أقلامالأولى

الجزء الواحد والثلاثون… تحالفات ومواقع جديدة تحسبا لقيادة مرحلة الاستقلال

بقلم احسن خلاص 

تكتسي متابعة سيرة حياة المناضل والمؤرخ الجزائري محمد حربي أهمية قصوى بالنظر إلى ما تحمله من قراءة واعية ومتبصرة للأحداث التي عاشتها الجزائر منذ ولادته في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي إلى اليوم. وتكتسب هذه السيرة قيمة أكبر عندما يرويها محمد حربي نفسه مصحوبة بقراءات سوسيو-تاريخية لمختلف المحطات التي تناولها وبمسحة ذاتية طبيعية من منطلق أن الراوي لم يكن ملاحظا دارسا فحسب بل كان فاعلا في كثير من الأحداث. نحاول هنا أن نتتبع سلسلة من الحوارات التي جرت باللغة الفرنسية على موقع اليوتيوب بعنوان: “الجزائر الذاكرة والتاريخ” استعرض فيها مع الباحثين بيرنارد ريتشارد وروبي موردر حياته الدراسية والنضالية ونقدم ما تيسر منها للقارئ العربي. 

خرج المجلس الوطني للثورة الجزائرية بقرار مركزة جيش الخارج من خلال إنشاء قيادة أركان بقيادة العقيد هواري بومدين الذي كان يتمتع بتجربة ويعرف وضع القوات في الغرب كما في الشرق فقد كان رئيس المحكمة التي حاكمت العقداء المنشقين. وبعد إنشاء قيادة الأركان احتفظ الثلاثي كريم وبن طوبال وبوصوف بهيمنتهم على جيش التحرير في الداخل لأنه كان مصدر قوتهم وسلطتهم المبدئية، ومنها بدأت أزمة جديدة داخل بيت العسكريين فقيادة الأركان وجدت نفسها في مواجهة مشكلة خطي شال وموريس وخلصت إلى أنها مشكلة عويصة لذا وجب البحث عن حلول أخرى بينما أشاع أعضاء الحكومة المؤقتة أن قيادة الأركان عاجزة عن إدخال فرق جيش التحرير إلى الداخل. 

خلال النقاشات أوضحت قيادة الأركان أنه يستحيل إدخال الوحدات بالقوة، لكن الباءات الثلاث تعمدوا طرح مشكلة العجز هذه عندما شعروا بأن قيادة الأركان أرادت أن تلعب دورا سياسيا إلى جانب كونها شرعت في عملية دعائية مفادها أن القوة الحقيقية للثورة توجد في الخارج بينما لا تعدو القوات الداخلية أن تكون مجموعات فوضوية لا يمكن أن تشكل جيشا. ومن جانب آخر طلبوا اجتماعا مع الحكومة لتحذيرها من الركوب على هذا العجر لبيع الثورة بثمن بخس خلال المفاوضات مع الفرنسيين والمساس بهدف استرجاع السيادة. ومن يومها بدأت بعض التجاذبات ففي إحدى الأيام قامت فرقة من جيش التحرير على الحدود بإسقاط طائرة استطلاعية فرنسية وأسر قائدها فطلبت الحكومة التونسية من الحكومة المؤقتة إعادة الطيار لكن قيادة الأركان رفضت تسليمه في البداية لكنها مع الصعوبات التي وضعتها فيها الحكومة التونسية من حيث التموين وإيصال السلاح قبلت تسليمه تحت ضغط الحكومة المؤقتة فقدم أعضاؤها استقالتهم وسافروا إلى ألمانيا ومكثوا فيها مدة ولكنهم تركوا قيادة من بين أعضائها عبد العزيز بوتفليقة. ومنذ ذلك الحين يمكن الحديث عن صراع بين فصيلين تفاقم مع إعادة تنظيم حكومة فرحات عباس حيث صار جزء من الحكومة والمجلس الوطني للثورة لا يثق فيه فاستمراره على رأس الحكومة يعني بالنسبة لهم إمكانية التفاوض لفائدة قوة ثالثة فكانت النتيجة إزاحة فرحات عباس وإنشاء حكومة جديدة في سبتمبر 1961 بقيادة بن يوسف بن خده. 

تزامن تراجع الثقة في فرحات عباس مع اغتيال السيناتور بن حبيلس الذي دُفع من خلال علاقاته مع ديغول للعمل من أجل تهيئة لقاء بين عباس وديغول لكن ثلاثي الباءات قرر دون المرور على فرحات عباس ولا على الحكومة اغتيال بن حبيلس الذي ذهب ضحية خلاف غير معلن داخل الحكومة المؤقتة. كان مصير عباس مقررا منذ مدة غير أن ما عجل به هو مظاهرات 11 ديسمبر 1960 عندما خرجت الناس في المدن الجزائرية وهي تصيح تحيا الحكومة المؤقتة يحيا عباس وهذا ما لم يكن ليقبله الثلاثي، أن ينصب الشعب فرحات عباس قائدا للثورة فقرروا التخلص منه على رأس الحكومة. 

عندما جاء بن خده أطلق فكرة إنشاء مكتب سياسي يكون فوق الحكومة المؤقتة وهي الفكرة التي شاطرتها قيادة الأركان لكنه تراجع عنها ففقد ثقة قيادة الأركان وصار الجيش يلعب لصالحه مع وجود الضباط الفارين من الجيش الفرنسي في التأطير فقاموا بعمليات تصعيد ضد الجيش الفرنسي وبعمليات ذات وزن مثل اختراق خط شال وإجلاء الجزائريين المحجوزين بين الخطين. والمفارقة أن الضباط الفارين من الجيش الفرنسي الذين ظن الجميع أنهم جاءوا لتعزيز القوة الثالثة انحازوا إلى صف المتشددين الراديكاليين لأنهم كانوا يعلمون أنه السبيل الوحيد للحفاظ على مكانتهم في الجيش بعد الاستقلال.

لم تكن مباشرة الحكومة المؤقتة الجديدة عملها في ظروف حسنة لأن المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي عين هذه الحكومة تحدث عن قيادة تنصب على الحدود وكانت هذه الفكرة بمثابة حل وسط أمام حملة قادها بن خده من أجل إدخال القيادة إلى داخل البلاد، ولما رأى المجتمعون أن المطلب غير واقعي اقترحوا أيضا أن تضم القيادة الجديدة ممثلين عن قيادة الأركان. وعندما تراجع بن خده عن هذا الاقتراح صار التغيير مقتصرا فقط على إزاحة فرحات عباس. ومن هنا تنشأ حسابات أخرى بعد دعم عباس لقيادة الأركان التي تواصلت أيضا مع القادة المعتقلين في فرنسا. كان أول اتصالهم ببوضياف لكنه رفض التحالف مع قيادة الأركان ضد الحكومة المؤقتة، اختاروا بوضياف لكونه المنسق الأول لجبهة التحرير الوطني ولو أنه لم يمارس مهامه ولأن قيادة الأركان تنطلق من وطنية ضيقة وتعتبر أن بن بله على صلة متميزة مع مصر ولا يمكن بالتالي القبول به لكنهم في النهاية لجأوا إليه فأعضاء قيادة الأركان من بومدين إلى منجلي إلى قايد احمد إلى عز الدين كلهم وقفوا مع مخرجات مؤتمر الصومام عندما أعلن بن بله عن خلافه مع لجنة التنسيق والتنفيذ، لذا كان ميلهم إلى بوضياف أكبر من ميلهم إلى بن بله. ولا يخفى أن بن بله خلال فترة حبسه لم يكن متساهلا مع القيادة فقد كان شديد الضغط عليها في المسائل السياسية لاسيما ما تعلق منها بالنزاعات مع تونس حيث كان يتدخل دائما برسائل يبعثها إلى لحبيب بورقيبة يعلن له فيها عن نفوره منه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى