في جميع الأديان نجد أن بعض الطقوس الشعائرية يمتزج فيها ما هو تعبدي مع ما هو اقتصادي بشكل يصعب فيها التمييز بينهما ومن خلال ذلك فإن الخوض في تفكيك هذه الظاهرة للكشف عن طبيعة هذا التداخل لتعيين حدود ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي أمر قد يكون مجلبة لسوء الفهم لكن تحول هذه الشعائر التعبدية مع الوقت ومن خلال الممارسة إلى نشاط اقتصادي. ومتطلباتها إلى سلع مادية يمكن بيعها وابتياعها في السوق أي نشاط تجاري فإنه بذلك قد تحولت الشعيرة التعبدية الروحية إلى بضاعة يسري عليها قانون العرض والطلب ومختلف أساليب الاحتيال والاحتكار وما إلى ذلك من العلاقات التجارية.
وتاريخيا نجد مثل هذا التحول في جميع الأديان.. بل إن من المظاهر الانحرافية التي ندد بها الأنبياء والرسل المتتابعون في دعواهم إلى رسالاتهم وهي الاستغلال البشع الذي كان يمارسه القائمين على تطبيق الطقوس الدينية للعاطفة والمشاعر الدينية للمؤمنين في أخذ أموالهم بالباطل.. إلى درجة أن العبادة كانت تؤدى من خلال ما يدفع من قرابين وأموال..
ومن أقدم الأديان التي تم فبها هذا التداخل الفظيع الديانة اليهودية التي بنيت على وصايا عشر واضحات وجلية نزلت مكتوبة في ألواح موسى ولكن مع التقعيد أي وضع القواعد التفصيلية والتطبيقية لهذه النصوص من طرف الحاخامات المحتكرين وحدهم لتفسير النص وكيفية تطبيقه لم يغفل هؤلاء على استغلال مشاعر أصحاب الخطايا والتائبين والطالبين للغفران ومحو الذنوب أن بكون من الأفضل تقديم القرابين إلى المشرفين على المذبح المقدس وأيضا تكرار الحج إلى أماكن معينة اكتسبت تقديسها ليس بأمر إلهي وإنما نتيجة ادعاء تتبع خطوات معينة للأنبياء والحاخامات والأحبار المقدسين. ويتبع ذلك مجموع نشاطات تجاربه كلها تصب، في مصلحة المتحكمين في الشأن ديني نص وتفسير وتطبيق.. فكان ربِّي الكنيس يبيع القربان ويشرف على أخذه في المعبد المقدس….
وأيضا في الدين المسيحي التاريخي رغم أن الرهبان كان يرفعون شعارا (ما لقيصر لقيصر من شأن سياسي وملك وما هو لله لله) فإنهم لم يتوانوا أبدا أن يتحولوا مع الوقت إلى ملوك وإقطاعيين في كنائسهم يمتلكون إقطاعات كثيرة ومن أفضل الأراضي الزراعية ومن نفائس الذهب والكنوز التي قدمها المذنبون التائهون الخائفون كهبات وصدقات لشراء رضى الرب ولغفران الخطايا والذنوب التي لا يتم الأمن خلالهم وباعوهم مقابل التنازل عن أملاكهم وأموالهم حتى صكوك الغفران، ورغم أن النبي عيسى عليه المبشر من بين ما كان يعيبه على القائمين على الشريعة اليهودية هو تحولهم إلى مكتنزي للذهب والفضة وتحوير دين السماء إلى مجرد سلسلة من الطقوس جوهرها ممارسة تجارية يبيعون فيها آي الله للحصول والسيطرة على أموال الناس بالباطل والتحريف..
لا شك أن لكل دين مجموعة فرائض مرتبطة بالحياة المادية للإنسان، ولكن هذه الفرائض شرعت للحفاظ على الفقراء والمساكين، كحق شرعي لهم في أموال الأغنياء ولذلك شرعت الزكاة. في الشريعة الإسلامية وسنت مجموعة من الواجبات الدينية كالصدقات، والهبات والمطهرات التي يتم من خلالها إيجاد طرق لإعانة الفقير والمحتاج والمعوز وابن سبيل وكل معروف يتم من خلال الإطعام أو التصدق بالمال على ما يشبه النماذج المذكورة بل إن القرآن يحث في كثير من الآيات أن إطعام كل ذي مسغبة، أو يتيم ذي متربة يعد من أفضل العبادات التي يمكن التقرب بها إلى الله، وإن من أفضلهم الذين يطعمون الطعام على حبه له لا يريدون بها إلا رضى الله ولا يبغون جزاء ولا شكورا.
لقد حبب الرسول صلى الله عليه وسلم الناس في التصدق والكرم والعطاء والبذل إلى درجة كبيرة، فكان يعتبره أن مثل هذا المعروف من أفضل الأعمال وأوصى بكثير من الفضائل، وجعلها من علامات الإيمان، لأنه ليس مؤمنا من بات شبعان وجاره جائع ولذلك حثت الشريعة على كل طرق التكافل والتضامن بين المسلمين خاصة، والبشر عامة.
على هذا الأساس أرست الشريعة الإسلامية قواعد أخلاقية للممارسة الاقتصادية في جميع أشكالها، فوضعت. مجموعة من المبادئ تتحكم فيكل نشاط اقتصادي بداية من العمل كجهد أساسي لحصول المنافع الاقتصادية فحثت على وجوب إتيان الأجير حقه قبل أن يجف عرقه. وعلي وجوب الحفاظ على العهود بين الأجير والمؤجر كما حثت على وجوب الإتقان وعدم الغش في العمل والإنتاج كما أن الشريعة لم تغفل أخلقه النشاط التجاري. وكتب الفقه تزخر بقواعد البيوع والشراء. وأخلاق السوق التي يحب أن تكون، فمنعت وحرمت كل أنواع الاحتكار والاستغلال وشرح الفقهاء بإسهاب، مختلف البيوع الفاسدة والمحرمة وخاصة الطفيف في الميزان التي تعد من أهم العلاقات التجارية في الأسواق وقد أنزل الله من أجل هذه العلاقة المهمة في التعامل، سورة كاملة بين فيها خطر انعدام العدل في البيع والشراء بحيث يقول الله تعالى: (ويل للمطففين الذين إذا كإتالو على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرونهم ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين……)
بوجوب أن يكون ولي الأمر هو المسؤول عن متابعة النشاط الاقتصادي والحرص على أن تقام على هذه القواعد الأخلاقية بقوة السلطان… حتى يتم النشاط التجاري في جو من الوضوح والشفافية وفق ميزان العدل والضوابط التجارية الحقيقية لا مجال فيها للظلم والتظالم بالاحتكار وأخذ أموال الناس بالباطل والغش والتزييف،والمضاربة.
لقد لاحظ كل جزائري ذهب إلى سوق الماشية لاقتناء أضحية العيد الغلاء الفاحش والمتوحش الذي كانت عليه البضاعة المعروضة فوجد المواطن نفسه الذي تدفعه عاطفته الدينية وأعرافه الاجتماعية على وجوب إحياء هذه الشعيرة مضطرا، إلى دفع كل مرتبه ومدخراته من أجل ذلك، ورغم التأفف والتشكي من أن الوضع غير سليم، وغير عادل، فإن السيطرة للمضاربين الموالين تكللت بأنهم استطاعوا أن يتحكموا في قانون العرض والطلب ويخضعونه لشروطهم في البيع والشراء، إلى درجة شعر فيها المواطن بغبن كبير وخضع خضوعا تاما لمنطق الموالين في السوق وأصبح العابد زعما كما هو شايع، الباحث عن أضحية هو الضحية تتقاذفه أطماع تجار الماشية ومبررات منتجي هذه البضاعة أن الغلاء سببه السنة الجافة، وغلاء الأعلاف وندرتها مع أن الهيئة الرسمية هي الموزع الوحيد لها وبأسعار معقولة ومناسبة…. ولكن المتتبع والمتأمل في الظاهرة يجد أنه مع كل مناسبة دينية أو احتفال ديني كرمضان والأعياد والاحتفال بالمولد النبوي تزداد هذه الظاهرة صحيحا قد يكون الأمر مرتبطا بازدياد الطلب على العرض الموجود، رغم تنظيم وتخطيط الهيئات الرسمية لمثل هذه المناسبات فأنا نجد تؤشر الغلاء يزداد مع كل سنة جديدة…
ما الحل؟ حتى لا يتحول المضحي الى ضحية استغلالا من طرف محترفي التجارة واسواق الماشية للعواطف الدينية الجياشة والضغوط الاجتماعية والحياتية كل سنة الى اخذ امواله بدون عدالة بميزان الحق والسوق ..من الناحية الشرعية فان الشريعة الاسلامية لم تضع ابدا تكاليف شرعية تتجاوز طاقة الانسان وقدرته ذلك أن مناط المسؤولية شرعا هو القدرة والاستطاعة ولذاك حتى الفرائض الأساسية التي تعتبر ركن من اركان الاسلام كالصوم والحج منوطة بالقدرة على ادائها فلا صوم الا بشرط السلامة ولاحج الا بالقدرة المالية والجسمية لذلك سقط كل منهما على المريض ومن لا يملك السبيل والوسيلة فما بالك في ما هو اقل من ذلك من حيث وجوبه وفرضيته ..وهذا عمل القائمين على الشأن الديني بحيث يجب ان يبينوا للناس أولويات يمكن تفريق فبها بين ما هو تعبدي وروحاني ،وما هو مجرد عرف اجتماعي يرتدي لباس الروحانية ذلك أننا نلاحظ أن هناك دوما استغلال غير انساني من طرف الأسواق لأموال الناس وأن بسحب مختلف العضات عمل ميداني في الواقع .
أما من الناحية القانونية يجب على هيئات المتابعة والمراقبة للأسواق والتي تملك سلطة التخطيط والقرار التجاري ان لا تترك كل من هب ودب يكون في هذه المناسبات تاجر وموال بحيث تحول كل الناس في مدة أسبوعين إلى تجار ماشية صغار وكبار شباب وكهول موظفين وبطالين إلى درجة لم يحتج الأمر إلا ارتداء قشابة أو معطف أزرق طويل وعصى طويلة فيشتري ما يشاء من خراف ونعاج ويبيع ما يشاء من عدد في أي مكان أراد وفي أي وقت أراد.. ولذلك على القائمين تنظيم قانوني لذلك حتى يكون الأمر على بينة….
ان المجتمعات دون توجيه وتخطيط ستسير حياتها الفوضى والارتجالية ولمناسبتيه لا تحقق النظام والاستقرار ذلك إن الله جعل السلطان القوي أساس استمرار الحياة. حتى في إقامة أمر دينه وكما يقال إن الله ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن.
سراي مسعود