
بقلم احسن خلاص
تكتسي متابعة سيرة حياة المناضل والمؤرخ الجزائري محمد حربي أهمية قصوى بالنظر إلى ما تحمله من قراءة واعية ومتبصرة للأحداث التي عاشتها الجزائر منذ ولادته في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي إلى اليوم. وتكتسب هذه السيرة قيمة أكبر عندما يرويها محمد حربي نفسه مصحوبة بقراءات سوسيو-تاريخية لمختلف المحطات التي تناولها وبمسحة ذاتية طبيعية من منطلق أن الراوي لم يكن ملاحظا دارسا فحسب بل كان فاعلا في كثير من الأحداث. نحاول هنا أن نتتبع سلسلة من الحوارات التي جرت باللغة الفرنسيةعلى موقع اليوتيوب بعنوان: “الجزائر الذاكرة والتاريخ” استعرض فيها مع الباحثين بيرنارد ريتشارد وروبي موردر حياته الدراسية والنضالية ونقدم ما تيسر منها للقارئ العربي.
بدأت الأزمة تشتد أكثر فأكثر أثناء انعقاد دورة اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني في جوان 1965 حيث انقسمت إلى فصائل. كانت جماعة الجيش حريصة على ضمي إلى صفوفها لاسيما وأنه كانت تربطني علاقات جيدة مع جماعة الأوراس. اقترب مني قايد احمد وهو من جماعة وجدة ورئيس أركان الجيش ومدير مدرسة شرشال لمختلف الأسلحة. وبعد أيام قليلة فقط حدث الانقلاب على بن بله.
بن بله كان على علم مسبق بالانقلاب
وعكس ما يمكن أن نتصوره لم يتقرر الانقلاب بشكل فجائي صادم فقد تم إنضاجه لمدة طويلة. روى لي عضو المكتب السياسي ايت الحسين أن شريف بلقاسم واحمد مدغري ضربا له موعدا في جنيف للحديث عن الأوضاع التي لا يمكن لها أن تستمر على ماهي عليه من انفراد بن بله بالحكم واتخاذ قرارات خطيرة على الجميع فلابد من وضع حد لهذا وذكروا له أنهم يعتمدون عليه. عند عودته ذهب ايت الحسين للقاء الحاج بن علا مسؤول الحزب لإحاطته علما بما حدث بينه وبين مدغري وشريف بلقاسم في جنيف، اتصل الحاج بن علا بدوره ببن بله وأخبره بما يحاك فما كان من بن بله إلا أن اتصل ببوتفليقة ليقول له: يبدو أنكم تحضرون لانقلاب لكن بوتفليقة نفى ذلك واعتبره دعاية مسمومة. ومنذ ذلك اليوم، كما روى لي أيت الحسين، لم يعد أحد من جماعة وجدة يقضي ليلته في بيته بل صاروا يبيتون في القاعدة العسكرية الجوية لبوفاريك.
أما لدى تيار اليسار فقد كان كمال وارتسي وهو صديق لي وأحد أقرباء زوجتي، كان والده قد قتل في 8 ماي 1945 أما هو فقد التحق بالثورة وهو في المرحلة الثانوية. جاء قبل أشهر من الانقلاب إلى العاصمة الجزائر وقال لي إن ضباطا قد استدعوا لكن الأمر لن يتم هذه المرة فقلت له ما الأمر فقال لي التغيير. بعض الرفقاء نصحوني بأن لا أكشف الأمر وأن اكتفي بتحسيس بن بله بخطورة الوضع وضرورة أن يتخذ بسرعة قرارات لمواجهة أي محاولة لتغيير النظام القائم.
هكذا عشت لحظة الانقلاب
كنت يوم الانقلاب مع صديق من وزارة الشؤون الخارجية وكان نائبا ممثلا لمنطقة القبائل هو مبروك بلحوسين وصديق آخر هو توفيق بوعتورة، تحدثنا حول الموضوع وانتهينا إلى أنه إذا لم يحدث شيء خلال اليومين القادمين يمكنهم أن يقوموا بالانقلاب دون اعتراض أحد ورأى بلحوسين أنه لا يمكن الاعتماد على حزب جبهة التحرير الوطني لفعل أي شيء. وخلال عشاء طرق علينا الباب الطيب نايت أحد الرفقاء المناضلين القدامى في حزب الشعب الجزائري ولما دخل قال إنه شاهد دبابات دخلت العاصمة. كانت هذه الدبابات تظهر لعامة الناس أنها غامضة ولا تعني بالضرورة التحضير لانقلاب لأنها تزامنت مع تصوير فيلم معركة الجزائر لكن صديقنا أكد أن العسكريين سدوا مدخلين للعاصمة ففهمنا أن الأمر جاد ويتعلق فعلا بانقلاب عسكري. كان معنا مستشاران للرئيس أحدهما عبد القادر معاشو الذي كان أمينا سابقا للاتحاد العام للعمال الجزائريين وكان رفقتي في القطاع الاشتراكي وثانيهما مجذوب بن زرفة الذي كان يتكلف بالشؤون الاجتماعية جاءوا إليهما ليساقا إلى الرئاسة لأن بحوزتهما مفاتيح الخزائن. أما بالنسبة لي فقد حبست نفسي بالبيت في وضع صعب مع انقطاع الهاتف لكن الأصعب من هذا أني كنت عشية الانقلاب قد نقلت من قالمة كل الوثائق التي جمعتها منذ 1954 ووضعتها في الصندوق الخلفي للسيارة. لم أكن أدري ماذا أفعل وما هو الحل الأمثل لأنه لا يمكن التخلص من آلاف الوثائق بتلك البساطة. بقيت مستقرا في البيت لا أزور أحدا ولا أحد يزورني قبل أن ألاحظ في اليوم الموالي ردود أفعال نساء خرجن للهتاف بشعارات من أعلى شرفات مدينة الجزائر وتحرك الطلبة الذين كانت أولى ردود أفعالهم من المنتمين إلى الحزب الشيوعي الجزائري الذي احتفظ بحد أدنى من التنظيم. في خضم تلك التطورات تعرضت ابنتي لأزمة صحية ناجمة عن زائدة دودية خطيرة أجبرتني على الخروج معها. كانت هناك سيارة تقتفي أثرنا، اتجهت إلى المستشفى ولم يتحدث معي أحد بشيء وقمت بإدخال ابنتي للمستشفى بيسر. التقيت في المستشفى ببروفيسور في الطب من جيجل كنت قد اقترحت أن يكون مسؤول المثقفين عام 1956 عشية توقيف قيادة فيدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني. قال لي ماذا تفعل هنا والجميع كان يتحدث عن لجوئك إلى سفارة الاتحاد السوفياتي. لم يتصل بي أحد من رفقاء اليسار في لحظة الانقلاب.
ماذا بعد الانقلاب
أول من زارني عضو في الحزب الشيوعي الجزائري عبد الحميد بن زين ليقول لي إنه ينبغي فعل شيء ما فقلت له بأننا نستطيع تقديم تصريح فطلب مني أن أمهله حتى يتصل بحسين زهوان ولما عاد قال إن زهوان كان يريد تشكيل تنظيم وفي الوقت نفسه جمع زهوان اثنين من قدامى المنطقة المستقلة للجزائر من الذين كانوا ضمن المحبوسين خلال حرب التحريروقرروا أن يدعوا سكان العاصمة للتظاهر لكن القرار كان مغامرة بالنظر إلي لأن أغلب أعضاء فيدرالية العاصمة كانوا ضد أي تحرك معارض للانقلاب. كما قرروا الانطلاق في الكفاح المسلح وتحضير عملية اغتيال ضد بومدين وكانوا يظنون أن ذلك ممكن بالنظر إلى أن بيت حسين زهوان يقع مقابل مدخل السياسيين في منتدى الرئاسة وكانت لديه بندقية قناصة أهداها له تيتو. اقترحت على بن زين عقد اجتماع بشأن التنظيم المنشود وقبل عقده قام زهوان باستشارة مجموعة من المناضلين حول مسألة الكفاح المسلح في سيارة كان يقودها ضابط في الأمن العسكري فافتضح أمرهوبعدها صار محل بحث من قبل السلطات وفي الأخير قبل لقاء بومدين الذي اقترح عليه الانضمام إلى المكتب السياسي لكنه رفض معلنا أمام بومدين رفضه للانقلاب.من جانبي كان نائب رئيس المجلس الشعبي الوطني علي منجلي قد طلب من زرداني تحضير اجتماع معي فذهبت إليه لينبهني إلى أننا أمام مغامرين لا طاقة لنا بهم لابد أن نعطي لأنفسنا فترة للتفكير وبعدها يمكن أن نلتئم لفعل شيء أما الآن فقد فات الأوان وما لم نستطع فعله قبل الانقلاب لا يمكن أن نفعله الآن. فاقترحت له أن يدعو إلى اجتماع المجلس لتزكية الانقلاب لتبقى المؤسسات قائمة وبعدها يمكن أن نتحرك ضمن هذه المؤسسات.
كان هناك آخرون من اللجنة التوجيهية لحزب جبهة التحرير الوطني ومن عناصر يسارية يريدون التحرك بشكل آخر دون أن يعرفوا ماذا يفعلون لأن القوة الوحيدة التي كانت منظمة تنظيما حقيقيا يمكّنها من التدخل في الشارع كانت فيدرالية الجزائر العاصمة لكنها لم تأخذ قرارا فقد ذهب وفد منها لمقابلة بومدين الذي أكد له أن التغيير تقرر وقدم له الأسباب.