراتيجية:

منذ إنطقت الثورة الفلسطينية المعاصرة كانت في حسابات البعض خطأ استراتيجيا لأنها هددت مشاريع أيديولوجية كبيرة في المنطقة فلقد هددت المشروع الناصري والبعثي واليساري.. ولهذا هاجمها الناصريون بعنف واتهموها انها حركة إخوانجية وحليف للسانتو وظلت مطاردة من قبل نظام عبدالناصر منذ بداية تشكلها حتى نكبة 1967 أما البعث وحزبه ودوله فلقد ناصبت الثورة الفلسطينية العداء منذ انطلاقتها ولقد تم اعتقال ياسر عرفات وتم اعتقال قيادات تنظيم فتح بالجملة ولم ينج من ذلك الا ام جهاد الوزير وذلك لان السفارة الجزائرية منحتها جواز سفر جزائري وأبلغت السفارة الجزائرية السوريين ان أي مس بالسيدة ام جهاد سيعتبر مسا برعية جزائرية.. أما اليسار العربي فلم يتردد في كيل المصطلحات الشعاراتية ضد الثورة الفلسطينية على اعتبار انها يمين رجعي.. وأسرعت الأنظمة العربية بتشكيل أذرع أمنية لها ودفعت بها في الساحة الفلسطينية فكان للبعث السوري منظمة الصاعقة وكان للبعث العراقي جبهة التحرير العربية ومن الغني عن القول ان مرجعية هذين الفصيلين كانت دمشق وبغداد.. 

كانت الثورة الفلسطينية خطأ استراتيجيا في نظر النظام العربي لأنها ستمثل حالة من التوتر وعدم الاستقرار الذي لا يمكن تحصيلهما الا في ظل موادعة العدو والهدنة معه.. ومن هنا كانت المؤامرة على الثورة الفلسطينية لإخراجها من الأردن.. ولجوئها الى لبنان وهنا تدخل الثورة عش الدبابير حيث يرى فيها الطائفيون خطرا حقيقيا على توزع البلد على محاصصاتهم بمعيار طائفي فيما هي توجهت مباشرة لإنشاء مناخ ثقافي وسياسي نضالي يحدث التمايز على اعتبارات جديدة عنوانها اما مع فلسطين أو مع المشروع الصهيوني والاستعماري.

وجدت الثورة الفلسطينية نفسها وجها لوجه تصطدم بواقع معقد من اتفاقيات سايكس بيكو وأنظمة حارسة وحامية لها و موغلة في العلاقات مع الاستعمار بتبعية أمنية وسياسية واقتصادية.. وعواصم عربية تسيرها سفارات أجنبية.. فخاضت حربا خلال 15 سنة استطاعت ان تحيي روح المقاومة وتفرض الشعب الفلسطيني في خريطة المنطقة السياسية.. إلا ان المؤامرات استمرت بشكل متصاعد بالذات بعد خروج مصر من المواجهة المسلحة بموجب اتفاقيات كامبديفد فكان الهجوم تلو الهجوم على قواعد الثورة الفلسطينية في ظل حرب أهلية فجرتها القوى الانعزالية بلبنان وصولا الى إخراج الثورة الفلسطينية من لبنان بمعنى خروجها من محيط فلسطين تماما وذلك بتشارك صهيوني وعربي رسمي.. 

الثورة الإيرانية:

ولقد عجل وقوف الثورة الفلسطينية مع الثورة الإيرانية من وتيرة الهجوم الاستعماري ضد الثورة الفلسطينية.. فلقد كان واضحا للعيان ان الثورة الفلسطينية تحكمها علاقات مع قوى المعارضة الإيرانية لاسيما الإمام الخميني فلما كان فلي العراق وعلى مدار سنوات عدة استقبلت الثوار الإيرانيين واحتفت بقياداتهم وبشهدائهم كما تبنى ياسر عرفات حفلا تأبينيا في بيروت بمناسبة استشهاد المفكر الإيراني الثوري علي شريعتي ودربتهم وتقاسمت معهم رغيف الخبز وطلقات الرصاص.. وقد راهنت الثورة الفلسطينية على الثورة الايرانية رهانا كبيرا افقدها تعاطف دول الخليج بل ومعظم الدول العربية..

كان هذا خطأ وخطرا استراتيجيا كبيرا ارتكبته الثورة الفلسطينية في عرف الاستعماريين وأعوانهم في المنطقة.. ولكن الثورة الفلسطينية كانت تسير فاتحة أعينها ولا تتبنى موقفا مجمدا متحجرا فهي باستمرار مع الموقف الواضح الناجح الناضج.. وهذا ما جعلها بسرعة تتخذ موقفا واضحا لا لبس فيه أنها ضد الهجوم العراقي على إيران ولكنها مباشرة دعت الى التصالح ووقف النار وبذلت جهدا كبيرا.. فهي لم تكن ضد إيران او ضد العراق إنما ضد الحرب مدركة ان أي خسارة في أي طرف من الطرفين انما هو خسارة للقضية الفلسطينية.. ولم تقبل الثورة الايرانية ولا النظام العراقي من الفلسطينيين هذا الموقف.

  اجتياح الكويت: 

لعل هذه المسألة استغلت من قبل خصوم عرفات أو الجهلة أو الدعاية المعادية للطعن في ياسر عرفات والتحريض عليه بشكل واسع..  وهنا لابد من إيضاح الموقف دفعة واحدة لكي لايبقى لجاهل او خصم حجة..

ياسر عرفات تحكمه علاقات عميقة هو وحركة فتح بالكويت.. فالكويت هي البلد العربي الذي كانت تسكنه قيادة فتح على مدار الخمسينات والستينات وقد تلقت فتح من الكويت كل دعم ولقد انخرط في صفوفها كويتيون بل لقد انخرط في صفوفها أمراء من الأسرة الحاكمة.. فالكويت تميزت في الستينات والسبعينات بدعم غير محدود للثورة الفلسطينية أي لحركة فتح وقياداتها.. وكانت العلاقة بين فتح كما أسلفنا والتيارات الأيديولوجية باستمرار في حالة نفور وتوتر.. ولعل التنافر بين نظام صدام حسين وحركة فتح تجلى في تبني النظام العراقي انشقاقات عن فتح على رأسها انشقاق صبري البنا ابو نضال.. وظلت العلاقة هكذا كما هي مع كل النظام العربي الأيديولوجي.. 

لم يكن اجتياح الجيش العراقي للكويت الا عملا بشعا وغير مقبول لدى قيادة فتح التي ادركت لوعلى رأسها ياسر عرفات ان مرحلة خطيرة ستعيشها الأمة.. لكن في مواجهة الفاجعة تحركت القيادة الفلسطينية وصاغت مبادرة عربية بالاشتراك مع الأردن مفادها انسحاب عراقي من الكويت واستعداد لحل المشكلات العالقة بما فيها حقل الرميلة العراقي والديون المتراكمة على العراق.. الا ان موقف حسني مبارك افشل الجهود التي كانت تعمل على توفير شروط الحل العربي وفي مذكرات جورج بوش وفي روايات عديدة عن مؤتمر القمة المنعقد في القاهرة  تتم دعوة الأمريكان والأوربيين للتدخل العسكري وعقب هذا المؤتمر تم تجييش جيوش عربية في مقدمتها الجيش المصري والجيش السوري مع القوى الأجنبية في “حفر الباطن” جنبا لجنب لمحاربة العراق وهذا ما رفضه عرفات وبعض الدول العربية كالجزائر وليبيا واليمن ودول أخرى.. من هنا اعتبر الخصوم والجهلة خطوة عرفات بمثابة انحياز ضد الكويت وروجوا للدعاية لإيجاد قطيعة شعبية ورسمية نحو القضية الفلسطينية.

من أهم مسلمات الخط السياسي لياسر عرفات انه يقف في الخندق المضاد للاستعمار في المنطقة وانه عدو لسايكس بيكو.. فعندما جاءت القوات المدججة بالسلاح تدمر العراق وبنيته التحتية وتقتل ملايين العراقيين ما كان من عرفات الا ان يعلن موقفه المساند للعراق.. وهذا لا يمكن بحال من الأحوال اعتباره دعما لموقف صدام حسين في المسألة الكويتية أبدا.

الانتفاضة الثانية: 

بعد مفاوضات كامبديفد الفاشلة أصبح واضحا ان القيادة الأمريكية اتخذت قرارها بإخراج ياسر من الخريطة ولقد قيم الأمريكان و الصهاينة شخصية عرفات بأنه رجل لا يحمل مشروعا للتسوية وإنما لديه فقط مشروع للصراع كما قال شلومو بن عامي وزير خارجية الكيان الصهيوني و”دنيس روس” المبعوث الأمريكي للمنطقة.. كان المطلوب من عرفات التنازل عن عناصر القضية الفلسطينية ممثلة في اللاجئين والقدس.. لم يذهب عرفات الى منتجع كامبديفد الا بعد ان اتصل بكل القوى الفلسطينية واتفق الجميع ان لا توقيع على سلام يلغي حقوق الشعب الفلسطيني في العودة والقدس.. 

عاد ياسر عرفات من كابديفد وقد أصبح واضحا ان هناك حصارا خانقا على الموقف الفلسطيني من طرف أمريكا والدول العربية التي تسير في فلكها بل ومن دول عربية تخشى الاقتراب من الملف الفلسطيني.. 

قامت السلطات الصهيونية بالتصعيد باقتحام الأقصى بقيادة شارون وانفجرت المظاهرات الفلسطينية وتصدت القوات الصهيونية بالرصاص الحي للمتظاهرين العزل من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية و ارتقى عشرات ومئات الشهداء في مواجهات واسعة مع قوات الاحتلال.. هنا طلب عرفات من الشرطة وقوات الأمن الفلسطينية بحماية أبناء الشعب من رصاص العدو.. كان هذا هو الخطأ الاستراتيجي في عرف الكيان الصهيوني وفي عرف الجهلة والخصوم 

ولعل موقف ياسر عرفات بعد فشل مفاوضات كامبديفد يفسر تماما جوهر موقفه من اتفاقية اوسلو..  فلم يخف الرئيس الفلسطيني موقفه من اتفاقية اوسلو على اعتبار أنها: ” همّ وزفت مزفت” وطالما تكلم في جلساته الخاصة والعامة ان له على اتفاقية اوسلو مئات الملاحظات ولكنه كان يحاول بكل قوة فرض وقائع جديدة على الأرض منها إدخال عشرات آلاف الفلسطينيين من الشتات منهم كفاءات سياسية وعسكرية تم حقنها في شريان الفعل الشعبي في قطاع غزة والضفة الغربية.

كان التفسير الفلسطيني لاتفاقية اوسلو يعني بوضوح أن ينتزع الفلسطينيون أرضهم وعناصر القوة في سلطة بدأت تبسط وجودها على رقعة من الأرض وان يكون الوجود الفلسطيني الجديد عنصر قوة إضافي للمفاوض الفلسطيني.. 

موقف الرئيس عرفات في قيادة الانتفاضة الثانية عمل سياسي بامتياز بالإضافة إلى انه موقف مبدئي.. فماذا كنا نتوقع ان يفعل ياسر عرفات هل يرسل جنوده لقمع الانتفاضة واعتقال المقاومين؟ ام ان يجلس القرفصاء وقد ألقت به السياسة الأمريكية خارج المربع؟

أما ان يقال عنه انه إرهابي ومارس ممارسات إرهابية فذلك يعني بوضوح عدم الإيمان بالقضية الفلسطينية على اعتبار انها حالة  حركة تحرر وطني يحق ها بموجب القانون الدولي استخدام كل الأدوات الملائمة في المقاومة لتقرير مصير الشعب الفلسطيني.. ثم الا يكفي اكثر من 17 سنة بعد موت عرفات وانتهاج سبيل المفاوضات واعتقال المقاومين والمحرضين على المقاومة لاكتشاف ان نهج المفاوضات العبثية أوصلتنا الى ما نحن فيه من هوان.

ان موقف ياسر عرفات في السنوات الثلاثة الاخيرة من عمره كان فرصة عظيمة لتصحيح المسار والخروج من عبث اوسلو وعبث التسوية المفروضة على الشعب الفلسطيني.. لقد كانت فرصة كبيرة لياسر عرفات ان يكون كما هو على حقيقته زعيم ثورة ورجلا مناضلا الى اخر نفس.

ماذا يريدون؟:

عندما نتابع انتقادات أولئك الذين يفاجئونا بنقدهم لياسر عرفات لا نستبعد أن للرجل أخطاؤه ولكن ليس تلك التي تمس رؤيته ووضوحها و كفاحه و قدرته على الخلص من الضغوط.. فياسر عرفات ناور وسايس وراهن و خادع لكي يخرج بشعبه من المؤامرات الخطيرة.. سكت عن أشرار و صاحب فسقة ولاعب الشيطان لكي يتجنب السقوط بشعبه.. ولكنه عندما رأى أن كل شيء أصبح مكشوفا كما قال شلومو بن عامي: ” لقد كان صدر ياسر عرفات قلب صلاح الدين الأيوبي”. وكما قال دنيس روس:” ان عرفات كان يعرف في كامب ديفد أنه وحيد وليس معه أحد في الوفود التي تتفاوض ولكنه كان مفاجئا ويتمتع بروح معنوية قاهرة”.

ماذا يريد اذن هؤلاء المشوشون والمهيجون ضد ياسر عرفات؟ انه بوضوح يريدون إدانة مقاومة الشعب الفلسطيني و جعل التسوية المبنية على التفاوض ثم التفاوض سبيلا أوحدا.. ان اتهام ياسر عرفات بالإرهاب أو بأنه جلب للشعب الفلسطيني مآسي كتلك التي نشأت بعيد أزمة الكويت إنما يريدون بوضوح تمرير منطق الاحتلال وان مواجهته إرهاب مدان وتمرير مؤامرة الاستعماريين بضرورة تدمير بلداننا العربية واثارة الأزمات بينها ومنع أي قوة إقليمية من التدخل لإيقاف النزف الداخلي..

ياسر عرفات عنوان المقاومة والوحدة الوطنية والحضور السياسي الفلسطيني ورمز الكرامة الوطنية الفلسطينية.. هكذا كان عرفات الذي ملأ الدنيا دويا وضجيجا وأثار الانتباه لقضيته وكان الرقم الصعب في المنطقة.. لن ينال منه الجهلة والخصوم والأعداء بل هو حجة على الجميع بنضاله وفلسطينيته وكرامته وعزة الثائر في روحه.. ولن تزيد تهويشات المهوشين إلا أن تعيد من جديد شمسه في سماء فلسطين وعشق شعبه له مهما فعلوا والله غالب على امره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى