أقلامالأولى

الجزء التاسع والعشرون.. بن بله هو من اقترح كريم لقيادة الوفد المفاوض

بقلم احسن خلاص 

تكتسي متابعة سيرة حياة المناضل والمؤرخ الجزائري محمد حربي أهمية قصوى بالنظر إلى ما تحمله من قراءة واعية ومتبصرة للأحداث التي عاشتها الجزائر منذ ولادته في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي إلى اليوم. وتكتسب هذه السيرة قيمة أكبر عندما يرويها محمد حربي نفسه مصحوبة بقراءات سوسيو-تاريخية لمختلف المحطات التي تناولها وبمسحة ذاتية طبيعية من منطلق أن الراوي لم يكن ملاحظا دارسا فحسب بل كان فاعلا في كثير من الأحداث. نحاول هنا أن نتتبع سلسلة من الحوارات التي جرت باللغة الفرنسيةعلى موقع اليوتيوب بعنوان: “الجزائر الذاكرة والتاريخ” استعرض فيها مع الباحثين بيرنارد ريتشارد وروبي موردر حياته الدراسية والنضالية ونقدم ما تيسر منها للقارئ العربي. 

كان أول من زار بكين هو بن يوسف بن خده ثم تلتها زيارة أخرى بوفد حكومي قاده كريم فصارت بكين متاحة للجميع أما موسكو فقد زارها بن خدة ثم وفد قاده عباس وآخر قاده كريم. كنت دائما أظهر توجهاتي الماركسية وأشرح لمن حولي أن ضمن الماركسية والشيوعية هناك مدارس مختلفة وكانوا من قبل يعتقدون أن الماركسية تتلخص في الحزب الشيوعي الفرنسي منطلقين من نص كنت قد حررته تحت عنوان الحزب الشيوعي الفرنسي والثورة الجزائرية وصدر في أدبيات الأممية الرابعة. وبغض النظر عن الاختلافات الإيديولوجية فإن الحركة الطلابية كانت تعيش ازدحاما فأي ذريعة يمكن أن تصلح لإقصاء وإزاحة كل من يعترض الطريق فقد كنت أناضل طوال الأربع والعشرين ساعة. 

بعد الاستقلال، وخلال محادثات بين بن بله والسوفياتيين كانت لي على الهامش مناوشة مع خروتشوف حول اليوغسلافيين لأن السوفياتيين كانوا يعتبرون أن التسيير الذاتي ولد الرشوة أكثر من قطاع الدولة، وقد أجبته حول هذا الموضوع. ولما حلت المحادثات الرسمية مع السوفياتيين عمد بن بله إلى إقصائي بسبب هذه المناوشة مع خروتشوف حتى أنه قدم جميع مساعديه إلا أنا. لم تكن الاختلافات مع السوفياتيين فقط فقد كانت أيضا مع اليوغسلافيين حول القنبلة الذرية الصينية إذ كان رأيي أن لا شيء يمنع الصين من اكتساب قنبلة ذرية ومع الصينيين خلال زيارة بيتر هايم رئيس لجنة التضامن الأفروآسيوية عندي في مكتبي بمجلة الثورة الإفريقية حاملا تهاني وهدايا من عند شوان لاي. وكانت مجلة الثورة الإفريقية تأخذ منهم الإشهار ضمن معركة تنافسية مع السوفياتيين فطلبت من الصينيين الكف عن ذلك فمجلة الثورة الإفريقية ليست ساحة لمعركة تصفية حسابات بين الصينيين والسوفياتيين. وكان مقال كتبه أحد أنصار ماوتسيتونغ، أنغولي اسمه أكينو دو برانغانكا حول ما أسماه “صين ماو” قد أثار حفيظة السفارة الصينية وأدى إلى حادث ديبلوماسي حيث زارني السفير الصيني في مكتبي محتجا بلهجة شديدة فطلبت منه أن يكتب لنا تصحيحا رسميا من السفارة فرفض وطلب مني أن تقوم المجلة ذاتها بالتصحيح لكني امتنعت عن ذلك محتفظا له بحق نشر الرد فقط. خرج من المكتب عنوة وذهب يشتكي لوزارة الشؤون الخارجية. 

خلال المفاوضات لم تكن مسألة القواعد العسكرية لاسيما قاعدة المرسى الكبير عائقا بالنسبة لجبهة التحرير الوطني فقد كانت مستعدة للتعاطي معها. كانت المشكلة الأساسية هي جزائرية الصحراء ودون ذلك كان الوفد مستعدا لتقديم أقصى التنازلات. في وزارة الشؤون الخارجية كنا قد بدأنا حتى قبل الشروع في المفاوضات نضع أنفسنا في موقع الدولة حيث كنا نتحدث عن الثروات الوطنية مع الشركاء عندما تواصلنا مع إيني الشركة البترولية الإيطالية وشركة كروب الألمانية وشركات أخرى حيث حذرناها من عقد اتفاقات مع فرنسا في هذا المجال.

 أعتقد أن ما كان في صالحنا هو الوضع الداخلي في فرنسا الذي دفع ديغول إلى الرغبة في إنهاء المسألة في أقرب وقت فلو اتبع مواقف المفاوضين الفرنسيين لطال بنا الزمن أكثر، ليس بسبب المنظمة السرية فقط بل بفعل مقاومة العسكريين. وقد ذكر لي رضا مالك أن الجنرال فيليب دو كاماس الذي وقع اتفاقيات إيفيان عن العسكريين أسر له في مقابلة له بعد سنوات، لأنه احتفظ بعلاقات مع جميع المفاوضين الفرنسيين، أنه منبوذ من قبل زملائه فلا أحد يتصل به ولا يتصل بأحد بسبب توقيعه. لم يكن سهلا على العسكريين الفرنسيين أن يهضموا خروجهم من الجزائر فقد ظلت أذهانهم معلقة بالجزائر الفرنسية وظهر ذلك في لقاء بين المؤرخين نظمه بعد الاستقلال شارل جوفري دعا الجنرالات الذين كانوا في الخدمة في الجزائر، كانت مداخلاتهم توحي وكأنه لم تصبح الجزائر دولة فطلبت رفع الجلسة للحديث معهم فقلت لشارل جوفري: نحن جئنا للحديث في التاريخ فإذا احتفظتم بمصطلحاتكم وتصوراتكم فإننا سنغادر. لكنهم عادوا بعد مدة وقالوا إن الحق معنا وتعهدوا بان لا يستعملوا مجددا هذه العبارات. أتفهم آلامهم لأنهم كانوا يعتقدون بمنطقهم العسكري المحض أنهم متقدمون في الميدان وأن ذلك يمكن أن يتكرر يوما ما. لكن انتصار جبهة التحرير الوطني كان يكمن في أنها حولت مواقف الجزائريين نهائيا كما حول وضع الجزائر من مجرد محافظة فرنسية إلى مستعمرة يجب أن تنال استقلالها. هناك صديق اسمه محند زقاغ أنجز كتابا حول جرائم المنظمة الخاصة ضمنه مناشير المنظمة التي تدعو إلى اغتيال جميع الأطباء وجراحي الأسنان أو جعلهم تحت إمرتها وهي أفعال شبيهة بأفعال النازية، كانوا يستهدفون كل القدرات المؤهلة حيث أخذوا أشخاصا من المستشفيات وقتلوهم. 

أما في مسألة الصحراء فقد وجدنا صيغا للتعاون لكن السيادة على الإقليم عادت إلى الجزائر فقد عقدنا اتفاقات على المدى الطويل أعيد النظر فيها تدريجيا،إذ حتى لما أرادت الحكومة القيام بالتأميم لم تؤمم إلا جزء ولم تأخذ الكل. خلال المفاوضات كان التوجه اليساري يوصي بالتفاوض على النفط لأن اكتشاف الغاز كان صدفة وضمن مسار الاستثمار حول البترول فليس هناك رأسمال وضع للبحث عن الغاز. 

وبالعودة إلى مسألة قيادة الوفد المفاوض، كان اختيار بلقاسم كريم باقتراح من بن بله، فقد كان هذا الاختيار في الواقع ضمن حسابات سياسية لأن كريم كان مدعوا لتحمل مسؤولية جميع التنازلات والمفاهمات. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى