أقلامالأولى

الجزء الثاني والستون.. بن بله أرسل لي هدايا من إقامته الجبرية بالمسيلة

بقلم احسن خلاص 

تكتسي متابعة سيرة حياة المناضل والمؤرخ الجزائري محمد حربي أهمية قصوى بالنظر إلى ما تحمله من قراءة واعية ومتبصرة للأحداث التي عاشتها الجزائر منذ ولادته في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي إلى اليوم. وتكتسب هذه السيرة قيمة أكبر عندما يرويها محمد حربي نفسه مصحوبة بقراءات سوسيو-تاريخية لمختلف المحطات التي تناولها وبمسحة ذاتية طبيعية من منطلق أن الراوي لم يكن ملاحظا دارسا فحسب بل كان فاعلا في كثير من الأحداث. نحاول هنا أن نتتبع سلسلة من الحوارات التي جرت باللغة الفرنسية على موقع اليوتيوب بعنوان: “الجزائر الذاكرة والتاريخ” استعرض فيها مع الباحثين بيرنارد ريتشارد وروبي موردر حياته الدراسية والنضالية ونقدم ما تيسر منها للقارئ العربي. 

 

رواية كافي لم تكن دقيقة

جاء الخلف بسرعة وظهر على ساحة النضال، إذ نجد أن علي كافي في مذكراته قد قدم سردية رومانسية عن انخراطه في المجموعة الأولى لجبهة التحرير الوطني حيث أنه في بداية أزمة حركة انتصار الحريات الديمقراطية كان اتجاهه مصاليا وقد عين مدرسا في مدرسة تابعة للمصاليين فكان صعوده إلى الجبل في ظروف خاصة، كان شريف كافي قد اعتقل ووضع في المحتشد قبل أن ينتقل الجندرمة من الحروش إلى سكيكدة لاعتقال علي كافي. لم ينبه من طرف الذين تحدث عنهم في مذكراته وهم أفراد عائلتي بل نقل من طرف أحد عمال السكك الحديدية اسمه الصادق كسوس الذي كان على علاقة مع الأوروبيين لأنه من عائلة مفرنسة، نقله إلى غاية محطة بوقرينة ومنها التحق بالجبال، هذه جزئية لكنها مهمة لندرك كيف يقوم الذين ارتقوا بسرعة في الأجهزة ببتر سير حياتهم. 

روى لي عون اتصال ديدوش محمد قديد كيف علم أن المصاليين كانوا يريدون استباقهم إلى العمل المسلح وذكر أن ديدوش أرسله إلى واد زناتي ليتصل بصالح بوبنيدر ومناضلين آخرين ممن عرفهم في المدرسة الكتانية بقسنطينة رفقة كافي وبومدين فتوقف في محطة قسنطينة ولكي لا يبقى في مركز المحطة خشية أن يلاحظ من قبل السلطات الاستعمارية توجه إلى خلفها ليلتقي شيخا معروفا في منطقة واد زناتي يسمى الشيخ بلعقون فحدثه عن الاتصالات الأولى التي تمت مع المصاليين وأنهم ينتظرون ردهم فقال له الشيخ بلعقون: عن أي رد تتحدث لقد التقيت الشيخ بلقاسم البيضاوي وقال لي إنهم سيقومون بعمليات في سكيكدة، لهذا حذر قديد ديدوش لكن المصاليين قاموا بتلك العمليات التي كانت عواقبها كارثية عليهم. هذه الحلقة مهمة لنفند ما قيل حول المصاليين بأنهم كانوا ضد الإقدام على العمل المسلح ونبين أن العناصر الأولى لجبهة التحرير الوطني لما كانوا بحاجة إلى الاتصال والإيواء لجأوا إلى المصاليين ولم يجدوا منهم صدا. غير أن الأمر تحول بعد ذلك إذ روي الكثير عن المواجهات بين مناضلي الجبهة والمصاليين من قرية واحدة حيث واصلوا تكريس أزمة انقسام حركة انتصار الحريات الديمقراطية في السجون وبشكل درامي. لقد عرفت العلاقات فضاضة أكبر بشكل متأخر لأن الحركة الوطنية اختفت مبكرا من المشهد في سكيكدة وتم تحويل عناصرها إلى جبهة التحرير الوطني. 

عدت إذن للعمل حول حركة انتصار الحريات الديمقراطية وقمت باتصالات مكثفة مع من عرفتهم قبل 1954 كما كانت لي مراسلات مع دانيال غيران عندما كان يعد كتابا حول الاستعمار حيث أن الجزء المتعلق بفترة انقسام حركة انتصار الحريات الديمقراطية كان قد استقاه من تلك المراسلات ولو أنه حذف بعضا من المعطيات لكن ذلك لم يكن يزعجني. واصلت العمل التاريخي إلى غاية بداية التضييق والرقابة فتوقفت لكي لا أسبب أذى لكثير من الناس الذين عرفوا الكثير من الأذى. في الحروش كذلك وجدت الكثير من قدماء قسمة حركة انتصار الحريات الديمقراطية الذي اعتقلوا مبكرا. كانت لديهم مسؤوليات ثانوية لأن بلدة العروش غزاها تماما سكان المناطق المجاورة حيث اكتفى سكان المدينة باحتلال المسؤوليات في المراكز الإدارية لأن جزء مهما منهم كان فرانكفونيا بمستوى تعليمي يجعل الدولة بحاجة إليهم بينما أفلتت قيادة الحزب في الحروش كما في سكيكدة من أيدي المناضلين القدامى وقد لحق التغيير حتى بالبروليتاريا فالعمال السابقون عند المستوطنين حل محلهم أناس آخرون جاءوا من المناطق الجبلية ولم تكن لهم أي علاقة مع الحضريين فكانوا يسمونهم الغزاة. ما أثار انتباهي في الحروش كما في سكيكدة هو احتلال الفضاء العام من قبل الفتيات اللواتي صرن موظفات ومعلمات وعوضن الأوروبيين الذين عادوا إلى بلدانهم وقد كان التحاقهن بالمدرسة متأخرا لكنهن استطعن أن يملأن الفراغ الذي تركه الأوروبيون ولو أن بعض الأوروبيين فضل البقاء لكن سرعان ما التحق الجميع ببلدانهم في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا.

كانت الفترة بومدينية حيث كان الناس مرتبطين أكثر بالدولة ولم يكونوا يتحدثون إلا قليلا عن المسؤولين ما عدا من كان منهم من قدماء المناضلين. في تلك الفترة كان بن بله في الإقامة الجبرية بالمسيلة وذات يوم جاءني صهره المتزوج بابنة أخيه عام 1972 وكان مرفوقا بزوجة بن بله التي حملت معها هدايا من زوجها متمثلة في أقلام كما جاءتنا بالمال الذي رفضنا استلامه. كانت معرفتي بزوجة بن بله سابقة حيث وظفتها كصحافية في مجلة الثورة الإفريقية وكانت حينذاك مناضلة في حزب الثورة الاشتراكية حيث أوصاني صديق غادر المجلة باستقدامها إرضاء لأبيها الذي كان مناضلا قديما في نجم شمال إفريقيا. 

لم أكن أقوم بنشاطات سياسية غير أنه لما بدأت الإصلاحات الزراعية تنازلت عن أملاكي من الأراضي قبل أن يطلب مني ذلك أحد إلا أني رافقت ذلك برسالة شرحت فيها كيف أن الطريقة التي بدأ بها تحضير هذا الإصلاح لا تنبئ له بالنجاح لأن الناس هجروا الأراضي وأخذوا يبحثون عن العمل في المدن لأن العودة إلى المداشر والأرياف ليست طموح أغلبية السكان الذي نزلوا إلى المدن مرافقين لأولادهم. ثم أن الأجهزة صار على رأسها أناس لا علاقة لهم بالاشتراكية ولا بالمساواة ولا العدالة وأن العلاقات الاجتماعية مبنية على الزبائنية فمبادرة الإصلاح الزراعي لها كل الحظوظ لتحول عن التوجيهات الأولى. كان حول بومدين الكثير ممن يؤمن الثورة والتغيير لكن العقبة الحقيقية تتمثل في احترام التقاليد والأعراف.            

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى