أقلامالأولى

الجزء الثامن والعشرون.. بين كوناكري والقاهرة مطبات في طريق المفاوضات

بقلم احسن خلاص 

تكتسي متابعة سيرة حياة المناضل والمؤرخ الجزائري محمد حربي أهمية قصوى بالنظر إلى ما تحمله من قراءة واعية ومتبصرة للأحداث التي عاشتها الجزائر منذ ولادته في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي إلى اليوم. وتكتسب هذه السيرة قيمة أكبر عندما يرويها محمد حربي نفسه مصحوبة بقراءات سوسيو-تاريخية لمختلف المحطات التي تناولها وبمسحة ذاتية طبيعية من منطلق أن الراوي لم يكن ملاحظا دارسا فحسب بل كان فاعلا في كثير من الأحداث. نحاول هنا أن نتتبع سلسلة من الحوارات التي جرت باللغة الفرنسيةعلى موقع اليوتيوب بعنوان: “الجزائر الذاكرة والتاريخ” استعرض فيها مع الباحثين بيرنارد ريتشارد وروبي موردر حياته الدراسية والنضالية ونقدم ما تيسر منها للقارئ العربي. 

لم تسند لوفد الخبراء مهمات كبيرة فقد اشتغلنا على مسألة الحدود مع الجوار وعلى قضية الأقليات الأوروبية وقد ترأست لجنة انكبت على مسائل جزئية كانت قد تمت دراستها من قبل. كنا بالمقابل نتابع المفاوضات ولما وصلتنا النصوص في اليوم الثالث قلت وزميل لي لكريم إنه لا نلاحظ أي نافذة للانفراج هذه المرة وليس أمامنا إلا خيار تعليق المفاوضات لأنها لن تذهب بعيدا بسبب عدم نضج القضايا بما يكفي لذلك. أتذكر أن ردة فعل بلقاسم كريم كانت تلقائية ومتوترة وقد التفت إلينا قائلا: لابد أن تجدوا لنا حلا أنتم المثقفون لا أريد أن أعود فارغ اليدين لأقابل أعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية المجندين ضد الحكومة.

لكن الأمور هدأت بعد أيام فقط وعدت إلى غينيا عند احمد سيكو توري وسافرت منها إلى مالي وغانا بعد تأسيس مجموعة التقدميين في الدار البيضاء المغربية التي تضم الجزائر والمغرب ومصر ومالي وغانا وغينيا. كان المغرب يطالب بضم موريتانا بينما كان انشغال البلدان الباقية إيجاد حل مع فرنسا وقد شكلت هاتان القضيتان عقبة أمام التفاف البلدان الإفريقية حول جملة من القضايا فكان يجب انتظار استقلال الجزائر ليتم ذلك. مكثت بغينيا إلى غاية سبتمبر، كانت لي فرصة حضور النزاع بين غينيا والاتحاد السوفياتي والالتقاء بكل الشيوعيين الذين عرفتهم في فرنسا حيث جاءوا إلى هناك لمساعدة الحكومة الغينية وقد كانوا جامعيين مختصين في التجارة الخارجية والمؤسسات. 

ولما عدت من غينيا وجدت أزمة صغيرة نتج عنها إنشاء حكومة مؤقتة جديدة برئاسة بن يوسف بن خده فدعيت لتولي مهمة الأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية. وهنا بدأت في تصنيف أرشيف الوزارة وعثرت على وثائق وقعها محمد خيضر منها رسالة بعث بها بعد معركة ديان بيان فو كل من علال الفاسي من المغرب وإبراهيم طوبال من تونس ومحمد خيضر من الجزائر تدعو الولايات المتحدة الامريكية للتدخل لكيلا تتوجه إفريقيا الشمالية إلى الشيوعية.وضمن مهامي أني قدمت اقتراحات حول مستقبل الحدود مع الجوار لكن لا أحد اهتم بها مع أنها كانت مسائل ملحة حيث أن التونسيين جاءوا إلى الجزائر في عز أزمة صيف 1962 وانقسام الحكومة إلى طرفين متصارعين لطرح القضية عبر مبعوثها سليم بن غازي الذي استقبلته وأحلته على بن يوسف بن خده الذي قال إن القضية تعني الحكومة كلها فأخذته عند بن بله وأردت حضور المحادثات بينهما لإعداد محضر، وكنت على علم بموضوع زيارة سليم بن غازي، إلا أن بن بله رفض حضوري لكني نبهته إلى أن مسألة الحدود مهمة جدا وكل ما يقال لابد من تسجيله والحفاظ عليه في الأرشيف. لذا علمت بما دار بينه وبين بن خده ولم يترك أي أثر عن ما دار مع بن بله. لم يكن ما قام به بن بله نابعا من موقف رجل دولة بل هو مرتبط بخلفيات شخصية متعلقة بالأزمة والاتهامات التي تلقاها مثل تهمة التواطؤ مع المغرب والحديث عن أصوله المغربية.

في وزارة الشؤون الخارجية كنت أقود بمساعدة الوزير لجنة ذات كفاءة قامت بإعادة تنظيم الوزارة بصفة جذرية، كان لابد من فتح مناصب جديدة مثل إنشاء منصب الموفد إلى أمريكا اللاتينية فأرسلنا وفدا بقيادة الأمين العام السابق مبروك بلحوسين مع أبي بيرانغي من وهران الذي وقف إلى جانب استقلال الجزائر ثم فتحنا منصبا آخر بأنقرة بالرغم من تردد الحكومة التركية كما قمنا باستبدال رؤساء بعض الوفود بأناس جاءوا كلهم من الطاقم السياسي للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين. 

وأذكر أني لما كنت مديرا للإعلام عقدت بمبادرة مني ودون أن يكلفني أحد، اتفاقا مع مدير جريدة الأهرام محمد حسنين هيكل لتكوين صحافيين وتقنيين في الصحافة فكونا ما يقارب 10 أفراد جاءوا من الحركة الطلابية في البلدان العربية وبعد الاستقلال تولوا مسؤوليات الجرائد الوطنية والمطابع وغيرها. 

استفدت مع الوزير الجديد سعد دحلب من هامش هام من الحرية حيث كان يغطي جميع مبادراتي التي لم تكن تمر على الفلترة الحكومية في حين كانت مهمتنا الرئيسية متابعة عمل الحكومة والمبادرات التي تأتي من الوفد المفاوض للفرنسيين. كنا نعد تقارير يومية ونعلم جميع حلفائنا بسير المفاوضات. قدمنا جملة من الاقتراحات حول التسيير والتعيين لكنها لم تلق الرد فقررنا يوم 15 فبراير 1962 بمبادرة مني تقديم استقالة جماعية من وزارة الشؤون الخارجية احتجاجا على الزبائنية التي انتشرت في الوزارة وظل يشتكي منها الجميع دون أن يفصل أحد في الأمر، ومن الأمثلة على خطورة وضع التسيير أنه خلال ندوة بلغراد حيث كنت عضو الوفد الجزائري وحررت الخطاب الذي ألقاه بن خده في الندوة. هناك كنا في ضيافة اليوغسلافيين. لكننا قدمنا من قبل لأحد ممثلينا هناك مبلغ 10 ألف دولار للقيام على حسن سير إقامة الوفد الجزائري لكن هذا الممثل لم يرد إعادة المبلع إلى خزينة الحكومة لأنه وجد سندا ما من أشخاص نافذين في الحكومة. ولما عرضنا المسألة على الوزير دحلب رفض الخوض فيها بحجة أنها قضية ثانوية وأنه لا يريد الدخول في معارك مع الوزراء الآخرين لأنه كان بحاجة إلى دعمهم لإتمام مفاوضات إيفيان. كان ردنا أن هذه المسألة ليست ثانوية لأنها ليست المسألة الوحيدة ولما نعود إلى البلد مع أناس مثل هذا ستقع كارثة حقيقية. وثمة نقطة خلاف لنا مع الحكومة المؤقتة تتعلق بكوبا التي كنا نريد أن تتكون معها علاقات وهنا كان رأينا متطابقا مع قيادة الأركان التي قامت باتصالات مع كوبا حيث أرسلت بأطفال إلى هناك للتمدرس والعودة بعد الاستقلال. لم تكن كوبا في ذلك الوقت على ما صارت عليه من بعد فقد كانت بلدامقاوما للضغوط الامريكية دون أن يحدث قطيعة تامة مع الأمريكان. 

كان دور وزير الخارجية أساسيا في المفاوضات فقد كان بلقاسم كريم رئيس الوفد وكان معه لخضر بن طوبال ومحمد يزيد لكن المحاور الحقيقي للويس جوكس كان وزير الشؤون الخارجية سعد دحلب الذي كان مرفوقا خلال كل أطوار المفاوضات بمحمد بن يحيى ورضا مالك وهما عنصران من الحركة الطلابية. كان دحلب الذي تولى وزارة الخارجية في 1961 في حكومة بن خده مفاوضا بارعا وبعد الاستقلال لم يكن بن بله يحبه فاكتفى بتعيينه سفيرا بالمغرب ولم يدم مقامه طويلا هناك فعاد وتولى الإدارة العامة لمؤسسة بيرلي الجزائر قبل أن يغادر خدمة هيئات ومؤسسات الدولة وينشئ دار نشر خاصة وبعد أحداث أكتوبر عاد إلى الواجهة لكنه اكتفى أساسا بإدارة أعماله الخاصة التي برع فيها لذكائه وتجربته حيث كان كاتب مصالي في قصر الشلالة عندما وضع فيها تحت الإقامة الجبرية وكان عضو لجنة التنسيق والتنفيذ المنبثقة عن مؤتمر الصومام حيث شكل رفقة بن خده وعبان مجموعة توطدت بسبب الصلة القديمة بينهم عندما كانوا تلاميذ بثانوية البليدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى