أقلامالأولى

الجزء الثالث: الانطلاق المحتقن والفرصة الضائعة

بقلم احسن خلاص
خلال مسيرة البناء الوطني التي عكف عليها الجزائريون في السنوات الأولى للاستقلال كانت الحاجة الكامنة إلى الحوار بينهم قوية وملحة بالرغم من أن مقتضيات الاستحواذ على السلطة والانفراد بالقرار التي سيطرت على أذهان النخب السياسية والعسكرية كانت سيدة الموقف، فكان لها دور هام في تفويت العديد من الفرص في سبيل إرساء الحوار كوسيلة حضارية للبناء السياسي الجديد. وقد ساعد على تفويت الفرصة على الحوار ليكون آلية البناء الوطني الجديد السياق التاريخي والدولي الخاص الذي توفر لولادة الجمهورية الجزائرية. إذ أن عودة السيادة إلى الكيان الجزائري مر على حرب تخلصت من نظام استعماري إقصائي من جهة وخادم للمصالح الليبرالية الإمبريالية العالمية من جهة أخرى ولم يكن متوفرا أمام الجزائر المستقلة إلا اتباع النهج الاشتراكي والانضواء تحت لواء ما كان يسمى بالديمقراطيات الشعبية وتحت حماية الاتحاد السوفياتي.
وحتى قادة الثورة التحريرية الذين التقوا في دورة طرابلس للمجلس الوطني للثورة الجزائرية في ماي 1962 لم يروا ما كان يدعو إلى فتح نقاش عميق تتضارب فيه الآراء حول مشروع المجتمع ولم يجد مكتب الدورة أي عناء في كسب التصديق على الميثاق الإيديولوجي للجزائر المستقلة الذي لم يلق اعتراضا حتى من أعتى المدافعين عن الليبرالية من أمثال عباس فرحات، بينما تحولت الدورة إلى حلبة للمصارعة عندما فتحت النقاش حول القيادة التي تتولى تنفيذ تلك التوجهات السياسية والإيديولوجية الكبرى بما فيها التوجه نحو الإبقاء على الأحادية الحزبية.
غير أن أزمة صيف عام 1962 بينت إلى أي حد فشلت قيادات الثورة التحريرية في بناء أرضية حوار ديمقراطية عكس النجاح الذي حققته في حرب التحرير ذاتها، وبينت كذلك كيف أخلفت الجزائر موعدا تاريخيا مفصليا لقيام حوار وطني يكون الإقصاء أحد ضحاياه وهي التجربة التي لم يكن عبد الحميد مهري يريد أن تتكرر في خضم الأزمة الثانية التي وقعت فيها الدولة الجزائرية خلال التسعينيات.
لم يكن النظام القائم منذ بداية الاستقلال وإلى غاية نهاية الثمانينيات من القرن الماضي يؤمن بوجود أطراف سياسية من حقها أن تمثل قطاعا من المجتمع فكل محاولة لتنشيط الساحة السياسية وإبراز آراء وأطروحات أخرى خارج الطرح الرسمي ترمى بالخيانة وخدمة مصالح الاستعمار والامبريالية ولم يكن ينظر النظام للأحزاب السياسية التي نشأت في السرية إلا بكونها امتدادا لأنظمة الديمقراطيات البورجوازية بالرغم من أن التجربة الحزبية لم تكن غريبة عن الجزائريين منذ بداية القرن الماضي وفي ظل النظام الاستعماري. وذكر الرئيس بن بله في أحد أحاديثه أن الانقلاب عليه في 19 جوان 1965 فوت فرصة تاريخية أمام نشوء النواة الأولى للتعددية الحزبية فقد وافق الرئيس بن بله أربعة أيام قبل الانقلاب على الاعتراف بحزب جبهة القوى الاشتراكية كطرف سياسي ثان إلى جانب حزب جبهة التحرير الوطني قبل أن يتاح المجال لنشوء أحزاب أخرى وفتح عهد التعددية.
لم تكن الجماعة التي قادت الانقلاب ترى ضرورة التحاور مع المجتمع عن طريق ممثلين مستقلين بالرغم من أنها اتخذت من المنظمات الجماهيرية جسورا للتفاعل مع “الجماهير الشعبية” المقسمة كما في الديمقراطيات الشعبية المنتشرة في أوروبا الشرقية آنذاك إلى فئات تمثل الشباب والعمال والنساء والفلاحين والتجار أو ما كان يسمى في القاموس الرسمي آنذاك بالقوى الحية للأمة. كانت هذه القوى هي التي كانت تدير الحوار الوطني وفق أجندة مبنية على طرح انشغالات القاعدة ونقلها للقمة عن طريق هياكل حزب جبهة التحرير الوطني ومنظماته الجماهيرية التي كانت تستند على ترسانة إعلامية من الإعلام المكتوب والإعلام الثقيل.
ومن أهم فضاءات الحوار التي نظمها حزب جبهة التحرير الوطني رفقة منظماته الجماهيرية النقاش العام حول الميثاق الوطني عام 1976 فقد كان نقاشا جرى على النهج الديمقراطي الأثيني بشهادة من حضره وساهم فيه، حيث أتيح المجال للنقاش السياسي الحر شريطة أن لا يمس بثوابت الأمة ومرجعيتها الاشتراكية غير القابلة للرجعة. واعتبره الذين تذكروا تلك الفترة بأنه كان متنفسا ديمقراطيا في ظل نظام ديكتاتوري شعبوي وهو الحوار الذي أفضى أيضا إلى ميلاد دستور جديد فتح الباب لأول انتخابات تشريعية في ظل الحزب الواحد كانت السلطة حريصة على أن يكون المجلس الشعبي الوطني الوليد منبرا للحوار الحصري الذي لم يكن يتاح إلا لممثلي المنظمات الجماهيرية. كان النظام يرى أن من دخل حزب جبهة التحرير الوطني في الثمانينيات فهو آمن إذ كانت مؤتمراته منبرا للنقاش بين ما كان يسمى آنذاك “الحساسيات السياسية” فقد كان يضم إطارات ذات توجه إسلامي تقليدي إلى جانب رفقاء شيوعيين كما كان يضم مدنيين وعسكريين يوم كان الفصل بين الجيش والسياسة غير مطروح البتة وكان يضم فرانكفونيين يجلسون جنبا إلى جنب مع العروبيين، إلى حد كانت جلسات اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني فضاء لبروز حوارات حادة بين ليبراليين وإصلاحيين وبين محافظين متمسكين بنهج النظام القديم وقد كان النقاش الوطني الثاني حول الميثاق الوطني نهاية 1985 فرصة لبروز الاختلاف والتعدد داخل حزب جبهة التحرير الوطني وهو الاختلاف الذي مهد الطريق للإصلاحات التي ظهرت بعد أحداث أكتوبر 1988.
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى