أقلامالأولى

الإشاعة في الأزمات ومنظومة القيم

بقلم د.بوعمامة العربي /أستاذ محاضر في الاتصال والإعلام

تابعت باهتمام بالغ مؤخرا على قنوات الإعلام الوطني نقاشا هاما وإن تأخر حول موضوع “الإشاعة ” وتأثيراتها على العملية الاتصالية والإعلامية بمختلف تمظهراتها وأشكالها المتعددة ولفت انتباهي أن الطرح “القيمي والأخلاقي ” في بحوث الإعلام ودوره الفعال تنظيرا وفي حال إسقاطه على طرائق العمل الإعلامي وتأطير الأداء هام للغاية في مواجهة “الإشاعة ” التي لايمكن اختزالها من وجهة نظري كباحث في علوم الاتصال والإعلام ومنسق لعدد من الملتقيات الأكاديمية التي نظمت حول الموضوع وإشكاليات ذات صلة بالاتصال في زاوية الاشتغال والهاجس الإعلامي بل أنها ظاهرة اجتماعية أيضا نمت في ظل سياقات يجب الانتباه إليها ترتبط بإيقاع وسائل الإعلام ثم المؤسسات والنمط الاتصالي والإعلامي السائد ضمن منظومة شاملة وانطلاقا من هذا المعطى يجب الانتباه إلى ما يؤكده الطرح القيمي والأخلاقي من مقاربات في غاية الأهمية في موضوع مواجهة “الإشاعة ” التي نلاحظ انتشارها مع الإيقاع الموجود مع وباء “الكورونا ” المستجد ومن أهم الأركان الأساسية لمواجهة الإشاعة وفق تنظير المختصين نشر ثقافة اليقظة في الأداء خاصة في فترات حدوث “الكوارث ” والصعوبات وفترات التحول الاجتماعي حيث يكون المناخ متاحا لانبعاث “الشائعات ” في أوقات الأزمات أما الركن الثاني وهو أساسي أيضا في السياق هو توافر المعلومات الصحيحة والموضوعية عن مختلف القضايا والموضوعات التي تكون محل اهتمام الناس وتبني أعلى درجات الشفافية من اجل اجتناب الغموض واللبس أما الركن الثالث هي التربية النفسية والبيداغوجية للأفراد وبعث التنور الأخلاقي والقيمي وذالك بتكوين الأفراد وبناء ثقافتهم على أسس عقلانية من اجل تجاوز الهدر الكلامي والتدبر في الأزمة وبناء الوعي الجمعي إزائها بشكل مؤطر ومنتظم .

ومن أبرز المسوغات المركزية التي تشرعن لنا العلاقة الدينامكية التي تربط وسائط الإعلام بالإشاعة اختراق الإعلام للنسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمعات وتماهيه مع جل النشاطات الإنسانية بالتوازي من التطور الذي طال التقنيات الإعلامية وتزايد اعتماد الأفراد على الوسائط الإعلامية في المجتمعات الحديثة حيث أنها المصدر الرئيسي لتزويدهم بالمعرفة وإمدادهم بالمعلومات والأخبار والمستجدات بكافة أشكالها وأنواعها وهي التي توفر النماذج السلوكية التي تعمل على توجيه مواقفهم وردود أفعالهم وتسير لهم سبل التفاعل الاجتماعي وتضطلع بوظائف التثقيف والتعليم .

ولم يكن للإشاعة أن تنتشر بهذه السرعة الفائقة وتسري في أنسجة المجتمعات المعاصرة ويتم تطبيعها وتحويلها إلى حالة “سوسيو ثقافية سائدة ومتغلغلة في تفاصيل الحياة الاجتماعية لولا تلك الطاقة التواصلية التي تتمتع بها وسائط الإعلام الكلاسيكية والحديثة في هذا المجال إذ عملت هذه الوسائط الإعلامية على تصنيع الإشاعة ونشرها وتعميمها على الصعيد المكونين بفعالية فائقة وقد خبرت المجتمعات الإنسانية على مر عصورها نسقيات إشاعية عديدة لكن ليس بالزخم الحالي والغير المسبوق خصوصا من حيث سرعة انتشار الإشاعة وتنوع المصادر وتباين الأشكال وكثافة الدلالة وتأثر الأفراد بها فلقد غذت الإشاعات سمة من السمات التي تميز التواصل الإعلامي ولم تعرف المجتمعات تحريفا للخبر والمصادر كما الذي حدث خلال العقود الأخيرة فأصبح التضليل والأخبار المغلوطة النسق الأكثر وجودا في مواقع التواصل الإعلامية ونلمس تناسقا للأداء الإعلامي مع منطلقات الأنظمة السياسية ومع أهداف ومرتكزات القوى المهمينة في المجتمع إذ أن وسائط الإعلام جزء من لعبة السيطرة والضبط الاجتماعي في كثير من الأحيان أضف إلى ذالك عوامل الجذب والإبهار والتقنيات البالغة الحداثة وجودة الصوت ونقاوة الصورة التي يتم توظيفها بالإضافة للأساليب المدروسة علميا والتي تعمل على ترسيخ صورة ايجابية في ذهنية المتلقي تمنعه من التشكيك في مصداقية كل ما يرد إليه من هذه الوسائط حيث تقدم وجهات نظر ومعطيات يستنبطها المتلقون على أنها مسلمات وحقائق مطلقة كما أن توظيف الجانب العاطفي والوجداني عبر تقديم هذه المعطيات والأفكار في قوالب عاطفية تداعب الأحاسيس بدلا من طرحها بصورة تستجيب لمنطلقات المنطق والتمحيص والتحليل واعتماد آليات إيحائية ترتكز على الترسيخ والتكرار المتسمر يشل قدرات المتلقين ويحيلهم إلى وضع تأثيري أضعف .

وما يجب الإشارة إليه في سياق هذه المساهمة أن ظاهرة الإشاعة لا يمكن أن تستمد تمظهراتها وأشكالها إلا من خلال توظيف خارجى الأسس العقلانية والوظيفية للأخبار والمعلومات التي يتم تدولها في المجال العام عبر وسائط إعلامية يقبل عليها قطاع واسع من المستخدمين خاصة من مستعملي مواقع التواصل الاجتماعي التي تنفر بمنصات فعالة لها القدرة على الاستقطاب الجماهيري ويشكل هذا الميل الجارف نحو الأخبار المغلوطة أحد المسببات الهامة وراء انتشار الإشاعة خاصة في سياق الأزمات التي تتطلب تأطيرا للمعلومة ونمو اتجاهات مؤسسة لتداول ونشر الأخبار والمعلومات إزاء الأزمة .

كما يجب الإشارة إلى أن دراسة ظاهرة الإشاعة فيما تنتجه من واقع تمظهراته تؤثر فعلا على الأداء الإعلامي المؤطر وثقافة النشر المؤسس على أعراف وتقاليد ومواثيق أخلاقية وقانونية لا يمكن أن يتم بمعزل عن الخلفية التاريخية التي نمت في سياقاتها هذه الظاهرة خاصة مع ما يصطلح عليه بظهور صحافة المواطن ونمو اتجاه جارف في استخدام منصات الإعلام الحديث مقارنة بوسائل الإعلام التقليدي التي تواجه في عصر الميديا الجديدة تحديات خطيرة وفي غاية التعقيد .

كما انه يجب الانتباه إلى مسائل هامة في الظاهرة التي تشكل خطرا على النسق المجتمعي والقيمي والأخلاقي وتفرض نمطا معينا في التعاطي مع ما ينشر من أخبار ولو كانت مصادرها مؤطرة فالمسالة تقتضي في هذا السياق أيضا نمو حس تعبوي يوجه المستخدم والمتلقي نحو المنظمة القيمية والأخلاقية في وسائل الإعلام التي كانت محل نقاش هذه المرة ضمن إسهامات أبرزها البروفيسور “عزي عبد الرحمان ” الذي أنتج مسار أكاديميا نوعيا في هذا المجال ورافقته مديرة الإعلام بجامعة مستغانم بتنوير وتعريف لهذا الاتجاه البحثي الهام حتى عاد مرجعا هاما في البحوث الجديدة في الإعلام ردا على المشككين في المسار البحثي ونتائجه في دراسة الظاهرة الاتصالية والإعلامية وها هي الإشاعة تعيد للواجهة البعد القيمي في وسائل الإعلام بشكل قوي وملح بعد الانحرافات التي بدت على ساحة التداول والاستخدام وهي انحرافات أثرت كثيرا على مصداقية العمل الإعلامي وأنتجت خواء في ساحة المهن الاتصالية والإعلامية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى