
∙ بقلم الأستاذ : عادل فرحاني
نواصل في هذا المقال التاريخي تسليط الضوء على مؤلف فرحات عباس الموسوم بتشريح حرب – إشراقة الحرية ، حيث نعالج في هذا العدد مجموعة من الإحداث المهمة في تاريخ الثورة الجزائرية 1954-1962م
- استراتيجية الجنرال شارل ديغول في مواجهة الثورة الجزائرية 1958 – 1962م
عمل الجنرال ديغول منذ توليه الحكم على استعادة هيبة الدولة الفرنسية وموقعها في أوربا وفي العالم وتوحيد الجيش تحت راية واحدة،حيث كثف ديغول لأجل تحقيق هذه المآرب إذ قام بتمرير دستور الجمهورية الخامسة عن طريق الاستفتاء الشعبي في 28سبتمبر 1958،ومن أجل القضاء على الثورة الجزائرية قام بتقديم مشروع في 3 أكتوبر 1958 في خطابه بقسنطينة تضمن إصلاحات برغماتية في المجال الاجتماعي ،والاقتصادي والإداري للشعب الجزائري،وفي 14أكتوبر 1958طلب من الجيش الانسحاب من الشأن المدني ،بحجة أنه ليس من شأن الجيش أن يتدخل فيما ليس هو مجال له ،ومن اختصاصه،وفي 23 أكتوبر 1958 جاء بمشروع سلم الشجعان محاولة منه لتحييد مجاهدي جيش التحرير الوطني عن الثورة الجزائرية وفي 19ديسمبر 1958استدعى الجنرال ديغول الجنرال سالان إلى فرنسا وعوضه “ببول ديلوفريي “في المهام المدنية وبالجنرال شال عن القوات العسكرية بالجزائر الذي بدوره أطلق مخططا عسكريا جديدا لمواجهة جيش التحرير الوطني معتمدا على التواجد الفرنسي المكثف في الجبال الجزائرية ، وإقامة خط شائك ثان عرف باسمه على الحدود الجزائرية الشرقية والغربية .
وقد لخص فكرته أمام هيئته العليا قائلا “لا يكفي التطويق ولا المسح الذي يعقبه الانصراف هذه وسائل لا تجدي إزاء سرعة ونجاعة حركة ” الفلاقة”ما يجب فعله هو التواجد في الجبال والتمركز في الوسط السكاني أين يتواجد أو يتحرك به “الفلاقة “لهذا الشكل سيلاقينا كلما خرج من المخبأ الذي سيصبح مجبرا على ملازمته سنقطع أولا صلتهم بالسكان وسيصبح هؤلاء يشعرون بأن الثورة لا تعنيهم مهمتنا أيها السادة هو تحويل حياة “الفلاقة “إلى جحيم ” .
وفي شهر فيفري 1959صرح الجنرال شال أمام هيئة الدفاع “إذا كان ما هو مرتقب مني هو أن أقول أن نصف الجزائر مؤمن سالم ،وإن سيطرتنا على العمليات محكمة وأن الغارات الجبلية لم تعد موجودة ولا الجماعات المتمردة فإنني أعلنها الآن ومن هنا أنا لا أستطيع ضمان حصيلة انتصار كهذه للحكومة خلاصتي هي كالتالي مادام نشاط الحدود قائما فإن الثقل كبير جدا على الجبهة الداخلية ،و لا يمكن أن نحلم بالتخلص النهائي من التمرد مادام العدو قائما نشطا على الأبواب الحدودية “ومن أجل ذلك دعم الجنرال شال استراتيجيته بقوات هائلة لا مثيل لها ماديا وبشريا بلغ عدد الجنود 60ألف جندي من مظليين وفرق التدخل السريع والمختصين في حرب العصابات واستنجاد بعقداء سامين وضباط ،وجنرالات لهم معرفة جيدة بوضعية الجزائر من بينهم “بوي وبيجار، ترانكي،بروازات ،دوكاس كوسطو،غودار،غار سيكالدي،وآلار غراسيو ،وغمبيار أوليي ،ماسو كوست ، ومن أجل زعزعة جيش التحرير الوطني عمل على مهاجمة الشعب والمدنيين ودفعهم إلى الانتقال إلى الضفة الفرنسية ومنح العدو الفرنسي متعاونين من أعوان وحركة وقوميين وقد ضرب الحصار على كل ولايات التراب الجزائري وشن سلسلة من العمليات الكاسحة لتصفية الثورة الجزائرية، والقضاء على رجالاتها في الجبال ومن تلك العمليات الأحجار الكريمة ،والمنظار والشعلة ..
وقد كان مخطط شال شديد الفاعلية تجاه جيش التحرير الوطني وجبهته ، حيث عادت التدابير العملية للحماية DOP إلى ما كان معروفا أيام معركة الجزائر، الاغتيال والتصرفات الجزافية والتعذيب والعدوان… وأصبحت كل الوسائل مباحة لتجسيد فكرة وأسطورة الجزائرالفرنسية .
لقد تضرر جيش التحرير بشدة غير أنه ظل غير مغلوب ومن عجيب الأمر هذا الجيش أنه كلما قويت هجومات الجنرال شال تضاعف عدد الكتائب والجماعات المحاربة هنا وهناك مع ميل صوب التخفي وتجنب المواجهة العادلة ورغم خسائره إلا أنه كان بعيدا عن الاستسلام لا تقل حركته في منطقة إلا لتزداد في أخرى .
كما كان لمخطط شال وقع خطير على جموع المدنيين والجماهير الشعبية في أعقاب مخطط شال وعملياته حيث تم تعذيب وتهجير ،واعتقال ،واغتيال عشوائي للشعب الجزائري ،وبعد تقلد الجنرال ديغول مهامه من طرف الرئيس الفرنسي السابق روني كوتيه في 8جانفي 1959، ألقى خطابا قائلا فيه : ” إن مكانة جزائر الغد في مجتمعنا مرموقة بلا ريب سيعمها السلم وستتغير وستظهر بشخصيتها المنوطة تماما بفرنسا في بدايات شهر مارس 1960 قام الجنرال ديغول بجولتين إلى مختلف مناطق الجزائر وذلك بهدف دراسة مخطط التهدئة بعد الاطمئنان على هاجسه الرئيسي المتمثل في وحدة الصفوف العسكرية وقد التقى بمجموعة كبيرة من الشخصيات وأدلى بتصريحين في خطبة جاء فيها ” لابد من الخروج بالظفر من مواجهة الأسلحة وحتى أن وضع المتمردون السلاح فإنه على جنودنا حمله وبما أني أعلم أنهم لا يضعونه لذلك عليكم أن تذهبوا لافتكاكه منهم ، وخطب أمام سكان الجزائر قائلا :” لن تكون الجزائر إلا جزائرية .
وحسب فرحات عباس فإن شارل ديغول لا يربط مستقبل الجزائر بصيرورة الكفاح المسلح أنه يوحي إلى أنه حتى إن انتصر الجيش الفرنسي في ساحة المعركة فإن المشكلة السياسية ستظل مطروحة بلا ريب ،ولا حل لها إلا في إطار جزائر الجزائرية ،وهو الوضع الذي لا سبيل إليه إلا عن تقرير المصير،وقد أسفرت جولة ديغول هذه عن حدث عميق المعنى نقل الجنرال شال إلى فرنسا وتعويضه بالجنرال كريبيان وقد أرسلت باريس مبعوثها جون عمروش للحكومة المؤقتة حيث أخبرهم بضرورة العمل على الحث لدفع الأمور في هذا الاتجاه الإيجابي الذي يدعو له الجنرال ديغول مضيفا لهم أن يفكروا في زيارة إلى باريس وفيما كانت الحكومة تتدارس اقتراح زيارة باريس إذا بديغول يلوح بخطاب هام أعلن فيه عن رغبته في السلام وعدم اقتناعه بالقوة الثالثة ،وسلم الشجعان حيث صرح قائلا :” أتجه بكلامي مرة أخرى باسم فرنسا إلى المسؤولين عن الثورة وإلى مسيريها وأقول لهم إننا بانتظارهم هنا من أجل أن نبحث معا ونجد معا نهاية مشرفة لفض نزاع السلاح ،وتبيان مصير المحاربين بعد هذا سيكون كل الجهد موجها من أجل أن يستعيد الشعب الجزائري صوته ويقول كلام السلم والطمأنينة آنذاك لن يكون هناك قرار إلا قراره وقد وافقت الحكومة المؤقتة لإجراء لقاءات مع الحكومة الفرنسية وانطلق الجنرال ديغول للتشويش وعرقلة مسار المفاوضات المقبلة بتحرير مصالي الحاج من إقامته الجبرية وفي 25 مارس 1959 أثناء ندوة صحفية بالإيليزي ساءله حول إمكانية مفاوضات ممكنة مع جبهة التحرير الوطني ” إنني لأتساءل فعلا لماذا لم نبلغ هذه النقطة بعد لأنه على كل حال السبيل الوحيد للخروج من المضيق وفي نفس الفترة أعلن رئيس اللجنة الإدارية للعاصمة علي خوجة : ” آمل أن نفتح حوارا مع جبهة التحرير الوطني بهدف وقف إطلاق النار،وإثر استجابة الشعب الجزائري لنداء جبهة التحرير الوطني لمقاطعة الانتخابات البلدية المحدد إجراؤها في 26افريل 1959علق الجنرال ديغول أمام بيار لافون مدير صدى وهران قائلا:
“إن الذين يهللون اليوم للإدماج هم أنفسهم الذين كانوا ضده بالأمس ما يريدونه هو أن نعيد لهم جزائر أبي إلا أن جزائر أبي قد ماتت واختفت وإن لم نفهم هذا الأمر فسوف نموت معها ،أن النتيجة السعيدة لا يمكن رؤيتها الا من خلال التطوير الكلي للبلاد فإن فشلنا في ذلك حتى مع استبباب الأمن فإن الجزائر ستكون قد ضاعت بالنسبة إلينا لأنها ستثور مع أول مناسبة تسمح بذلك ولن تكون أمامنا حلول “وقد شرح جاك سوستال سياسة الجنرال أمام مجلس الوزراء والتي حددها في ثلاث مراحل:
- المقاومة المسلحة للمتمردين مع منحهم إمكانية وقف إطلاق النار
- العمل على التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للجزائر
- الانفتاح حول مستقبل البلاد وإمكانيته دون أحكام مسبقة
وقد انطلق الجنرال ديغول منذ 29 أوت 1959 في رحلة عبر مختلف مناطق الجزائر للقاء المسؤولين والإطلاع على الأوضاع هناك حيث أستمع لكل ما يعرض أمامه وعمل على جس نبض الضباط العسكريين لتحضيرهم نفسيا لخطابه القادم في 16ديسمبر 1959 أرسل الرئيس الفرنسي عدة رسائل بعضها مشفرة وبعضها واضح اللهجة يقول فيها نظرته إلى الجزائرالتي ستكون ذات يوم حرة مستقلة وتملك حكومتها الخاصة بها وقد تحدث بتاريخ 4نوفمبر 1960 إلى الحكومة المؤقتة قائلا ”إنها لم تكن قد وجدت بعد رغم أنها تدعي بأنها موجودة منذ ست سنوات خارج حدود الجزائروتنشط بكثرة وقد كان ذلك اعترافا ضمنيا بنا في خطاب بثه التلفزيون والراديو وفي 9 ديسمبر 1960 قام الجنرال ديغول بجولة إلى مدن الجزائر حيث حل بمدينة عين تيموشنت رفقة وزير الشؤون الخارجية
لوي جوكس والمحافظ الجديد جان موران وقد استقبله غلاة المستوطنين،”يسقط ديغول تحيا الجزائر الفرنسية ”،ثم انتقل ديغول إلى ،وهران ،وتيزي وزو وعنابة
وقد دعت فيدرالية الجزائر( الفرنسية ) إلى إضراب شامل يومي 9و10 ديسمبر 1960 رفضا لسياسة ديغول وعبر شوارع مدينة الجزائر كانت النتائج أعنف بين رجال الأمن والمتظاهرين ،وصارت اللغة هي الضرب ،والقذائف المتبادلة بالقضبان والعصى والحجارة واستعمال القنابل المسيلة للدموع وقد كانت خطة جهاز الفروع الإدارية المدنية “SAU”هو الرد على الجنود وعلى الأوروبيين وعنجهيتهم بالسماح للجزائريين المسلمين للخروج للتظاهر لصالح ديغول والهتاف باسمه غير أن جبهة التحرير الوطني تدخلت وحسمت الموقف لصالحها وأمرت الشعب الجزائري بالهتاف لصالح التحرير والاستقلال بدلا من الهتاف لصالح ديغول وذلك ما حدث وانتشرت هتافات الشعب الجزائري في شوارع مدينة الجزائر وأحيائها تحت شعارات يحيا فرحات عباس،تحيا الجزائر،يحيا الاستقلال ، تحيا جبهة التحرير الوطني ونتيجة لذلك قام الفرنسيون برمي المتظاهرين الجزائريين بالرصاص وقاموا بمهاجمتهم ،حيث أسفرت نتائج ذلك في استشهاد الكثير منهم .
كما كان رد فعل الجيش سريعا المظليون يتدخلون بأمر قائدهم ماسو وبطلب من الجنرال المسؤول عن أمن مدينة الجزائر وقد ساندهم الأقدام السود في رمي المسلمين بالرصاص خلفت استشهاد 112 جزائريا بين نساء وشيوخ وأطفال
لقد أمر الجنرال موران بإطلاق النار على الجموع وكان خلفها الرائد سيرجون والجنرالات المبعدان لاغيارد وسالان بالتنسيق مع الجنرال جوهو في الجزائر وقد حرض هؤلاء ضد الاستفتاء الذي أقره الجنرال ديغول المحدد في 8جانفي 1961 والمتضمن لأنهاء النظام الاستعماري في الجزائر،كما تمرد هؤلاء في 22أفريل 1961 شال وسالان وجوهو وزيلير وذلك لزعزعة سياسة الجنرال ديغول في حين كثفت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من نشاطها الدبلوماسي في بلدان افريقيا وآسيا فشارك ممثلوها في مؤتمر الدار البيضاء بالمغرب بداية جانفي 1961 كما زارت وفودها اندونيسيا و جاكراتا وسنغافورة وماليزيا وكوالا لمبور وكولمبو
أما عن نتائج مظاهرات 11ديسمبر 1960 فيقول فرحات عباس: ” لقد كانت أحسن من العمليات العسكرية؛كانت رسالتها واضحة الجزائريون مستعدون للموت من أجل العيش أحراراوكان أثرها في هيئة الأمم المتحدة رائعا حيث استغل وزير الشؤون الخارجية هذه الأحداث كي يشجب مستنكرا جرائم فرنسا في حق الجزائريين الأبرياء كما صعد الشعب التونسي من لهجتهم منددين بذلك العنف والقمع الذي تعرض له الشعب الجزائري،وبهذا الشأن اتصل رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية فرحات عباس بالأمين العام لهيئة الأمم المتحدة السيد داغ هامار سكيولد، وبرئيس الولايات المتحدة وبخروتشيف وبتشوان لاي وبنهرو وبتيتو ،ومكميلان لطلب مساعدتهم وتدخلهم لإيقاف سفك الدماء البريئة ووقف سلسلة الجرائم الفرنسية التي يتعرض لها الجزائريون .