أقلام

الأحزاب السياسية في الجزائر: سجلات تجارية لا تدفع الضرائب لفظها الحراك؟

بقلم: أ.د. نورالدين حاروش

كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية

جامعة الجزائر3

harrouche.noureddine@univ-alger3.dz

         في سنة 2012، وبمناسبة الإصلاحات السياسية التي بادرت بها الجزائر آنذاك )إصدار وتعديل العديد من القوانين لا سيما قانون الأحزاب السياسية والانتخابات والإعلام…،( كتبت مقالا حول الأحزاب السياسية في الجزائر بعنوان : “تفسير العجز الوظيفي للأحزاب في ظل الإصلاحات السياسية في الجزائر”  وهو منشور بمجلة البحوث  السياسية والإدارية، جامعة الجلفة، العدد الأول، ديسمبر 2012، واليوم وأكثر من أي وقت مضي يتجلى هذا العجز ويظهر للعيان، فلم تستطع هذه الأحزاب مجتمعة من تقديم البديل أو الرؤية المستقبلية للبلاد في خضم هذا التحول الذي من المفروض تكون الأحزاب السياسية وقادتها قاطرته. ولكن يبدو أن الفضاء الأزرق والعالم الافتراضي قضى نهائيا على التمثيلات الاجتماعية والسياسية التقليدية وحل محلها بدون هياكل مادية ولا أشخاص طبيعية بل عالم افتراضي يوحد ويجند ويشحذ الهمم ويرص الصفوف ويعلن عن التجمعات والمسيرات فتلتقي الأفواج من كل حدب وصوب وبأعداد غفيرة عجزت عن جمعها الأحزاب السياسية على مر سنوات إنشائها ولن تستطيع بلوغ ذلك حتى إعلان نهايتها وفنائها. فلم تستطع حتى المشاركة مع الجماهير في هذا الحراك ليس كأحزاب ولكن كأشخاص وأفراد، فما كان مصيرها إلا الرفض واللفظ والسب والشتم، وهو عقاب لهم على تقصيرهم وعجزهم وأنانيتهم؟؟

       كنت دائما أذكر الزملاء والطلبة بأنه لا يوجد في الجزائر أحزاب سياسية بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هناك أحزاب اجتماعية أنشئت بغرض الترقية الاجتماعية وليس بهدف سياسي كما هو متعارف عليه علميا وعالميا، كما أنها أحزاب موسمية تظهر بالمناسبات وتختفي لفترات، بل لنقل أنها سجلات تجارية لا تدفع الضرائب تحولت إلى دكاكين لتسويق التزكيات ودعم النخب الحاكمة والمستفيدة من الريع طمعا، حتى طبعت بالطمع  الذي افسد طبعها وطبيعتها؟

     هذه الأحزاب خلقت نخب انتهازية تقتات من موائد السلطة بعيدا عن الخط النضالي الذي اختطته لنفسها منذ البداية، ففشلت  في تعبئة وتأطير المواطنين والالتصاق بقضاياهم ومشاكلهم اليومية التي صارت تتدحرج ككرة الثلج لتتحول إلى قنابل موقوتة تهدد السلم الاجتماعي.

     هذه الكيانات تظهر في موسم الجني وتتخفى عن الأنظار حتى الموسم المقبل وقد تطول المدة لسنوات وسنوات لتعود تلك الوجوه القديمة في حلتها البالية وغير المرحب بها تتفوه بكلمات وعبارات مقززة فاقدة لكل المعاني السياسية،

      إن اللجوء إلى إنشاء الأحزاب السياسية يا سادة يعود بالدرجة الأولى إلى البحث عن حق المشاركة في الشؤون العامة وذلك عندما شعر المواطنون بعدم قدرتهم على اختراق جدار الحكومات اعتمادا على نشاطاتهم الفردية. فظهرت بذلك الأحزاب وتمحورت حولها الأفراد لتصبح قوة اجتماعية متحدة ذات معنى. ولعل ماكس فيبر من بين الذين أكدوا على الصلة الوطيدة بين نشأة الأحزاب وحق الأفراد في المشاركة في الشؤون العامة، فماذا فعلت الأحزاب السياسية في الجزائر؟ هل حملت على عاتقها هموم الشعب وحاولت اختراق جدار الحكومات المتعاقبة أم أنها شاركت مع هذه الحكومات ضد الشعب وانقلبت عليه؟

    لا شك أن أغلب الناس يعلمون بأن وظائف الأحزاب السياسية تشمل العديد من المجالات السياسية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية وغيرها، فمن كونها وسيط بين الرأي العام والسلطة إلى وظيفة التربية السياسية والاهتمام بمشاكل البلد ومحاولة إيجاد الحلول والتكفل ببعض المشاكل الاجتماعية، ناهيك عن الوظيفة الخاصة بالحزب في حد ذاته كنشر الدعاية له وجلب المنتسبين والمتعاطفين والمناضلين، أي تقوم بعملية التجنيد الحزبي ومنه اختيار الإطارات الحزبية التي تمثل الحزب وتطبق سياسته.

    لكن حقيقة الأمر تظهر أن الوظائف والأدوار التي تقوم بها الأحزاب السياسية تختلف من بيئة لأخرى، كما قد يكون للحزب بعض الوظائف الأخرى تعود لخصائص الحزب، كالحجم، والصفة التمثيلية والإيديولوجية والمشروع السياسي وغيرها. ومهما يكن فإن وظائفها تتمثل في  وظيفة التجنيد السياسي: أي عملية إسناد الأدوار السياسية لأفراد جدد..في شغل المناصب الرسمية كرئيس الوزراء أو الوزير أو المحافظ أو عضو برلمان أو موظف إداري .. وظيفة التعبئة: حشد الدعم والتأييد لسياسات النظام السياسي، وتلعب الأحزاب هنا دور الوسيط، كما أن  الأحزاب تعد كأطر للجدل السياسي وتكوين الرأي العام وتساهم في  تكوين الإرادة العامة،  تؤثر على الرأي العام وتوجهه وترشده، تدير حلقات النقاش والمجادلات وتوقظ الوعي السياسي، وتوضيح مشاكل الشعب وتبسيط أسبابها واقتراح الحلول…لها وظيفة البرنامجية من خلال إعداد برنامج يبين فيه مبادئه ونواياه ومقترحاته، إنه بمثابة عقد التزام بينه وبين الناخبين، ولو أنه من النادر الالتزام بهذا الالتزام…

    الأحزاب كأدوات للتكيف الاجتماعي والتكامل الوطني، بحيث يعمل الحزب على نمو أو زيادة الإحساس بالوحدة الوطنية، ويساهم في التنشئة السياسية و العمليات التنموية التي يكتسب من خلالها الفرد توجهات سياسية وأنماطا سلوكية، وأن  وجود الأحزاب وتعددها أمرا ضروريا لصياغة حرية الرأي والاجتماع والتعبير، إضافة إلى أنها تبين مدى القوة والقوى الموجودة في المجتمع…بالإضافة إلى المشاركة السياسية التقليدية  ومن أنشطتها  التصويت، وحضور الندوات والمؤتمرات والاجتماعات العامة والمشاركة في الحملات الانتخابية بالمال أو بالدعاية،

وأنشطة غير تقليدية منها القانونية كتقديم الشكاوي وغير القانونية مثل الاغتيال والثورة.

   كما يتجلى دور الأحزاب السياسية في مراقبة تصرفات الحكومة وأعمالها الأمر الذي يؤثر على السلطة ويمنعها من التجاوزات والفساد. كذلك  مراقبة الأحزاب لبعضها البعض.

     من الخصوصيات الجزائرية أن الأحزاب السياسية في الجزائر تكونت قبل قيام الدولة الوطنية، وبعد قيام الدولة الوطنية غابت أو غيبت الأحزاب عن الساحة السياسية فاسحة المجال للحزب الواحد، ومنه يمكن التساؤل: هل كثرة الأحزاب أو التعددية الحزبية تفرق الشعب وتشرذم قطاعه، وهل الحزب الواحد دليل وحدة هذا الشعب؟

    تطرق قانون الأحزاب السياسية في الجزائر  في مضمونه لاعتبار الحزب السياسي تجمع مواطنين يتقاسمون نفس الأفكار يهدفون للوصول بوسائل ديمقراطية وسلمية إلى ممارسة السلطة والمسؤوليات في قيادة الشؤون العمومية، لكن القانون سطر العديد من الشروط، قيد بها عمل ونشاط الحزب حتى لا تصبح هذه الأحزاب أداة تخريبية للمجتمع وحتى لا تكون أهداف الحزب متناقضة مع:

– القيم والمكونات الأساسية للهوية الوطنية

– لقيم مبادئ ثورة أول نوفمبر 1954

ـ للحريات السياسية

ـ بالإضافة إلى نبذ العنف والإكراه كوسيلة للتغيير و/أو العمل السياسي، واحترام الحريات الفردية والجماعية واحترام حقوق الإنسان…

     أما الأدوار الحقيقية للحزب السياسي ومهامه الذي أقرها قانون الأحزاب السياسية فتتمثل في المساهمة في تكوين الرأي العام والدعوة إلى ثقافة سياسية أصيلة وتشجيع المساهمة الفعلية للمواطنين في الحياة العامة وتكوين وتحضير النخب القادرة على تحمل مسؤوليات عامة واقتراح مترشحين للمجالس الشعبية المحلية والوطنية  والسهر على إقامة وتشجيع علاقات جوارية دائمة بين المواطن ومؤسساتها و العمل على ترقية الحياة السياسية وتهذيب ممارستها والعمل على تكريس الفعل الديمقراطي والتداول على السلطة وترقية الحقوق السياسية للمرأة، والعمل على ترقية حقوق الإنسان وقيم التسامح…

      لا تختلف هذه المهام والأدوار عن تلك المتعارف عليها علميا وعالميا، فأين الخلل يا ترى؟ ولما لا تقوم هذه الأحزاب بإعداد القيادات والكوادر القادرة على تقلد حتى منصب الرئيس؟ ألسنا الآن في مأزق حقيقي؟

     السلطات العمومية في الجزائر ومن خلال هذا القانون بإمكانها استشارة الأحزاب السياسية في المسائل ذات المصلحة الوطنية، وعليه يمكننا القول بأنه من الناحية القانونية فإن الحزب السياسي شريك وفاعل ومؤثر في الحياة السياسية وقائد للإصلاحات والتغيير إلا إذا أبى؟

    بالمقابل تعيش الأحزاب السياسية في عجز ها الوظيفي وقصورها المزمن، والذي من أسبابه نجد: 

     بداية يجب التذكير بسهولة تشكيل الأحزاب السياسية والتي لا يتطلب سوى 15 فردا، لكن هذه الأحزاب معرضة للزوال والموت بسهولة كذلك سواء من طرف المواطنين عن طريق الانتخابات أو عن طريق النسبة المئوية التي تدخل الأحزاب الحجر السياسي، عجزها يتجلى في رعاية المصالح الشخصية والفئوية و بث البلبلة والشقاق والتفرقة بين أفراد المجتمع الواحد  واعتماد على الأشخاص أو الاعتماد على مبدأ الشخصنة في نشأة الأحزاب السياسية و غياب البرامج وسداجتها والمبالغة في التعميم وعدم واقعيتها و هشاشة الأفكار وعدم استجابتها للواقع الجزائري، مع  بروز ظاهرة الانشقاقات  في صفوف الأحزاب بسبب صراع الزعامة و انحراف بعض الأحزاب عن مهامها التي أنشئت من أجلها مثل معارضة المعارضة عوض معارضة السلطة و الافتقار إلى التقاليد الديمقراطية جعل من بعض الأحزاب أنها تعادي الديمقراطية التي أوجدتها  و غياب الأخلاق السياسية في أدبيات الخطاب حتى أصبحت هذه الأحزاب معول تهديم النظام والمجتمع برمته.  ومعظم الأحزاب من صنع السلطة والباقي مؤيد لها.

     وبالمقابل هناك بعض الأسباب التي تخرج عن إرادة الأحزاب وهي البيئة التي يعيش فيها الحزب ويحاول تأدية مهامه، إنها البيئة السياسية بالدرجة الأولى المتمثلة في القطيعة الحاصلة بين الدولة أو النظام السياسي، وبين منظمات المجتمع المدني الفاعلة وغير المدجنة،

     لم تقدم الأحزاب السياسية برامج بديلة من شأنها تجاوز المرحلة التي تعيشها البلاد وإحداث طفرة نوعية في التنمية والرقي، وكل ما قامت وتقوم به هو وضع أو صياغة أو استعارة برامج انتخابية لاستمالة الناخبين،

     إن المفارقة الغريبة تكمن في: كيف استطعنا أن نفهم ونعي ونقبل تعريف الديمقراطية والتعددية الحزبية، ونعجز عن تطبيقها؟ أليس هذا تعاطيا إنفصاميا مع مسألة الديمقراطية من حيث النظرية والممارسة ومن حيث البناء والتكديس على حد قول مالك بن نبي؟؟

     الأحزاب السياسية مدعوة اليوم للقيام بمهامها ولعب أدوارها المحددة لوجودها وعلى السلطة الالتزام بالقانون، وذلك من خلال :

الكف عن تدخل السلطة في شؤون الأحزاب الداخلية ، وتجاوز الانقسامات والانشقاقات الداخلية وتجسيد الديمقراطية من خلال التداول الداخلي في هرمها القيادي ، مع استمرارية العمل الحزبي على مدار السنة حتى لا تصبح أحزاب موسمية ، و إعداد برامج، بما أن الموارد المادية والبشرية متوفرة، تكون واقعية وواضحة المعالم بإمكانها تحقيق التنمية. و رعاية المصالح العامة بدل الشخصية والفئوية، والنظر والتحرك في الإطار الوطني.  

جمع الشمل ومحاربة الشقاق والتفرقة بين أفراد المجتمع الواحد ومحاولة العيش مع الاختلاف  والاستعداد لإنتاج  الاختلاف حتى يتم تكريسه ويصبح ضمن ثقافة الأحزاب، والاعتماد على الأفكار والبرامج لا على الأشخاص مع التركيز على الأفكار التي تستجيب للواقع الجزائري وإيلاء الأهمية القصوى لبيئة المجتمع والفرد الجزائري،

التحلي بالأخلاق السياسية في أدبيات الخطاب حتى لا تصبح هذه الأحزاب معول تهديم النظام والمجتمع ، بل يجب أن تكون أداة للبناء والتطور.

     يمكن للأحزاب السياسية أن تكون طرفا فاعلا ومؤئرا في عملية الإصلاحات السياسية إذ وفقط إذا لعبت الدور المنوط بها وفق ما يمليه القانون والأعراف الديمقراطية…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى