
ممحمد سعيد بوسعدية: باحث حر
صدفة جميلة أن تهتم نخب المغارب بدراسة وتحليل ونقد وتفكيك مختلف العقول التي تنتمي إليها شعوب المغرب الكبير عبر تاريخها الطويل. لقد اهتم محمد أركون بدراسة ونقد العقل الإسلامي منطلقا أساسا من بنيته الفقهية (أصول الفقه) والكلامية (أصول الدين)؛ واهتم محمد عابد الجابري بدراسة ونقد العقل العربي منطلقا أساسا من بنيته اللغوية والفقهية والثقافية البيانية والعرفانية والبرهانية؛ واهتم علي الإدريسي بدراسة ونقد العقل المغاربي منطلقا أساسا من بنيته الثقافية عبر تاريخه الطويل الممتد من العهد الفينيقي إلى قيام الدول الوطنية المغاربية. نحاول في الجزء الثاني من مقالنا هذا، التطرق باختصار شديد إلى مفهوم العقل العربي عند محمد عابد الجابري.
بادئ ذي بدء، يشير الجابري إلى أن مشروع نقد العقل العربي كان يجب أن ينطلق منذ مائة سنة (الدراسة نشرت في سنة 1984)، فنقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة، فلا يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورُؤاه. لقد تمّ خلال المائة سنة الماضية تكريس تصورات وآراء ونظريات حول الثقافة العربية بمختلف فروعها، مما رسّم قراءات معينة لتاريخ هذه الثقافة: قراءات استشراقية أو سلفية أو قوموية أو يسراوية توجهها نماذج سابقة، أو شواغل أيديولوجية ظرفية جامحة، مما جعلها لا تهتم إلا بما تريد أن تكتشفه أو تبرهن عليه. ومن ثمة فإن عملية النقد المطلوبة تتطلب التحرر من أسار القراءات السائدة واستئناف النظر في معطيات الثقافة العربية الإسلامية بمختلف فروعها، دون التقيد بوجهات النظر السائدة.
وعلى غرار محمد أركون، يطرح الجابري إشكالية نعت “العربي” للعقل. يتساءل: هل هناك عقل خاص بالعرب دون غيرهم؟ أوليس العقل خاصية ذاتية للإنسان، تميزه وتفصله عن الحيوان؟ وهل يتعلق الأمر ومن جديد بذلك التمييز الذي أقامه بعض المستشرقين والمفكرين الأوروبيين في القرنيين السابقين بين العقلية السامية التجزيئية الغيبية والعقلية الآرية التركيبية العلمية؟ أم أنّ الأمر يتعلق هذه المرة بسِر جديد من الأسرار التي لا يفتأ العرب المعاصرون يكتشفونها في أنفسهم ويقرأون فيها عبقريتهم وأصالة معدنهم؟ يواصل الجابري، ويقول: لقد كان يمكن تفادي مثل هذه التساؤلات لو أننا استعملنا كلمة “فكر” بدل كلمة “عقل”، بيد أن مصطلح الفكر عندما يرتبط بشعب ما كالفكر العربي أو الفكر الفرنسي، يمسي معناه جملة الآراء والأفكار التي يعبر بها ومن خلالها ذلك الشعب عن اهتماماته وانشغالاته ومثله الأخلاقية ومعتقداته المذهبية وطموحاته السياسية والاجتماعية. فالفكر بهذا المعنى هو الإيديولوجية، ولا يلبي مقصدنا. فالهدف ليس دراسة الأفكار ذاتها، بل الأداة المنتجة لهذه الأفكار؛ صحيح أنّ هناك تداخلا بين الفكر كأداة لإنتاج الأفكار والفكر بوصفه مجموع هذه الأفكار ذاتها، وهو تداخل يعكسه الكثير من اللغات ومنها اللغة العربية المعاصرة. وهو في الحقيقة تمييز مصطنع مثلما هو مصطنع ذلك التمييز الذي كان الفلاسفة القدماء يقيمونه بين العقل والمعقولات، إذ كانوا يعنون بالعقل القوة المدرِكة وبالمعقولات المعاني المدرَكة. لكن هذا التمييز ولو كان اصطناعيا فهو ضروري لاعتبارات منهجية لا غير. ومن ثمة فمفهوم العقل العربي عند الجابري – مبدئيا – ليس شيئا آخر سوى الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات، الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام وتعكس واقعهم أو تعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبلية كما تحمل وتعكس وتعبر في الوقت ذاته عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن.
بعد هذا التبرير لاستعمال وصف “العربي” للعقل وتحديد مغزاه، ينتقل الجابري إلى تعيين الزمن الثقافي الذي ينطلق منه، إلى جانب مكونات العقل العربي. وكما عيّن أركون لحظة ظهور رسالة الشافعي كخط زمني للماقبل وللمابعد، وأعطى أولوية لعلم أصول الفقه لتحديد العقل الإسلامي، فإن الجابري عيّن عصر التدوين كخط زمني ليشكل حلقة وصل للماقبل، أي العصر الجاهلي وفجر الإسلام والعهد الأموي، والمابعد، أي العصور العباسية المختلفة وعصور الانحطاط، وأولى مكانة رئيسية للغة العربية في تحديد مكونات العقل العربي إلى جانب الفقه الإسلامي. يرى الجابري أنّ العربي يحب لغته إلى درجة التقديس، وهو يعتبر السلطة التي لها عليه تعبيرا ليس فقط عن قوتها، بل عن قوته أيضا. ذلك أنّ العربي هو الوحيد الذي يستطيع الاستجابة لهذه اللغة والارتفاع إلى مستوى التعبير البياني الرفيع الذي تتميز به. أما الباقي فهم أعاجم والأعجم هو الذي لا يفصح ولا يبين كلامه، فالعربي حيوان فصيح كما يرى الجابري، وبفصاحته تتحدد ماهيته وليس بمجرد العقل.
ويبرر الجابري هذا الاختيار بأنّ أهم ما ساهم به العرب في الحضارة الإسلامية التي ورثت الحضارات السابقة لها، هو اللغة والدين، فالدين الإسلامي بقي عربيا، ولا يمكن أن يستغنى عن لغة العرب، لأن القرآن وهو “كتاب عربي مبين”، لا يمكن نقله إلى لغة أخرى دون المساس به، فالعربية جزء من ماهيته كما يقول علماء أصول الفقه، وهو ما رأيناه في الجزء الأول من هذا المقال مع رسالة الشافعي الذي أعطى مكانة تقديسية للغة العربية باعتبارها مفتاحا لفهم كلام الله. وثمة اعتبار آخر يرتكز عليه الجابري لتبرير هذه الأولوية للغة العربية في تكوين العقل العربي، حيث يرى أن أول عمل علمي منظم مارسه العقل العربي هو جمع اللغة العربية ووضع قواعد لها. ومن الطبيعي أن يتخذ هذا العمل العلمي الأول الذي أنتج علم اللغة وعلم النحو، نموذجا للأعمال العلمية الأخرى التي قامت من بعده، فالمنهجية التي سار عليها اللغويون والنحاة الأوائل، وكذلك المفاهيم التي استعملوها والآليات الذهنية التي اعتمدوها اتخذها كل مؤسسي العلوم الإسلامية المختلفة، خاصة علوم القرآن وعلوم الحديث. كما يضيف الجابري إلى تبريراته لاختيار اللغة العربية كمكون للعقل العربي، الدراسات الحديثة في اللغة والتي أثبت مدى مساهمتها في تحديد نظرة الإنسان إلى الكون وتصوره له ككل وكأجزاء.
يرى الجابري أنّ المكون الثاني الرئيسي للعقل العربي بعد اللغة هو الفقه القائم أساسا على القياس، أي قياس الغائب على الشاهد كما أرساه الشافعي في رسالته أي الأصول الفقهية الأربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس. يقول الجابري: إذا جاز لنا أن نسمي الحضارة الإسلامية بإحدى منتجاتها فإنه سيكون علينا أن نقول عنها إنها “حضارة فقه”، وذلك بنفس المعنى الذي ينطبق على الحضارة اليونانية حينما نقول عنها إنّها “حضارة فلسفة”. ويرى الجابري أنّ الفقه يحتل الدرجة الأولى دون منازع كمًا وكيفًا من ناحية المنتجات الفكرية للحضارة الإسلامية، فما كتب في الفقه من مطولات ومختصرات وشروح، وشروح الشروح لا يحصى، بل كان إلى عهد قريب لا يخلو بيت من البيوت الإسلامية من كتاب في الفقه. وهنا افتح قوس (لأُذكر أن أجدادنا كانوا يحلفون بديوان سيدي خليل) وهو مختصر خليل بن إسحاق المالكي.
يقول الجابري إن الفقه كان “أعدل الأشياء قسمة بين الناس” في المجتمع العربي الإسلامي، ولذلك كان لابد أن يترك أثره قويا فيه ليس فقط في السلوك العملي للفرد والجماعة بل في السلوك العقلي أيضا، أي في طريقة التفكير والإنتاج الفكري. أما من ناحية الأصالة، فيرى الجابري أن الفقه الإسلامي إنتاج عربي إسلامي محض، وإنه من هذه الناحية يشكل إلى جانب علوم اللغة، العطاء الخاص بالثقافة العربية الإسلامية. وعبثا حاول بعض المستشرقين إيجاد صلة مباشرة أو غير مباشرة بين الحقوق الرومانية والفقه الإسلامي. والجميل في الفقه الإسلامي حسب الجابري هو أنه يقوم بإعادة توزيع للشخصيات العلمية مما يجعلها تجد نفسها تلتقي على صعيد المذهب الفقهي رغم كل ما يفرق بينها على الصعيد العقائدي والسياسي والفلسفي. وهنا يمكن تأكيد ذلك على مستوى الدولة الوطنية مثل الجزائر حيث لازال يُوحد المذهب المالكي بين فقهاء السلطة والإسلاميين بمختلف مذاهبهم والزوايا بمختلف طرائقها وبقية المواطنين مهما كان مستوى تعليمهم. وعلى غرار أركون، يقول الجابري: ودون التقليل من أهمية مساهمة الأصوليين الذين جاءوا بعد الشافعي في إخصاب علم أصول الفقه وتنظيمه، فإن القواعد التي وضعها صاحب “الرسالة” تظل مع ذلك بمثابة الأساس والهيكل العام لهذا العلم المنهجي. يرى الجابري أنّ القواعد التي وضعها الشافعي لا تقل أهمية بالنسبة لتكوين العقل العربي الإسلامي عن “قواعد المنهج” التي وضعها ديكارت بالنسبة لتكوين الفكر الفرنسي خاصة، والعقلانية الأوروبية الحديثة عامة.
يرى الجابري أن علوم اللغة وعلوم الدين تمثل الحقل البياني لتكوين العقل العربي داخل الدائرة العربية الإسلامية الصرفة، وكان الاهتمام منصبا على آلية التفكير وطريقة الإنتاج النظري في العلوم العربية الإسلامية، على حساب مضمون الفكر أي مضمونه العقلاني في هذه العلوم وبكيفية خاصة علم الكلام الذي يمثل “العقلانية العربية الإسلامية” في البيان العربي، وهو ما يسميه الجابري بالمعقول الديني مقارنة باللامعقول العقلي، وهو العقل العرفاني الذي يضم كل من تصوف وفكر شيعي والفلسفة الإشراقية وكيمياء وعلم التنجيم…إلخ، والذي استمد أدواته من الموروث القديم وعلى رأسه الهرمسية، إلى جانب المعقول العقلي أو العقل البرهاني ويشمل الفلسفة الأرسطية من منطق ورياضيات وطبيعيات بفروعها.
ذلكم باختصار مفهوم وتكوين العقل العربي عند محمد عابد الجابري الذي قام بنقده وتفكيكه في مسار فكري طويل ضمّ أجزاء أخرى من الدراسات منها: بنية العقل العربي، والعقل السياسي العربي والعقل الأخلاقي العربي، قد نتطرّق إليها مستقبلا في مقالات منفصلة.
ملاحظة: المقال مقتبس من كتاب محمد عابد الجابري: “تكوين العقل العربي”، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت.