سيظل الفارق متمظهرا في نشأة الدولة الوطنية بالغرب ومسعى تبينها لدى العرب، من حيث كونها لدي الغربيين بقيت مفتوحة قابلة للتطور من خلال ما يجود به التاريخ من بضاعة وما يفرضه من جديد الأسئلة، وهي بالتالي كانت دولة المجتمع، في حين لدى العرب احتبست عن لحظة انبثاقها المأزومة، مغلقة على نفسها غير ذات صلة بتطورات مفاهيم التاريخ، وعليه كانت دولة السلطة، وهذا ما يفسر واقع هشاشتها .
الإيغال معرفيا
ولقد اعتبرت جل التحليلات التي رامت الإيغال معرفيا في عمق أزمة الدولة الوطنية العربية في الوعي والممارسة، أن الإشكال الكبير الذي أعاق نموها هو غياب المجتمع المدني بالشاكلة التي نشأ فيها والسياق الذي تطور فيه داخل النموذج الغربي، وما دام هذا الاشكال العضوي في المجتمعات العربية قائما لا يمكن تصور انتقال في مستوى استيعاب الدولة الوطنية وتكريس الديمقراطية كآلية لاستمرارها الوجودي والمؤسساتي، من هنا ارتأينا أن نسلط، عبر التجربة الجزائرية، الضوء على هذا الكيان العضوي في الدولة المسمى المجتمع المدني، من خلال سؤال إشكالي، كيف عبرت النخب المدنية عن مطالب مجتمعها أيديولوجيا؟ وهل حققت التجاوز الأيديولوجي في فترة ما بعد التعددية لتصل إلى مستوى التغيير.
وعي بالذات الوطنية
طبعا سيقوم تحليلنا وفق منهج ينزع أكثر للتاريخية، بافتراض أن فكرة المجتمع المدني تولدت عن وعي بالذات الوطنية التي تكرست في حركتها وحراكها التحرريين إبان فترة الاستعمار، وأنها تشكلت من تلك الروح عبر الاحتكاك بالممارسة الاستعمارية لمنطقي الدولة والمجتمع معا، قبل أن تبرز فكرة اليسار كاتجاه أيديولوجي مرجعي للعقل الثوري الوطني ومنه تنشأ الخلفية “المدنية” لمجتمع ما بعد الاستقلال.
قبل الولوج إلى السياق التحليلي لنشأة إشكالية المجتمع المدني، وسمات نشاطه في التجربة الوطنية بالجزائر، يجدر بنا وضع إطار نظري تاريخي لتطور هذا المفهوم، ولكن من زاوية علاقته مع الدولة بوصفها سلطة، إذ أصر هنا الدكتور عبد القدير عرابي أستاذ الابستمولوجيا بقسم العلوم السياسية بجامعة طاهري محمد ببشار، على أن مفهوم المجتمع المدني كامن في التجربة البشرية منذ سحيق الآماد، و متجدر في ثقافات الشعوب على صعيد الممارسة، وإن عرف الانبلاج المفهومي الأول من خلال السياق الحضاري الغربي بدء من نظريات العقد الوطني وصولا في تطوره إلى ما شهدته أوروبا الشرقية من حركية تغييرية تحررية من أيديولوجيا المنظومة الشيوعية وقبضها الحديدية.
التأكيد الانطولوجي
بالاستناد إلى هذا التأكيد الأنطولوجي الماهي للمفهوم المجتمع المدني وحقيقة وجوده السابق للتحديد المفاهيمي والاصطلاحي، فيمكن بذلك بالضرورة أن نؤصل لمجتمع مدني جزائري غائل في التاريخ هو الآخر وقائم في ثناياه، من خلاف أدوات التجربة التقليدية التي عبر بها المجتمع عن نفسه في كل مراحل تجربته التاريخية والحضارية.
والخلوص إلى هذه القناعة يؤكد لنا بالضرورة وجود الامة الجزائرية من خلال التعبير الاجتماعي النسقي الذي يحددها لنا مفهوم المجتمع المدني بوصفه، كما أشار الدكتور عبد القدير عرابي ممارسة سابقة للتأسيس المفهومي، قابلة للتأصيل الثقافي الأنثروبولجي، وفق ما مضى عليه المجتمع بكل أشيائه وقضاياه الذاتية من عناصر نفيسة وثقافية ومكونات الشخصية التي تظل مؤسسة على نحو ما لمفهوم الأمة، ما يدحض مفتريات الأطروحة الاستعمارية ومن يتبانها القائمة على نفي وجود الامة الجزائرية السابق للاستعمار.
الانهيار التاريخي الإمبراطوريات الكبرى
ومع بداية الانهيار التاريخي الإمبراطوريات الكبرى وما خلفه من تراجع الخلافة العثمانية التي كان يمتد إليها الانتماء الجزائري، سقطت الجزائر الدولة والمجتمع على حد تعبير مصطفى الأشرف في قبضة الاستعمار الفرنسي، لتبدأ ملحمة أخرى من جهد وجهاد تثبيت الذات، حيث سينشأ مع توالي العقود وتبدل العقول وعي جديد بهذه الذات لدى النخب وذلك من خلال الاحتكاك بالاستعمار معرفيا وحضاريا، ذلك الاستعمار الذي ظل آخرا من منظور تلكم النخب لا سيما منها اليسارية التي ستربط الوجود الوطني بحركية التاريخ من خلال اتجاهها الاشتراكي والعمالي، ما عزز من القطيعة الفكرية مع الاستعمار بحسبانه قوى رأسمالية امبريالية لا تمت بصلة للجزائر، فاستمر خطاب الثورة الجزائرية على هذا النهج ينتج نخبا مدنية وسياسية وعسكرية جارفة للوعي باتجاه الفكر الاشتراكي، إلى درجة أن بعضا من الزعماء والوجوه المثقفة ذات التوجهات غير الاشتراكية بالضرورة، مثل فرحات عباس عبد الرحمان فارس وغيرهما رضيت كرها بالنموذج الاشتراكي لدولة الاستقلال والذي انتخب عليه بالإجماع في مؤتمر طرابلس المُتجادل حوله سياسيا وتاريخيا إلى اليوم، في مارس 1962.
مفاهيم ورؤى
لكن من أي زاوية يمكن النظر للاشتراكية الجزائرية بوصفها إطارا لتجربة مجتمعها المدني؟ هل في المفهوم الماركسي الذي يرفض فكرة المجتمع المدني من أساسها من خلال النظر كتعبير بل وتكريس للنمط البرجوازي في تاريخانية المجتمع، ويستعيض عنها في الممارسة الاجتماعية والسياسية بحركات وتنظيمات تابعة، العمالية منها والشبانية والنسوية وغيرها؟ أمن المفهوم الغرامشي الذي يولي لآليات العقل في المنظومة المادية اليسارية أهمية قصوى باعتبارها أداة انتاج أيديولوجي، ناقضة للماركسية في جزئية اقتصارها الوظيفي على البنية التحيية كأداة صراع التاريخي؟
يمكن اعتبار ما ميز بوادر النقاشات الكبرى حول الهوية التي شهدتها الحركة الوطنية وحضور بعضا من التأثير العربي فيها، كما كان الشأن مع شكيب أرسلان في نصائحه لمصالي الحاج أب الحركة الوطنية، أطارا لتشكل اشتراكية تأخذ عن التفسير الماركسي القواعد الشعبية في تعبئتها الثورية التحررية والتشييدية البنائية، من خلال ما عبرت عنه بمُسمَّى المنظمات الجماهيرية التي كانت بمثابة أداة تحشيد وتعبئة، وعن الغرامشية الاطار التنظيري لمفهوم المجتمع المدني وشروط تكوينه وآليات وعناصر اشتغاله، ولا تعدم التجربة الجزائرية من كتاب الثورة الذين مزجوا الخلفيات الجزائرية الثقافية والدينية وحتى المؤسسات التقليدية في المجتمع والشرط الاشتراكي في اكتمال الصفة الثورية لنموذج المجتمع المدني الذي كان سائدا بشكل أو بآخر مرافقا لعميلة البناء الوطني وقبل محررا للجزائر، كتاب نظروا للدولة والمجتمع كمصطفى لشرف، وبشير بومعزة وعبد المجيد أمزيان وغيرهم.
الوطنية الجزائرية
من هنا يمكن القول بأن الوطنية الجزائرية في ملمحها الأخير، تشكلت على هذا الصرح أو بالأحرى الطرح الخاص في التنظير للمجتمع وإطاره المدني الاشتراكي من نخب حاولت ان تظل متصلة بالخصوصية التاريخية للمجتمع، مع التأطير الحداثي له وفق المنظور الاشتراكي، حتى استحالت “الوطنية” الجزائرية إلى أيديولوجيا سياسية تعبر عن نفسها وسط التعددية اللاحقة أي التي تأسست بموجب دستور 1989 بصفتها كذلك!
في بداية التجربة التعددية، ستجد الوطنية الجزائرية بالشكل الذي ارتسمت به تأسيسا ومسار، نفسها خارج الإرادة الايديولوجية الجديدة للمجتمع والتي كان يهيمن عليها التيار الاسلاموي، الذي لم يكن يحمل الكثير من المفاهيم المعاصرة في قاموسه وبرنامجه القاطع بشكل كبير مع قضايا التاريخ باعتبارها لديه فاسدة وغير متأصلة وغير قابلة للتأصيل في النطاق الفلسفي للإسلام، وكانت نهاية التجربة التعددية الجدية بالمأسوية التي عرفتها، تعبيرا عن إخفاق المجتمع المدني الاشتراكي الذي واكب مشروع دولة الاستقلال، أين ظل سلطانه تابعا لإرادة الدولة، غير قادر على إنتاج الرؤى والمفاهيم ونقض المشاريع التي لا تواكب أو تؤسس لمجتمع جديد يتجدد باضطراد في وعي آفاقه وآفقا وعييه.
هذا الانهيار في الأبنية الاجتماعية والسياسية التي سببها فشل التعددية السياسة الأولى 1989-1992، سوف لن يقف أثره عند حد الكشف عن فشل مشروع دولة الاستقلال في تبني رؤى جديدة، وإنما سيكشف أيضا عن عدم قدرة النخب الجديدة على إعادة تصحيح المسار، من خلال العمل على تجاوز المحددات الأيديولوجية في التعبير عن أفكارها ونقد مشاريع السلطة التي تبدو غير منطقية في سبيل إعادة تشكيل وعي وطني جديد.
الحضور النخبي
إن هذا الإخفاق في الحضور النخبي في النقاشات الكبرى المتعلقة بمسائل مجتمعية، يتم أحيانا الفصل فيها بالآلية التشريعية والقانونية المرتبطة بإرادة السلطة وحدها، قد عمل على إعاقة المجتمع في حركة نشوئه نموه، من خلال ما هو مؤجل فيه من أسئلة عميقة سياسية تاريخية وتلك المرتبطة بالهوية والثقافة وحتى الانتماء، ولا أدل على ذلك من جملة تلكم الأسئلة العالقة، كمسألة قانون الأحوال الشخصية ومرجعيته، المرأة، الإعدام بين الشريعة والرؤية الوضعية، في الاقتصاد ما تعلق بالبنوك وعنصر الفائدة فيه، بين التحليل والتحريم.
بل لقد تراكمت الأسئلة وتكاثرت لتشمل نقد المواثيق المتصلة بالتأسيس الثوري للدولة، والخيارات التي اتبعت عبرت عنها، عديد التيارات التي نشأت من فراغات المشروع الوطني السابق، وعكس التأسيس الاشتراكي للوطنية الجزائرية، الذي لم يتجاوز الكثير من الخصوصية الجزائرية في بناء مشروعه، فقد تمحورت هذا التيارات الثقافية والفكرية حول فكرتها الذاتية الخاصة، وهو ما سيحيل إلى نسق تصارعي من التعايش المشترك، كما عبرت عن أزمة تراكم تلكم الأسئلة، كتابات ومواقف رجالات من الحركة الوطنية بمثل التي أشرنا إليها سابقا، من دون أن تتوج تلكم الأسئلة بمحاولات للإجابة لأنها حرمت من فرص ومساحات النقاش بالحرية اللازمة.
ومجرد الاشارة هنا إلى غياب الحرية بوصف هذه الأخيرة أداة حيوية في نشاط المجتمع المدني، هي تأكيد على انتفاء فكرة المجتمع المدني من حيث الوظيفية، بالنظر كما قلنا لعدم وجود نقاشات بين النخب والجماعات المنتجة للمعرفة والرأي وأسئلة البحث عن الحقائق المغيبة في العمل الوطني، وغياب بالتالي القدرة التأثير التي هي من أوكد وظائف المجتمع المدني.
فكرة المجتمع المدني
وإذن، تبعا لما تقدم، يمكن القول أن مسار اشتغال فكرة المجتمع المدني وتطورها في الجزائر، صاحبته دوما أسئلة قلقة بسبب غلواء الإشكالات السياسية المتعلقة بصراع السلطة، والاسترابة الدائمة من الأفكار المتأتية من خارج مفهوم الوطنية باعتبارها أيديولوجية الدولة، والتي استعصت تجاوزها لامتزاج عناصرها عضويا وفق خصوصيات لحظة التأسيس من عروبة وإسلام واشتراكية (اجتماعية) صارت مع الوقت محل أسئلة من الوعي الجديد والمتجدد عبر أجيال متتالية، لكن في ظل المخاوف المتواصلة من النقاش وما يقتضيه من حرية، لا يزال مفهوم المجتمع المدني لم يبرح حيز التجربة الوطنية الاشتراكية التعبيئية المتصلة بإرادة السلطة وتوجهاتها، مهما تغيرت المسميات بالانتقال من المنظمات الجماهيرية إلى الحركة الجمعوية.
بشير عمري