بقلم احسن خلاص
الجزء الثالث
انتهينا في مقال سابق إلى أن الانتخابات التشريعية تعد في أجندة السلطة التي بادرت بها قبل أوانها الدوري بسنة آلية لإدارة التغيير بمحاولة فرض صيغة ما للاستقرار تسمى في العرف الاستقرار السياسي. وينطلق النظام السياسي من أن الاستقرار السياسي غير مضمون خارج المؤسسات التي تضمن التداخل بين النظام والدولة وتجعل هذه الأخيرة تابعة للنظام الذي تناط به عملية إدارة التغيير. كما ينطلق من مسلمة أخرى وهي أن إبقاء الفاعلين الذين نشطوا الطبعة السابقة من النظام داخل المؤسسات سيجعل من عملية إدارة التغيير بالاستقرار المؤسساتي عملية صعبة ومعقدة للغاية لذا حرصت الطبعة الجديدة للنظام على منع ذلكم الفاعلين من العودة عن طريق الصندوق ولو بطريقة نزيهة من خلال سن أحكام قانونية تنزع عنهم حق الترشح بحجة إفساح المجال أمام الشباب.
ترمي السلطة من خلال الانتخابات التشريعية إلى ضرب عصفورين اثنين بحجرة واحدة، أولهما التخلص من أصحاب نزعة التغيير التاريخي المبني على القطيعة مع الموروث وإقامة بناء جديد للدولة وتصور مغاير للمجتمع وثانيهما التخلص من القوى التي من شأنها كبح أي رغبة في إدارة محكمة وهادفة للتغيير داخل إطار مؤسساتي مستقر، وكأنها تبحث عن مسار يقع في منزلة بين المنزلتين، ذلك أن السلطة القائمة لا تزال تبحث عن موارد سياسية جديدة على أنقاض الموارد السابقة المهترئة الفاقدة لثقة المجتمع بعد أن أثبتت فشلها، تريد وجوها تحدث توازنات جديدة بعد أن اهتزت التوازنات السابقة والعودة إلى أشكال جديدة من التمثيل السياسي في البرلمان والحكومة يمكن أن تواجه به لاحقا مطالب القوى المطالبة بالتغيير التاريخي التي لم تشارك في الانتخابات والتي تراهن بطبيعة الحال على فشل المسار الانتخابي برمته وليس فشل مخرجاته ذاتها في إدارة التغيير.
لن تواجه القوى المطالبة بالتغيير التاريخي بعد 12 جوان سلطة فاقدة تماما لتوازنها بل سلطة بشركاء سياسيين جدد يجعلونها في غنى عن اللجوء إلى محاربة هذه القوى بمقاربات أمنية صرفة حيث يصبح التمادي في تنفيذ الحلول الأمنية وتعميمها تعسفا ومبالغة. وقد يساعد هؤلاء الشركاء الجدد الذين ستفرزهم الطبعة البرلمانية الجديدة على مد جسور الحوار بين القوى المدعوة إلى إدارة التغيير وقوى التغيير التاريخي. ذلك أن أهداف القوى الأولى قصيرة المدى بينما تعتبر أهداف القوى الأخرى بعيدة المدى وقد تتحقق بالجيل الحالي. غير أن فرص الحوار ليست قريبة المنال ولن تتاح من الوهلة الأولى لأن الأطراف كلها ستسعى لأن تبرهن عن متانة طرحها.
وبالفعل من الصعب جدا في المرحلة التي نجتازها أن نقنع القوى المطالبة بالتغيير التاريخي أن “الثورة” التي قامت في فبراير 2019 إنما هي ذلك الجبل الذي تمخض فولد فأرا، وأن نتيجتها في النهاية إعادة رسكلة النظام الذي ثار الشعب ضده بما فيه من استبداد وفساد بما يجعله أداة لاستمرار الأساليب ذاتها بفواعل جدد وبخطاب قد يتغير شكله دون أن يتغير فحواه. كما أنه لا يمكن إقناع قوى إدارة التغيير بالاستقرار المؤسساتي أن أي محاولة لإحداث التغيير التاريخي لا تحمل مخاطر على الاستقرار العام ولا تفتح ثغرات لقوى أجنبية طالما استثمرت في الفتن من منظور الفوضى الخلاقة. وتريد السلطة اليوم أن تدعو القوى السياسية إلى الانخراط في مسار إدارة التغيير عبر الاستقرار بحجة ما أسمته الانحرافات التي بدأت تعتري مسار التغيير التاريخي الذي انطلق فيه الحراك، انحرافات بدأت توحي في نظر السلطة أنه يسير نحو الانزلاق وهو ما استدعى التدخل العنيف لقوى الأمن لمنع حدوث المسيرات الأسبوعية. فهل تعني الانتخابات التشريعية ايذانا بانتهاء الصراع والمواجهة بين الطرفين أم هو تأجيل لها أو عودتها بأشكال أخرى؟ المؤكد أن الصراع قد لا يعرف نهاية قريبة وإن تأكد أنه قد يعرف مسارات جديدة تلعب في تشكيلها متغيرات عدة منها قدرة مخرجات 12 جوان على احتواء الوضع والسيطرة عليه وتمكنها من إطلاق مشروع سياسي واقتصادي قادر على ربح مواقع جديدة من خلال إشراك القوى الاقتصادية والاجتماعية في صنع المرحلة المقبلة، وبعبارة أخرى نجاحها في إدارة التغيير المنشود.
لقد أظهرت البرودة التي ميزت الحملة الانتخابية كما بين ضعف الخطاب السياسي وميله إلى الشعوذة أن مشهد ما بعد 12 جوان لن يكون قادرا على المساهمة كشريك سياسي لحل الأزمة وتعبئة المجتمع ضمن خطة إدارة التغيير وقد تضطر السلطة في الفترات الأولى التي ستعقب الانتخابات إلى الاستمرار في الإدارة الأمنية للوضع التي لن تسمح للمؤسسة البرلمانية الجديدة أن تؤدي دورها الذي تعد به القوى المشاركة في الانتخابات.
ليست الانتخابات غاية في حد ذاتها بقدر ما هي آلية للفرز بين توجهات مختلفة بل ومتناقضة وهو ما لا توفره انتخابات 12 جوان باتجاهها نحو تشكيل تكتل سياسي واسع حول السلطة التي لن تترك هامشا أكبر لشركائها الجدد بعيدا عن دور الديكور السياسي الذي اعتادت أن تلعبه التشكيلات السياسية من قبل. لقد دخل من دخل المعترك الانتخابي دون الوعي بأنه يختلف عن المعترك السياسي الذي يتطلب شروطا أخرى إضافية عن شرط المشاركة الانتخابية وحتى المشاركة الحكومية.