أقلامالأولى

الجزء الخامس: استعينوا على حواركم بالسر والكتمان

بقلم: احسن خلاص

غالبا ما يسود الاعتقاد لدى السواد الأعظم من الناس أن الحوار يفضي حتما إلى مخارج من التفاهم والسلم والاستقرار فهو ضرورة حيوية توفر على الجميع الخسائر المادية والمعنوية التي تنجم عن الاصطدام غير أن التجربة الإنسانية تبين أن الحوار لما استعمل له، فلا يمكن تصور حوار ناجح إذا اتخذ غاية في ذاته دون أن تصحبه إرادة الأطراف المتحاورة في أن تجعل من الحوار أكثر من وسيلة حتمية لفض النزاعات وتحوله إلى آلية تقي المتنازعين شر العودة الدورية إلى النزاع وقد يتحول الحوار في هذه الحالة إلى أسلوب لتسيير الأزمات بدل أن يكون آلية لفضها بما يستجيب لمتطلبات ومقتضيات الظرف.

لقد بينت التجربة الجزائرية منذ أكثر من ربع قرن أن الحوار لم يكن آلية راسخة أو أسلوبا ثابتا لإدارة الأزمات بل غالبا ما يلجأ إليه في السر والعلن لافتكاك تفاهمات بعضها قابل للاعلان أمام الملأ وبعضها الآخر تتعمد أطراف الحوار اخفاءه مخافة أن يثير العلم به أطرافا أخرى لم تشرك في التحاور أو أن تلك التفاهمات قد تضر بها بشكل مباشر أو غير مباشر. وغالبا ما يبدو الحوار الذي يراه العامة على شاشات التليفزيون عملية تسويقية للعلاقات العامة لكي تظهر أن الأطراف منفتحة للحوار لأن مثل هذه الحوارات إنما تأتي غالبا لتضفي طابعا فلكلوريا ومسرحيا لتفاهمات تمت وراء الستار. وفي سياقات أخرى تفتح السلطة أبواب الحوار للجميع وفق شروط مسبقة تحددها هي لكنها في نهاية المطاف تجد نفسها تحاور نفسها أو المؤيدين لها وغالبا ما يكتشف الرأي العام أنه لا يرى المتنازعين الحقيقيين على طاولة الحوار مما يدفعه للتساؤل عن جدواه وعن مبرره أصلا. 

حدث هذا في بداية الأزمة السياسية والأمنية في التسعينيات فقد نظمت السلطة جولات عديدة للحوار الوطني أولها أدارها من جانب السلطة تكنوقراطيوها في ذلك الوقت منهم الجنرالات محمد تواتي والطيب دراجي واحمد صنهاجي ومن المدنيين يوسف الخطيب وعبد القادر بن صالح وقاسم كبير وطه ياسين والتقت اللجنة التي كان على رأسها قائد الولاية الرابعة التاريخية  يوسف الخطيب بأطراف عديدة من الأحزاب والمنظمات والجمعيات كما أجرت اتصالات مع قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في سجن البليدة وأفضت تلك الاتصالات إلى ندوة الوفاق الوطني بداية عام 1994 حضرتها جميع الأطراف إلا تلك كانت معنية مباشرة بالأزمة السياسية وهي حزب جبهة التحرير الوطني وجبهة القوى الاشتراكية والجبهة الإسلامية للإنقاذ وظهرت الندوة وكأنها عملية استعراض لقدرة السلطة على حشد أكبر قدر من التأييد في مواجهة التأييد الذي حظيت به الأحزاب الثلاث في انتخابات 1991. وبالموازاة مع مساعي اللجنة عقد رئيس الدولة اليامين زروال جلسات للحوار مع مجموعة من الاحزاب منها حزب جبهة التحرير الوطني برئاسة أمينه العام عبد الحميد مهري الذي اشترط حضور قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى طاولة الحوار دون أي قيد أو شرط بما في ذلك كان يتعلق بالدعوة إلى إيقاف العنف. حضر إلى جانب حزب جبهة التحرير الوطني الحركة الديمقراطية الجزائرية بزعامة خالد بن اسماعين وحركة النهضة بزعامة عبد الله جاب الله وحزب التجديد الجزائري بزعامة نور الدين بوكروح وغاب حزب جبهة القوى الاشتراكية الذي رفض الدعوة. 

ولعل من المفارقات المسجلة أن الرئيس زروال ذي المسار العسكري ومن ورائه قيادة الجيش كانت أكثر حرصا على عقد جلسات حوار علنية مع الشركاء السياسيين وكان المشاركون في الحوار ينقلون عن الرئيس زروال أنه ظل يعتبر نفسه مجرد عسكري لا دراية له بالسياسة وقد جمع حوله الشركاء السياسيين للاستماع إليهم. 

لم يتح لمسار الحوار الذي امتد من عام 1993 إلى نهاية 1995 أن يفضي إلى حل النزاع القائم الذي كان من مظاهره عنف إرهابي عصف بالبشر والحجر والشجر، وقد بين حدود الحوار السياسي وعجزه عن إراقة الدماء وإعادة السلم، لقد أعلن عن نهاية سلسلة اللقاءات مع رؤساء أحزاب سياسية يوم اكتشفت في جيب أمير الجماعات المسلحة الشريف قوسمي رسالة من نائب رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ علي بن حاج الذي كان يتمنى أن يكون بينهم في الاحراش والادغال. 

لقد أعطت النهاية التعيسة لهذا الحوار مبررا للسطة لتتجه في اتجاه آخر بعد أن تدعم الرئيس زروال بالشرعية بعد انتخابات الرئاسة عام 1995 حيث بدأت السلطة منذ ذلك الوقت في التفكير في الانتقال من الحوار السياسي إلى الحوار الأمني لاسيما وأنها أحرزت انتصارات هامة في الميدان وحيدت عناصر خطيرة من الجماعات الإسلامية المسلحة التي كانت تشكل عائقا أمام أي حل سلمي. تركت السلطة المجال لحوار آخر يتجاوز السياسيين ويذهب مباشرة إلى حاملي السلاح في الجبال فقد باشرت منذ 1996 اتصالات مع الجيش الإسلامي للإنقاذ الجناح المسلح للجبهة الإسلامية للإنقاذ كما وجهت نداء للتوبة في طبعته الثانية بعد نداء الرحمة عام 1995. المسار الذي كان يجري في سرية تامة تواصل بثبات تحت قيادة المخابرات الجزائرية ولم تعكره المجازر التي جرت صيف 1997 في بن طلحة والرئيس وغليزان وبني مسوس بل أفضى إلى هدنة في أكتوبر مع الجيش الإسلامي للإنقاذ وبالتحضير لقانون الوئام المدني الذي سلم للرئيس بوتفليقة ليعطيه غطاء سياسيا. هكذا بدأ الحوار وهكذا انتهى. إنما الأعمال بالنيات. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى