أقلام

الاستقلال ذكرى ومستقبل وتجديد العزم

إن مناسبة الاستقلال التي حددت تاريخيا بخمسة جويلية حدث ليس للتذكر فقط وإنما للعبرة وتجديد العزم على الاستمرار في الحفاظ عليه وانه في الحقيقة مشروع أبدى ملزم به كل من له شعور بالانتماء الحقيقي لهذا الوطن كما أن عهد امانة كتبت بنوده بالعرق والدم لا ينكرها إلا خائن مرتد.
إنه تاريخ لم يكن اختياره اعتباطيا وإنما موعد يذكرنا أن حق الحرية والسيادة على أرضنا الذي سلب في نفس اليوم عام 1830 ها ه ويعود بعد أكثر من قرن وثلاثين سنة وبعد رفض متواصل. ومقاومة شرسة عمت كل بلاد الجزائر بحيث تخضب كل شبر من ترابها بالدم والدموع وكل نبتة نمت وارتوت وكل شجرة لحائها متغذية بأشلاء ملايين من أجساد الشهداء وضحايا رفضوا الخضوع لإرادة مستعمر غاشم ظلوم يحمل في طيات تاريخه حقد صليبي من مئات السنين ونية استغلالية شريرة منهجها السلب والنهب والتدمير محاولا تبرير هذا التوحش والروح الإجرامية بأنها للتمدن والتنوير والبناء.
إن يوم 5 جويلية ليس مجرد يوم عابر نتذكر فيه الخلاص من فرنسا المستعمرة والمدمرة بل هو يوم تاريخي كتبت فيه شهادة ولادة وانبعاث وطن يسمى الجزائر المستقلة الحرة، ولادة رغم الضيم والظلم والفقر والتجهيل والعنصرية المسلطة عليها لم تكن ابدا ولادة سهلة فرغم عسرها أخضعت صخب التاريخ إلا أن يخضع لإرادتها ويصمت ليسمع لدوي ابنائها، ذلك إن التاريخ رغما عن منطقه ونزوعه للقوة الغاشمة أبى إلا أن يصحح مساره ويعيد الحق الى أهله، ولذلك لابد أن نتأمل ونقرأ بتمعن هذه المناسبة بعقولنا وعواطفنا لنستخلص العبر والدروس ونقف اجلالا وترحما ،وتدبرا في نفس الوقت مع كل 5 جويلية في الملايين من الرجال والنساء والقبائل والعائلات فضلت أن تقاوم وتجاهد وتناضل على كل المستويات بداية من الحفاظ رغم العزل والتفقير والتهجير على مميزات الهوية الوطنية التي تميز الشخصية الجزائرية من لغة ودين وأعراف وعادات وتقاليد وكل ما يفرق الجزائري المسلم. والعربي عن الفرنسي النصراني الكافر المغتصب.
لكن هل الاحتفال الرسمي بالاستقلال وحده يكفي؟! الجواب بالقطع لا، أن الاحتفال الرسمي وأن كان مهما فإنه محطة مهمة لابد من ترسيخها ذلك انه لابد من تفكير وعمل دائم في تحقيق هذا الاستقلال كاملا وايضا الحفاظ عليه وعلى كل جيل ان يواصل رعاية هذه الامانة وايصالها الى الجيل الذي يليه ذلك أن اي غفلة أو تهاون أو تراخي من اي جيل في تحمل مسؤولية الحفاظ عليه قد ينتهي الى ضياعه وتضعضعه فلا يمكن ان تكون مستقلا وانت في حالة تبعية تامة لغيرك في اساسيات حياتك اليومية كأفراد وشعب، وعليه فالاحتفال الحقيقي والمثمر بعيد الاستقلال هو ان يتحول الى محطة تقييم سنوي لما حققناه في ميدان البناء والتشييد وما تم اكتسابه من عوامل قوة في كل الميادين، أن الفرد الواحد منا لا يشعر بأنه حر ويمتلك زمام نفسه وارادته وسيد نفسه إلا إذا حقق استقلاله المادي والنفسي عن غيره فما بالك، بمجموع الشعب والوطن بكل أبعاده وطبقاته، يجب أن بتحول 5 جويلية من كل سنة إلى تقييم ما حققناه من تقدم وتطور لأن الادعاء الاستقلال لا يكون صادقا وحقيقيا إلا بتحقيق الجوانب والمظاهر التالية.
اولا. الاستقلال الثقافي… لا يمكن أن نكون أوفياء للأمانة ومحافظين على الاستقلال الذي ضحى بأرواحهم ومن أجله أكثر من عشرة مليون شهيد دون تحقيق استقلال ثقافي تام عن الإرث الاستعماري الذي مازال بسرى مفعوله السام وأثره السيء في صياغة تصوراتنا ومفاهيمنا للحياة ولنمط العيش والسلوك صحيح قد نجد صعوبة في محو هذا التأثير لطول مد الاستعمار ومن احدثه من تغير في بنية المجتمع وعلاقته وثقافته ولسانه لقد تسللت كثير من مفاهيم الثقافة الفرنسية الى ارواحنا حتى فقدنا الروح المتميزة الى دفعت اباءنا إلى الرفض والتمرد لكل ما يمثل الاستعمار… إنه من العار الشنيع ان لا نسعى الى التميز الثقافي إلى درجة ان البعض لا يجد حرجا في أن يتمثل الثقافة الفرنسية كنموذج مثالي لمعنى التحضر والحداثة ويطبق ذلك في حياته الأسرية والاجتماعية من تفضيل اللغة الفرنسية في التعامل. والعمل،وبهذا المعنى قد يكون تحقيق الاستقلال شكلي وسياسي فقط ومن منطلق ان الثقافة هي روح المجتمع وهويته وبالتالي يصبح استقلالنا شكل بلا مضمون وجسم بلا روح انه من البديهيات الواضحة ان استقلال اي شعب عن مستعمره لا يكون كاملا الا ببناء سياسة. ثقافية تحي فيها موروثها الثقافي وتقضي على كل ما يمثل ثقافة الغير وعلبه فلابد من تحقيق الاستقلال الثقافي ولا يكون ذلك آلت بتجاوز الشعور بالدونية اتجاه كل ما هو فرنسي وذلك بتطوير ترسيخ كل العناصر الثقافية من لغة ودين وقيم وفنون والتي تعبر فعلا عن مكونات هويتنا الثقافية وتميزنا واختلافنا عن النسق الثقافي الاستعماري وعليه لابد من عمل مستمر وجاد تتشكل منه ثقافتنا الوطنية…..
ثانيا/ الاستقلال الاقتصادي والسياسي
إن من شروط استكمال الاستقلال عمليا هو تحرير القرار الاقتصادي ولا يتم ذلك إلا بتحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء والملبس والصحة وهذا بتشجيع المبادرات الوطنية وإنشاء المؤسسات العمومية والخاصة التي تنتج هذه الحاجيات المهمة وان يكون مشروع التحرير الاقتصادي مشروع كامل المجتمع حتى نستطيع ان نبقي أحرار بمعنى الكلمة ذلك أن التبعية في الغذاء والملبس والصحة لمزاج الغير هو نقص معيب في مسيرة الحفظ على الاستقلال ولقد شعر مفجري التورة منذ البداية بأهمية هذا الجانب فكان سعيهم الدؤوب في إنشاء المصانع الكبرى، والشركات الوطنية لإنتاج ما نستهلك من مأكل وملبس وصحة وتوفير أهم الحاجيات من أهم الأبعاد التي خطط لها لكن النكوص والتراجع في التنمية الحضارية لعوامل داخلية وخارجية أهمها انطفاء جذوة شعلة التقدم في الخطاب السياسي وخمود التطلع في النفوس وبروز مطالب تحسبن العيش اليومي وكثرة الشكوى. والتذمر من الأوضاع السائدة والتعجل في الاحتجاج الانفعالي على سوء الحال من خلال مقارنات غير منطقية وواقعية مع الشعوب المكتفية والمرفهة والمتقدمة بلغت مسيرتها التنموية لأكثر من قرن.
ذلك جعل استقلالنا الاقتصادي الى يومنا هذا غير مكتمل وعلبه لابد من مشروع حضاري حقيقي ينخرط فيه الجميع سلطة ومعارضة أفراد وجماعات لتسطير برنامج عملي ومحدد هدفه هو تحقيق النهضة الاقتصادية المنشودة ونكون بذلك قد حققنا الاستقلال بكل ابعاده
إن الملاحظ اليوم في عالم التكتلات الاقتصادية الضخمة أنه لا مجال فبه للانطواء والانعزال وأن الانتماء لم يعد مبنيا على التوجه السياسية لأسباب أيديولوجية كم كان سائدا من قبل وإنما أصبحت الأسواق والسلع الحاجية، وكثافة الإنتاج واقتصاد المعرفة والتكنولوجيا هما محور الانتماء والتحالف وايضا الصراع وعليه فإن مفهوم الاستقلال لم يعد يعني شيئا إذا لم يتأسس على قوة اقتصادية ظاهرة النشاط والتأثر في العالم.
الاستقلال مشروع يتسم بالسيرورة وليس مجرد ذكرى حدث تاريخي أنه مشروع مستقبل مستمر يحب أن تعيه الأجيال وتتبناه. وتعمل بجد على صيانته والحفاظ عليه من منطلق الشعور الواعي بانه أمانة الشهداء الذين نحتفي كل سنة بهم لنذكرهم ونترحم عليهم وندعو لهم ونشكرهم ولكن أفضل احتفاء وتذكر هو شعور كل واحد بأنه مسؤول عن رعاية هذه الامانة يجب أن يشعر المعلم في مدرسته والفلاح في مزرعته، والمهندس في مصنعه والجندي في رباطه والباحث في مخبره وجامعته والرياضي في ملعبه. والصحافي في جريدته والساكن في حيه والقاضي في محكمته والتاجر في سوقه وكل مواطن في موضعه بأن الاستقلال بكل ابعاده هو مشروعه وذكراه ذلك أن حماية الوطن وسيادته وتقدمه واستقراره مهمة الجميع، وأن حبنا لوطننا المستقل وبذل الجهد والعمل من أجله ليس فقط لأنه مكان وجودنا وحياتنا ومعاشنا فحسب وإنما هي كينونة هويتنا وثقافتنا وتاريخنا فلابد من يبنى هذا الاستقلال بناء متواصل وقوي جيل وراء جيل.

سراي مسعود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى