
بقلم احسن خلاص
تكتسي متابعة سيرة حياة المناضل والمؤرخ الجزائري محمد حربي أهمية قصوى بالنظر إلى ما تحمله من قراءة واعية ومتبصرة للأحداث التي عاشتها الجزائر منذ ولادته في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي إلى اليوم. وتكتسب هذه السيرة قيمة أكبر عندما يرويها محمد حربي نفسه مصحوبة بقراءات سوسيو-تاريخية لمختلف المحطات التي تناولها وبمسحة ذاتية طبيعية من منطلق أن الراوي لم يكن ملاحظا دارسا فحسب بل كان فاعلا في كثير من الأحداث. نحاول هنا أن نتتبع سلسلة من الحوارات التي جرت باللغة الفرنسية على موقع اليوتيوب بعنوان: “الجزائر الذاكرة والتاريخ” استعرض فيها مع الباحثين بيرنارد ريتشارد وروبي موردر حياته الدراسية والنضالية ونقدم ما تيسر منها للقارئ العربي.
امتدت صلاتنا في باريس إلى الجمعيات الدينية مثل الجمعية التي كان يشرف عليها مون سينيور لوستيجر ويقع مقرها قرب جامعة السوربون وقد كان وراء هذه الصلة البروفيسور لويس ماسينيون الذي كان يتابع حياة إفريقيا الشمالية من بين عدد قليل من المهتمين من المحامين والمؤرخين وعلى رأسهم البروفيسور شارل أندري جوليان الذي كان يدرّس في الجامعة تاريخ الاستعمار.
صعوبة الحياة الطلابية
في ما يتعلق بالإيواء كانت القلة من الميسورين يسكنون في المقاطعات لكن بالنسبة للسواد الأعظم كان السكن يمثل مشكلة عويصة، ولحل المشكلة كان لابد من ربط العلاقة مع الحزب الشيوعي لتوفير فرصة السكن في المنازل الجماعية حيث تحولت مواخير قديمة إلى دور للطلبة لكن الأغلبية كانت تسكن في أماكن أخرى غير المنازل الجماعية وفي الأحياء الجامعية تحت ظروف مزرية في العادة. أما أنا فقد سكنت في البداية في غرفة تقع في الضواحي ثم انتقلت إلى باريس لكني لم أتحصل أبدا على غرفة بالحي الجامعي. سكنت في غرفة بديلة لصديق عاد إلى الجزائر إثر وفاة أخيه ولم يعد إلى فرنسا إلا عاما بعد ذلك أي عشية اندلاع الثورة، وقد شهدت تلك الغرفة الاجتماع الأخير للجنة الفيدرالية أثناء انقسام حركة انتصار الحريات الديمقراطية وفي هذه الغرفة أيضا كانت بداية اللقاءات بين قدماء المنظمة الخاصة والمركزيين من الحركة. في إحدى الاجتماعات كان آخر الملتحقين موسى بولقروة وكان يبصر بصعوبة شديدة. ولم تمض إلا خمس دقائق من التحاقه بالاجتماع حتى انصرف بوضياف وديدوش وبعد انتهاء الاجتماع سألت الطيب بولحروف عن سبب انصراف الرجلين فقال لي: لما دخل بولقرة إلى الغرفة فتح النافذة ليتأكد من أن لا أحد وراءه ولما رأى بوضياف وديدوش ذلك احترسا من أن يكون بولقروة قد حدث الناس عن مكان الاجتماع. كانت العائلة تتكفل بجميع نفقاتي خلال فترة دراستي الجامعية. كان لدي مبلغ كافي لسد حاجاتي الفردية لكنها لم يكن يكفي عندما أتقاسمه مع الأصدقاء فدفاتر التذاكر كنا نتقاسمها في معظم الأحيان.
نشاط الطلبة في الحزب
كنا نغتنم عطلة الأسبوع يومي السبت والأحد للالتقاء بالمهاجرين والحديث معهم وتوزيع الجريدة والمشاركة في الاجتماعات فقد كان الحزب يستعملنا وفق حاجاته. لم يكن لنا دور خاص. أتذكر أن الحزب أعد مذكرة حول احتمال حدوث حرب عالمية ثالثة أكد فيها أنه لن يشارك في هذه الحرب إذا لم تتوفر مسبقا شروط ضامنة لاستقلال الجزائر. كنا نعقد اجتماعات حول موضوعات محددة بمناسبة الانتخابات ونبحث عما إذا كان من المناسب أن يشارك الجزائريون المسجلون في فرنسا في التصويت ولماذا التصويت وعلى من. كانوا يستعملوننا عادة لإلقاء محاضرات ذات طابع سياسي محض مثل شرح مكانة الجزائر القانونية ولماذا رفضها الحزب وما هو المجلس التأسيسي وما هي شروط ولادته. كانت لدينا مكانة خاصة في الحزب حيث أن عدد من أتيح له الصعود في السلم كان كبيرا فالتعيين في المناصب القيادية كان ضمن فئة الطلبة. كان يطلب منا أيضا الكتابة في الصحافة حيث كانت لدينا نشرة خاصة بالطلبة ونشرة أخرى للحزب. ظهرت بوادر استقلالية التنظيم الطلابي عن التنظيم السياسي عبر اتحاد الطلبة الجزائريين بباريس وقبله كنا ضمن الاتحاد الوطني لطلبة إفريقيا الشمالية لكن الشيوعيين كانوا يرون أن الطلبة الوطنيين المغاربة متفقون بينهم على صد الأبواب أمام انضمامهم إلى المنظمات لذا فكروا في إنشاء جمعيات طلابية على الصعيد الجزائري. وأمام انسحاب التونسيين والمغاربة صارت حركة انتصار الحريات الديمقراطية في موقف ضعيف بالمقارنة مع الشيوعيين وأنصار الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء بالرغم من أن عدد الطلبة الممثلين لهذه الأحزاب قليل جدا.
بين العلمانية والبعد العربي الإسلامي
كان خط القطيعة بين الطلبة يقع عند ذكر مسألة الأمة فالحزب الشيوعي كان ينطلق من أن الجزائر علمانية بينما انقسمت حركة انتصار الحريات الديمقراطية إلى فريقين، فريق علماني ارتبط وجوده بالحزب بمطلب الاستقلال مقابل أغلبية كانت مع جزائر عربية إسلامية وكان هذا الاختلاف وراء انشقاقي عن الحركة في الممارسة وتأييدي للحزب الشيوعي والاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري من أجل جزائر علمانية. كانت جمعية العلماء تطالب بجزائر عربية إسلامية، لكن مشكلتها الكبرى كانت تمكنها من إدارة الشؤون الدينية فعندما كانوا يطالبون بالفصل بين الدولة والعبادة لم تكن دوافعهم علمانية بل كان ذلك بدافع الرغبة في الاستحواذ على الدين. ولعل من بين أسباب التباين القائم ونفور الكثير من الطلبة من حركة انتصار الحريات الديمقراطية أن خطابها الجديد لم يعد جذابا للاهتمام إذ صار يركز على الإعداد للعمل المسلح والعنف. وحتى الحياة اليومية ضمن المحيط الطلابي الشيوعي كانت أكثر نشاطا من الأوساط المهاجرة التي كنا نذهب إليها في نهاية الأسبوع. كان بالفعل فضاء للقاء والحديث في السياسية حيث كانوا يطلبون منا إلقاء محاضرات حول ما كان يحدث داخل البلد. كان تاريخ 21 فبراير، يوم الطالب، يوما للعراك مع البوليس. في هذا المحيط التقيت دانيال قيران (كاتب فرنسي ثوري) عام 1953 بمناسبة ندوة نشطتها في نادي لينين حيث تعرفت على آخرين من أمثال جاك دانوص وسيمون مانقي وإيف ديشيزيل الذي كنت ألتقيهم بعد ذلك، أي بعد انقسام حركة انتصار الحريات الديمقراطية وبدء الثورة التحريرية.
انقسام الطلبة الجزائريين
بدأ طرح قضية الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين مقابل الاتحاد الوطني للطلبة المسلمين الجزائريين بعد إنشاء الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين بباريس حيث قررت حركة انتصار الحريات الديمقراطية استدراك التأخر في التأطير بالمقارنة مع الحزب الشيوعي فقررت إنشاء اتحاد وطني غير أن الطلبة الشيوعيين كانوا مترددين في الانضمام خوفا من عدم قبولهم في الاتحاد الوطني للطلبة الفرنسيين. في النهاية كان هناك تياران، أحدهما كان مع إنشاء الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين والآخر مع إنشاء الاتحاد العام للطلبة الجزائريين فقد انعقد مؤتمران في اليوم ذاته حيث تم تعيين قيادة لاتحاد الطلبة الجزائريين على رأسها صالح خلاف ولما علمت أن جبهة التحرير الوطني كانت تؤيد الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين طلبت من قيادة الاتحاد العام للطلبة الجزائريين الالتحاق بالاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين بشكل غير مباشر عن طريق الالتحاق بجبهة التحرير الوطني فكانت النتيجة أننا سبقناهم إلى احتلال مناصب المسؤولية داخل جبهة التحرير الوطني لأن التحاق طلبة الاتحاد الوطني للطلبة المسلمين الجزائريين بالجبهة لم يتم إلا بعد انضمام المركزيين إليها مع نهاية 1955 وبداية 1956. كان الصراع قائما منذ البداية حول طبيعة الاتحاد الطلابي بين أنصار الاتحاد غير الديني الحاضرين بقوة في باريس وأنصار الاتحاد الديني الحاضرين بقوة في مونبوليي وبوردو. لم يكن الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين حاضرا بقوة بالجزائر بل إن رئيسه عبد السلام بلعيد لم يكن مرغوبا فيه إذ تحالف ضده الشيوعيون وأنصار الاتحاد الديمقراطي والعلماء فاضطر إلى الانتقال إلى فرنسا. كان الحزب الشيوعي الفرنسي ضد فكرة إنشاء اتحاد جزائري للطلبة خاصة بعد اندلاع الثورة حيث صار يتضايق من وجود طلبة جزائريين في اللقاءات الدولية بعدما أصبحوا يرفعون العلم الجزائري ففي مؤتمر الشباب المنعقد بوارسو رفض الفرنسيون احتفال الجزائريين بالعلم الوطني. لكن الوفود العربية أيدت الشباب الجزائري في ذلك وهددت بالانسحاب إذا لم يسمح للجزائريين برفع رايتهم الوطنية.