أقلام

الثقافة والتاريخ والبناء الاجتماعي

معنى الظواهر الثقافية في الأنساق الاجتماعية مرتبط بالجوانب الذهنية للفِعل الفردي ، وتطوُّرِ الفِكر للجماعة الإنسانية .

والظواهرُ الثقافية لا تُصبح منظومةً فكرية مُكتملة بنَفْسها وقائمة بذاتها ، إلا إذا تكرَّست فرديًّا وجماعيًّا ، وتجذَّرت في بُنية العَقْل الواعي القادر على صياغةِ المفاهيم المعرفية ، وتنظيمِ الأنشطة الإبداعية ، وتكوينِ التجارب الحياتية ، وإنشاءِ التصوُّرات المُستقبلية . وهذه المُركَّبات الوجودية هي الضمانة الأكيدة لصناعة إطار مُجتمعي أساسي يشتمل على إدراك الأحداث التاريخية ظاهريًّا وباطنيًّا ، واشتقاقِ قانون تفسيري لها في ضَوء المبادئِ السَّببية ، والحقائقِ المنطقية ، ومناهجِ التحليل الوظيفي .      الظواهرُ الثقافية لَيست تأمُّلاتٍ لصُنع التاريخ وفَهْمِ مَغزاه الفِكري فَحَسْب ، بَل أيضًا تَكوينات عقلانية تُشيِّد معالمَ العلاقة بين السَّبب الثقافي والأثَر التاريخي ، بحيث يكون التاريخُ نتيجةً حتميةً للثقافة ، وتكون الثقافةُ قاعدةَ الانطلاق للتاريخ. وهذه التكامليةُ تعكس أهميةَ الحقائق المنطقية في الربط بين الثقافة والتاريخ، وتحليلهما ضِمن مجالات البناء الاجتماعي ، الذي يُحدِّد الطبيعةَ الذاتية للعناصر ، والوظيفةَ الوجودية لها . وهذا يُثبِت أن الثقافة والتاريخ كِيانان يَقُومان على ثلاث ركائز : السَّببية والمنطقية والوظيفية . وهذه الركائز مُجتمعة تَمنح الشرعيةَ للبناء الاجتماعي المُتكوِّن من الثقافة والتاريخ ، وتُعطيه مشروعيةَ البقاء في عَالَم مُتغيِّر ، وهذا يعني امتداد البناء الاجتماعي في مشاعر الإنسان ، وتحوُّلاتِه المعنوية والمادية في الزمان والمكان ، وامتداد تفاصيل الحياة المُعاشة في إفرازات العقل الجَمْعي وطبيعةِ اللغة الرمزية .

السَّببيةُ هي التوازن الوِجداني بين الثقافة والتاريخ ، وتدلُّ على العلاقات الضرورية بين الأفكار والأفعال ، والإرادة والتطبيق ، والإدراك الحِسِّي والأنشطة الفكرية . وكُل ظاهرة في المجتمع لها سبب وتأثير ، وخاضعة للظروف الكُلِّية والشُّروط الواقعية . وعندما تَخضع الظروفُ والشروطُ للحُكم العقلاني المُجرَّد من الهوى الذاتي والمصلحة الشخصية ، تُولَد الخِبرة الحياتية القادرة على تكوينِ منظومة ( السَّبب / النتيجة ) في الماضي والحاضر والمُستقبل ، ومُلاحقةِ المسار الزمني المُشتمل على المشاعر الإنسانية والخصائص الاجتماعية والمضامين اللغوية . وإذا أدركَ الإنسانُ حركةَ المفاهيم الرمزية داخل المُجتمع وداخل اللغة ، فإنَّه سيُدرك أنَّ الثقافة سابقة على التاريخ ، ووُجود الصانع هو أساس وُجود المَصنوع . ومِن المُستحيل صناعة تاريخ مُشرق بدُون ثقافة. والحدثُ التاريخي والظاهرة الثقافية مَحكومان بثنائية ( السَّبب / النتيجة ) ، وعندما يَندمج السببُ والنتيجةُ في الوجود التاريخي الثقافي ، يتم تحديد التسلسل المنطقي للظواهر في المجتمع ، والترتيب العقلاني للأولويَّات في الحياة ، وبالتالي يتَّضح أن كُل ظاهرة مَخْفِيَّة عِلَّة ( سبب ) لظاهرة مَكشوفة في الوجود المعنوي والحركة المادية، وأنَّ الجُذور تُحدِّد طبيعةَ الأغصان ، ولَيس العكس . المنطقيةُ هي طريقة استنتاج المَغزى مِن الثقافة والتاريخ ، وتُشير إلى مركزية القوانين المعرفية التي تُسيطر على الوسائل والغايات ، وحركةِ الأفعال ورُدود الأفعال ، وتُفَسِّرها كما حدثت على أرض الواقع ( المجال الحيوي ) ، ولَيس كما حدثت في الأذهان ( الحياة المُتَخَيَّلَة ) ، وهذا التفسير ضروري للتمييز بين التاريخ الحقيقي والتاريخ الخيالي ، والتفريق بين الثقافة كحقيقة واقعية ، والثقافة كَتَصَوُّر مَجَازي ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى بناء التجارب الإنسانية على منهج عِلْمي دقيق ، لا مَجَال فيه للاحتمال والصُّدفة وأنصاف الحُلول . وكُلَّما اتَّضحت الحُدودُ الفاصلة بين الحقيقة والمَجَاز ، زالت الأوهامُ التي تَرْتدي قِناعَ الثقافة ، واختفت المُسلَّمات الافتراضية من رُوح التاريخ وجسده ، وهذا يَدفع باتجاه تَوليد ثقافة جديدة ومُتَجَدِّدة في التاريخ ، أي إنَّ الثقافة والتاريخ يَدخلان في صَيرورة الحياة بكل تفاصيلها البسيطة والمُعقَّدة. وبعِبارة أُخرى، إنَّ الثقافة والتاريخ يُولَدان مِن جَديد ، وتستمر ولادتهما تزامنيًّا وتعاقبيًّا ، ويَعيشان في كِيان الإنسان وكِيان المُجتمع معًا . وكُل حياة جديدة تتطلَّب إيجاد تفسير اجتماعي جديد للعناصر الجُزئية والتراكيب الكُلِّية .

إبراهيم أبو عواد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى