أقلامالأولى

الجزء السابع والثلاثون.. هكذا انطلقت حرب التحرير بغياب السياسيين

بقلم احسن خلاص 

تكتسي متابعة سيرة حياة المناضل والمؤرخ الجزائري محمد حربي أهمية قصوى بالنظر إلى ما تحمله من قراءة واعية ومتبصرة للأحداث التي عاشتها الجزائر منذ ولادته في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي إلى اليوم. وتكتسب هذه السيرة قيمة أكبر عندما يرويها محمد حربي نفسه مصحوبة بقراءات سوسيو-تاريخية لمختلف المحطات التي تناولها وبمسحة ذاتية طبيعية من منطلق أن الراوي لم يكن ملاحظا دارسا فحسب بل كان فاعلا في كثير من الأحداث. نحاول هنا أن نتتبع سلسلة من الحوارات التي جرت باللغة الفرنسيةعلى موقع اليوتيوب بعنوان: “الجزائر الذاكرة والتاريخ” استعرض فيها مع الباحثين بيرنارد ريتشارد وروبي موردر حياته الدراسية والنضالية ونقدم ما تيسر منها للقارئ العربي. 

لعل من أهم المشكلات التي صاحبت إنشاء جبهة التحرير الوطني أن الأفراد المتنورين كانوا يمثلون أقلية مما جعلها عرضة في ما بعد لغزو فواعل اجتماعية وهم أفراد من جماعات ريفية لم تكن تمتلك وعيا وطنيا بل لم يكن يتعدى وعيها نطاق الجماعة الذي يظهر في علاقتها مع الآخرين وفي اختيارها للمسؤولين فهناك اختلاف بين الطبقة السياسية التي نشأت في أحضان الحركة الوطنية والملتحقين بالجبهة وهناك اختلاف آخر قائم بين المدن والأرياف التي سادت فيها فئة أبوية من السكان ومن أصحاب الولاء الانتهازين الذين يبحثون عن التحكيم والحماية في كل الأمور لذا فإيجاد تنظيم هرمي مثلما تصوره مؤسسو جبهة التحرير الوطني لم يكن إلا من قبيل الخيال الصرف وقد تجسد ذلك في الأزمات التي عرفتها الجبهة. لا يمكن أن نتصور جبهة التحرير الوطني ككيان كامل متكامل منذ انطلاقتها عام 1954 إذ كان لابد أن تنتظر انضمام المتنورين لتكتمل في 1956 شروط تشكيل تنظيم حقيقي إذ لم تكن الوحدة بين الجهات كاملة بل اقتصرت على قادة المناطق الذين كان بعضهم حريصا على الإبقاء على احتكاره لمنطقته للحفاظ على مراتبه في القمة. 

في منطقة الأوراس مثلا كان الصراع بين الجماعات على أشده فما عدا مصطفى بن بولعيد وشيحاني بشير القادم من خارج الأوراس اللذين كان لهما امتداد وطني لم يتعد موقع الآخرين الوجود المحلي والانتماء العائلي. المشكلة ذاتها طرحت في منطقة القبائل، فما عدا بلقاسم كريم وأوعمران اللذين كانا يتمتعان بحضور وطني ومركزي بما يحمله ذلك من تحفظات فإن البقية لم يكن يتعدى حضورهم انتماءاتهم المحلية. ولا يمكن أن ننسى أن منطقة القبائل عندما دخلت في الكفاح فقدت ما بين 1947 و 1949 جزء  كبيرا من أفضل إطاراتها الذين تم إقصاؤهم في ما يسمى الأزمة البربرية ولم يبق على الأرض إلا الأفراد الذين كان لهم رسوخ جهوي وهو ما يفسر انضمام عبان رمضان إلى الثورة بعدما كان في السجن خلال اندلاعها ثم أطلق سراحه في فبراير 1955 بعد تحويله إلى سجن ميزون كاري (الحراش) لكن مدير السجن تحفظ عن قدومه بالنظر إلى أنه كان سجينا سابقا عنده قبل تحويله إلى فرنسا وكان مثيرا للشغب والفوضى فاستعمل سلطته وطلب تخفيض عقوبته وإخراجه من السجن قبل انقضائها. ولما التحق بمنطقة القبائل اتصل به المؤسسون وعندما شرحوا له ظروف انطلاق الثورة قال لهم مجرمون أنتم الذين انطلقتم بهذا الشكل. انطلق هو إذن في مهمة جديدة حيث ضم إلى جبهة التحرير الوطني النخب المتريثة لبناء جهاز وطني. عند اكتشاف المنظمة الخاصة تمت محاكمة أفرادها وبعضهم خرج من السجن بعد انقضاء عقوبته ومنهم من حوكم غيابيا مثل بن بله ومحساس ومن لم يتم توقيفه مثل بوصوف ومشاطي كما كان هناك من بقي في الأرياف مبحوثا عنه مثل بوشعيب وسويداني ومن رحل إلى فرنسا بهوية مستعارة مثل محمد ماروك واثنين من المؤسسين الرئيسيين هما محمد بوضياف ومراد ديدوش اللذين اتصلا بمناضلين سابقين في المنظمة الخاصة وسعيا مبكرا للإعداد للعمل المسلح كما كان لهما اتصال مع مصالي بواسطة عبد الله فيلالي حيث عبرا له عن استعدادهما لتأييده إذا اختار الكفاح المسلح بشرط أن لا يمس بالتنظيم. وعندما عادا إلى الجزائر كانا سببا في انضمام بوصوف وبن طوبال وزيغود بعدما كانوا في صف مصالي وقد ساعد على ذلك فشل الاتصالات بين ديدوش وبوضياف وبين عبد الله فيلالي الذي كان وراءه تشبث بوضياف بتنظيم فيدرالية فرنسا وهو المسؤول عن ديدوش وبن مهيدي داخل المنظمة الخاصة حيث صار بن مهيدي عضوا دائما في سيدي بلعباس واشتغل بوصوف في المنطقة الوهرانية رفقة بن عبد المالك رمضان. وهو ما جعلهم موزعين لكن بوضياف بعث برسالة من فرنسا إلى الجزائر يطلب فيها من ديدوش العمل لضمان حضور أعضاء من المنظمة الخاصة في مؤتمرأفريل 1953 لكن الانتخابات لم تبق إلا على بن عبد المالك للمشاركة في المؤتمر، لقد كانت هناك نية لإبعاد أفراد المنظمة الخاصة عن أي تواصل مع القاعدة عندما تقرر عقد المؤتمر في المقر المركزي للحزب بالعاصمة وهو الإجراء الذي حرم تلقائيا أفراد المنظمة من الحضور لأنهم كانوا في وضع المبحوث عنهم.

وثمة ضرورة تحديد المفردات المستعملة فما كان يسمى بالعسكريين لم يكونوا إلا مناضلين سياسيين من أنصار الكفاح المسلح الذين كانوا وراء تأسيس جبهة التحرير الوطني وقد سماهم السياسيون من الضفة الأخرى عسكريين بينما كان من الأجدر وصفهم بأنصار الكفاح المسلح. وإن أصبحوا في ما بعد عقداء وروادا إلا أنهم لم يكونوا مثل من كان تكوينه عسكريا كانوا يتميزون بنزعة تسلطية وتعصب للعمل المسلح كسبيل وحيد للكفاح من أجل الاستقلال عكس الطبقة السياسية التي يمثلها فرحات عباس أو جمعية العلماء المسلمين. أما تشكيل الجهاز العسكري فقد تم خارج البلاد بعد غلق الحدود بخطي شال وموريس وقد تكون في البداية من الأفراد الذين انتقلوا إلى الخارج للإتيان بالسلاح فبقوا هناك مع الإبقاء على ولائهم لولاياتهم الأصلية ولم يكن احتكاكهم بالمركز في البداية إلا للاعتناء بأنفسهم والتزود بالسلاح لكن مع مرور الوقت تشكل جيش على غرار كل الجيوش الكلاسيكية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى