أقلام

التفاعل الدولي الرقمي

لسنوات طويلة ظل تفسير العلاقات الدولية والتنافس بين الأمم مرتكزًا على مفهوم الجغرافيا السياسية، أو ما يسمى «الجيو بوليتكس»، بمعنى التنافس الدولي للسيطرة أو الحصول على نفوذ في المناطق ذات الأهمية أستراتيجية من المنظور العسكري، ولكن مع ازدهار ظاهرة العولمة، انتقل التحليل بعد ذلك إلى الجغرافيا الاقتصادية أو ما يسمى «الجيو إيكنومكس»، بمعنى تنافس الدول للوصول للمناطق ذات الأهمية الاقتصادية. اليوم يمكن الحديث عن متغير جديد لتفسير العلاقات الدولية المعاصرة وهو «المتغير التكنولوجى»، وظهور فواعل عالمية أصبح لها دور كبير في تشكيل السياسة الدولية على غرار الشركات الكبرى، بحيث تشكل هذه الشركات القوة المحركة في النظام الاقتصادي والسياسي الدولي، لما تملكه من إمكانيات مادية وبشرية هائلة، تمتد إلى مختلف دول العالم، وتعدد أنشطتها ومنتجاتها بغية توزيع المخاطر وتنويع مصادر الربح، مستفيدة من منجزات التقدم العلمي والتقني الذي تتميز به، مما سمح لها حتى بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول الضعيفة وقيادتها لانقلابات سياسية وتحكمها في سياسات هذه الدولة بمعنى انتقلنا من احتلال دولة لدولة أخرى إلى احتلال شركة لدولة.
إنّ التقدم التكنولوجي ولّد ظروفًا وبيئة جديدة تمارس فيها الدول حقوقها السيادية وتسعى إلى تحقيق مصالحها، في كل من السياسة الداخلية والخارجية، بحيث يجبر التقدم التكنولوجي الدول على التكيف مع منطق الأداء في البيئة الدولية، كما يتسم بشبكة متنامية من الترابط، وزيادة الكثافة والتعقيد والديناميكيات في العلاقات السياسية الدولية، من خلال تشكيل إطار جديد للعلاقات الدولية، يتسم بالتعقد والترابط والاعتماد المتبادل، يمكن أن يتم تصور هذه الظاهرة على أنها سلسلة من “التحولات” التي تعبّر عن تغير المجتمعات وتطور العلوم والبحوث في مختلف الميادين، والأهم من ذلك، تحول التكوينات الجيوسياسية الحالية من المستويات المحلية إلى المستويات العالمية.
لقد عاش العالم ظاهرة استثراء الشركات متعددة الجنسية بعد سيطرتها على الاستثمار العالمي والتجارة الخارجية والصناعة التكنولوجية الدقيقة، مثل “آبل” (Apple) و”أمازون” (Amazon) و”فيسبوك”  (Facebook)  و”ألفابت” (Alphabet) و”مايكروسوفت” (Microsoft)و Google، التي باتت عبارة عن إمبراطوريات ولدى بعضها عائدات سنوية تزيد على تريليون دولار، وتساوي قيمتها السوقية ما يزيد على عدد من التريليونات بالدولار وهذا شكل قلقًا من النفوذ الذي تكتسبه هذه الرأسمالية الرقمية، ولديها من النفوذ والتأثير لجعلها قوة اقتصادية وسياسية لا يمكن السيطرة عليها، إضافة إلى ذلك التطور الرهيب في مجال الذكاء الاصطناعي وأثره الكبير في الحياة اليومية للشعوب، وتأثيره المهول في مجال العلاقات الدولية، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي يلعب دورا محوريا في علمية اتخاذ القرار للدولة وفي سياساتها الخارجية، وقد يلعب دورا أيضا في إشعال فتيل الحروب بين الدول من خلال التجسس واختراق المواقع الرسمية والأمنية للدول.
“نظرية التفاعل الرقمي الدولي”
ومن هذا المنطلق ارتأيت أن أطرح نظرية جديدة في علم العلاقات الدولية تحت مسمى، “نظرية التفاعل الرقمي الدولي” وتقترح هذه النظرية أن التكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا محوريًا في التأثير وتشكيل العلاقات الدولية وإعادة ترتيب الفواعل والعوامل، وتعتمد النظرية على فرضية أن وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة تجعل الفواعل الدولية أكثر قربًا من الشعوب، مما يؤدي إلى تشكيل ضغوط قوية وحقيقية وردود فعل أكثر تأثيرا، في توجهات السياسات الدولية وفي اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية، كما تقوم على فرضية أنه من يمتلك القوة المعرفية يستطيع التحكم في العالم أي من يسيطر على التكنولوجيا يسيطر على العالم، كما ستساعد هذه النظرية في فهم كيفية تشكل التفاعلات الجماعية عبر الحدود وكيفية تحقيق التأثير العالمي من خلالها، فهي نظرية تقوم على فهم وتحليل تأثير التكنولوجيا الرقمية على العلاقات الدولية، وتسعى هذه النظرية إلى تفسير العلاقات الدولية من خلال التطور التكنولوجي، وكيفية تأثير هذه التغييرات التكنولوجية، لا سيما على تحولات القوة والردع والدبلوماسية وغيرها من أدوات العلاقات الدولي، بحيث سيحل الذكاء الاصطناعي محل الدبابة والصواريخ العسكرية.
هناك صلة قوية بين التقنيات الجديدة وديناميكيات القوة في العلاقات الدولية، فالتطور التراكمي للمعرفة والابتكارات التكنولوجية -في مجالات مثل الاتصالات، والتكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا النانو، والمجالات العسكرية واستكشاف الفضاء الخارجي- ميدان للمنافسة الدولية على السلطة وتوزيعها الجديد من ناحية وأداة متطورة لتعزيز قوة لاعبين معينين على الطرف الآخر (الفواعل اللادولاتية). وبالتالي، فإن القوة التكنولوجية ليست مجرد أداة مستقلة للإمكانيات، ولكنها -في الوقت نفسه- حافز لبناء مجالات أخرى للقوة، بما في ذلك أبعادها الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية والثقافية والاجتماعية والأمنية والعسكرية و البيئية.
أكبر ثورة جيوسياسية
وعليه فإنّ الثورة الرقمية ستكون أكبر ثورة جيوسياسية في تاريخ البشرية، وإذا كانت الثورة الصناعية قد غيرت العالم من خلال استبدال العضلات البشرية بالآلات، إلا أن الحاجة للعقول البشرية ظلت موجودة لبناء وتشغيل وصيانة الآلات، لكن الثورة الرقمية ستحل محل عقل الإنسان، وسيكون «الذكاء الاصطناعي» قادرًا على القيام بالعديد من المهام البشرية، وبشكل أفضل من الإنسان. أي سوف يكون لدى الروبوتات الذكية كل من العضلات للقيام بالعمل، والقوة العقلية لتشغيل نفسها.
وإذا كان تطور وسائل التواصل الاجتماعي شكل تحديا للدول، فإنه شكل أيضا تحديات متنوعة لعلماء السياسة والاتصال والإعلام والاجتماع، فالعالم أصبح يحتاج لنظريات جديدة يمكن أن تشكل أساسا لصناعة جديدة للمضمون، ولثقافة إعلامية واتصالية جديدة، وتأهيل الكوادر التي يمكن أن تستخدم قدراتها في إدارة الصراع باستغلال ما يتيحه القرن الـ 21 من فرص وإمكانيات.
والعمل الدبلوماسي من أهم المجالات التي تحتاج الدول لتطويرها، فلم تعد الحكومات تحتاج فقط للاتصال بحكومات الدول الأجنبية، وبناء العلاقات معها، لكن الدول أصبحت تحتاج للاتصال بالجماهير والتأثير على اتجاهات الرأي لعام، وغرس صورة إيجابية للدولة في أذهان الأفراد الذين يمكن أن يقوموا بدور مهم في تحقيق أهداف الدولة من دون إجبار أو إكراه.
ظهور فاعلين جدد في العلاقات الدولية
أوضحت الدراسات الحديثة في العلاقات الدولية أهمية دور وسائل التواصل الاجتماعي “The role of social media”، فلم تعد الدولة هي الكيان الفاعل الوحيد في العلاقات الدولية، بل ظهر عدد آخر من الفاعلين الدوليين الذين يقومون بدور أساسي على الساحة الدولية، فلم يعد دورها  يقتصر على النظام الداخلي في دولة ما، وإنما يمتد إلى مجال العلاقات الدولية، وقيامها  بدور إستراتيجي  في التفاعلات السياسية الدولية، ولهذا يمكن اعتبارها أحد الفاعلين من غير الدول التي تمتلك القدرة على التأثير في تطورات الأحداث الإقليمية والعالمية، ومن أبرز الأمثلة علي ذلك: صورة الصراع بين (أستونيا، وروسيا) في 2007، والحرب بين (روسيا، وجورجيا) في عام 2008، وبين (كوريا الجنوبية، والولايات المتحدة الأمريكية) في عام 2009، والتي شهدت هجمات إلكترونية كورية على شبكات البيت الأبيض، وجاء الهجوم الإلكتروني بفيروس “ستاكسنت” على برنامج إيران النووي عام 2010؛ ليمثل نقلة مهمة في تطور واستخدام الأسلحة الإلكترونية، ثم الدور السياسي الذي لعبته شبكات التواصل الاجتماعي في إدارة الفوضى في عدد من الدول العربية خلال ثورات الربيع العربي.
التأثير الآخر للتكنولوجيا في العلاقات الدولية
التأثير الآخر للتكنولوجيا في العلاقات الدولية، سيرتبط بالطريقة التي تتم بها إدارة الحروب، التي قد تتم بالكامل بواسطة التكنولوجيا، وستعرف الدول التي ليس لديها منظومة متطورة في مجال الذكاء الاصطناعي أنه ليس لديها أي فرصة للفوز في الحروب، في حين أن البلدان ذات المستوى الأعلى في هذه التكنولوجيا سيكون لديها طرق أفضل للحصول على ما تريد، وسوف تفسح ناقلات الطائرات وصواريخ كروز الطريق كي يحل محلها الحروب السيبرانية التي من الصعب اكتشافها.

بقلم الدكتور بن عائشة محمد الأمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى