أقلامالأولى

الجزائر والمصالحات العربية.. دور تاريخي

بقلم: صالح عوض

إنها الجزائر كلمة الفصل وصوت الحكمة والضمير المخلص والنبرة الواضحة وفخر العرب وعز المسلمين.. في أصعب الظروف التي مرت بالأمة لعلع رصاصها معلنا ثورة نادرة كسرت شوكة الأطلسي ودوى صهيلها في كل أفريقيا وآسيا ثورة ضد الظالمين ودحر المستعمرين.. ثورة المستحيل والمعجزات الكبرى تسري روحها في فلسطين والعرب والمسلمين فتزيح عنهم اليأس والهزيمة.. عرفت مكانتها وعرفت حجم قوتها فكانت الأمينة على ذلك وأخذت دورها في الأمة باقتدار ولم يكن مقبولا في عرفها التشرذم او التخاصم فسعت دوما للإصلاح بين الأخوة شعارها فلسطين هي الاسمنت المسلح الذي يوحد الأمة وإلا فإنها ستتفجر…. إنها الجزائر نحوها ترنو الأبصار لاستدراك ما فات واللحاق بعجلة الزمن لإنقاذ امة تتآكل بفعل شياطين الاستعمار.

  للتوحيد أم التفجير:

كما تطرقنا في المقالات السابقة عن الحالة التركية والحالة الإيرانية وتشابك كل منهما بالوضع العربي فإنه لمن الضروري التأكيد على أن هذا المركز -العرب وجوارهم- في عالمنا الإسلامي هو الدينمو لحركية الإسلام في العالم وهو واجهته في المعارك التاريخية الحاسمة أمام الحملات الصليبية التي اتجهت ولاتزال الى شطبه من مسرح الصراع والتنافس.. 

هذه الكتلة البشرية الهائلة المقدرة تقريبا ب 600 مليون نسمة تتناوش بشكل أو آخر مع الحضارة الغربية صراعا أو تشبها أو تداخلا ولكنها من حين الى آخر تنتفض لترفض النموذج الغربي او التبعية له.. ولقد سلطت عليها اللائكية والارتهان للأجنبي لإخراجها من سياقها الطبيعي فبعد أن مزقوها عرقيا فرغوها حضاريا.

نظر واضعو الاستراتيجيات الكونية الى خريطة القارة الإسلامية التي يزيد تعدادها السكاني الآن عن ملياري نسمة واستقر أمرهم أنه بتفجير المركز يتم شلل الأمة تماما وصرفها عن إبراز تميزها القيمي والأخلاقي واستيعابها في عجلة النظام الرأسمالي المادي.. ومن أجل هذا الهدف كثرت البحوث والدراسات التي ضختها المراكز المتخصصة والمرتبطة بدوائر صنع القرار في الدول الاستعمارية.

العرب وجوارهم مثلوا حركية الإسلام 15 قرنا فلئن نهض العرب بالرسالة ووفروا لها قواعد الانطلاق والعالمية، فإن الفرس ضخوا فيها ثقافة وعلما وتنوعا فنيا في كل أصناف المعرفة بما فيها علوم العربية وقواعدها، أما الترك فلقد نيط بهم حماية الأمة خمسة قرون بذلوا فيها دماء وقدرات وجهودا جبارة وتصدوا لعملية محو الإسلام في المغرب العربي كما نشروا الإسلام في شرق أوربا.. وبعيدا عن المركز رغم التعداد السكاني الكبير في دول إسلامية كاندونيسيا وباكستان والهند ظل الانتماء إلى الإسلام في حالة سكونية وفي منأى عن مواجهة المشاريع الغربية لاسيما في المركز -حول بيت المقدس-، وهنا يتدخل علم الجاذبية والمجالات المغناطيسية فتصبح الفاعلية بمقدار القرب من المركز وهكذا كلما ابتعدنا عن المركز يقل الاهتمام.. ولما كان العرب هم المركز بما حوته أرضهم من تاريخ مكثف بحضور الانبياء والرسل و شعائر الإسلام والبيوت التي لا يشد الرحال إلا لها، وفيها كانت ملاحم الإسلام التاريخية، وأهلها حملة لغة القران والأمناء عليها وينتمون لمنظومة قيم أولئك الأوائل الذين حملوا رسالة الإسلام.. وهم بهذا الاعتبار يدركون أنهم سدنة الإسلام- وليس سادته بالضرورة-

الآن سقط الجميع لاسيما المركز -العرب وجيرانهم- وهذا ضمن البرنامج العملي الاستعماري وغاب النظام الواحد الذي يجمعهم بجيرانهم.. وتحولت المنطقة الى تصارع دام مع العرب “الذين يعيشون فقرا مذهلا على صعيد القادة التاريخيين” مما أغرى جيرانهم فاقتحموا ديارهم الاستراتيجية “بلاد الشام والعراق” وبعد أن أسقطت أمريكا الدولة العراقية وانهار السد العربي حاولت تركيا إسقاط نظام دولة عربية تاريخية مدعومة من دول خليجية تعاني عقدة نقص بمئات المليارات لتدمير دمشق وسعت تركيا الى إعادة تشكيل سورية حسب مزاجها ومصالحها وذلك وفق مشروع تركي وطني علماني وفي ظل علاقتها بالحلف الأطلسي والكيان الصهيوني.. فيما هرولت إيران لاجتياح ناعم شمل العراق للسيطرة على مفاصل الحكم الذي انزاح الى صبغة طائفية مرتبطة بالمشروع الأمريكي الذي تسللت مع دباباته للتحكم في مقاليد الأمر في العراق.. وبعيدا عن قراءة النوايا فلقد أصبح الوجود الإيراني في العراق خطرا على انسجام الشعب العراقي الذي لم يعش سابقا تحاصصا طائفيا او تمايزا طائفيا.. و ابتعدت إيران عن هدفها المعلن القدس بتمددها في ملفات إقليمية غير مكترثة بما يتولد عن ذلك في مشاعر العرب القومية تجاهها.. فكان اليمن وانتصارها لقبيلة شيعية ومحاولة تغليبها على كل اليمن إشارة غير مريحة لدور إيران في الوطن العربي.

ان القضايا المشتعلة الآن بين العرب وجيرانهم معقدة وعويصة ولكن من المهم الإشارة الى أن تركيا ستفشل حتما في أي محاولة لبسط نفوذها في بلاد الشام والعراق عن طريق ما تنهجه من أسلوب، كما أن إيران لن تفلح بإلحاق العراق.. قد تستولي بعض الوقت على بعض ثروته ولكن التحدي أمامها كبير وقد تغرق في مستنقع دام يودي بها.. فلم يتعود العراق القبول بالاحتواء والضيم، هكذا يتحدث التاريخ ولعل قدرة العراقيين على كسر الاحتلال الأمريكي خلال سنوات قليلة وتكبيده أمريكا خسائر فادحة يمنح المتابع القدرة على الاستشراف لما سيكون عليه مآل التواجد الإيراني وأنصاره في العراق.

المعادلة الصفرية:

المشكلة المعقدة تتمثل في غياب الحالة العربية التي تحمل الهم العربي وتحشد خلفها العرب لاستئناف حوار وتفاهمات مع الجيران والانطلاق لبناء كتلة اقتصادية وسياسية تحمي الجميع، فالجيران لا يحملون مشروعا جامعا للأمة -على الأقل ترجمة مشاريعهم الواقعية- فهم يتعجلون أمرهم للاستفادة من انهيار الدولة العربية، والعرب اليوم يتقدمهم أنظمة فرطت بدورهم الاستراتيجي واستهانت بمستقبلهم فذهبت إلى الانهيار أمام العدو الصهيوني والتبعية لإرادة الأمريكي بلا قيد أو شرط بمعنى واضح أنها مكنت للفيروس الصهيوني من قلب الأمة في الجزيرة العربية وكثير من الدول العربية.. وتوزعت القيادة العربية على محاور دولية وإقليمية وبهذا فقدت الكتلة العربية فرصة الانهماك في مهمتها التاريخية والإستراتيجية أن تقود الأمة إلى عزتها ونهضتها.. هنا يزداد الأمر تعقيدا.

إن ارتباط قضية فلسطين بكل عناوين الهزيمة في الأمة يشير بوضوح إلى معادلات مترابطة تحتاج تركيزا وشفافية ونبلا وجدية في معالجتها فكيف يمكن أن تسترد فلسطين بدون العرب؟ وكيف يمكن للعرب أن ينهضوا للمهمة فيما هم يستنزفون؟ و أنظمتهم  تقوم بتشتيتهم وتنازعهم  وتهدر طاقاتهم؟.. فيما الجاران لم ينضبطا لوعي استراتيجي قيمي تشغلهما المصالح الآنية عن حسابات الأمة التي لا طغيان فيها لعرق أو طائفة؟

تميز العرب بطاقة روحية قرونا عدة جمعت لهم الشعوب والأمم في أعظم حضارة إنسانية عمرا واتساعا وقيما.. أصبحت مخبوءة اليوم في زوايا المتألمين على واقع أمتهم ولكنها بلا شك لم تمت، نرى وهجها كلما انتفض العرب ضد طاغية أو ضد مستعمر فتتجلى روحهم كما لو كانت تتلقى بيانات غار “حراء” على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

لابد من محاولة الخروج من هذه المعادلة الصفرية لمداواة الجسد العربي وإنقاذ إيران من تخبطها في العراق واليمن وإنقاذ تركيا من خطاياها بعلاقتها بالأطلسي والكيان الصهيوني.. ولشق الطريق الذي يتكامل فيه الجميع على المحجة البيضاء.. إنه الطريق إلى القدس برنامجا ومشروعا وليس شعارا وليس انشغالا في العراق أو عبثا في شمال سورية أو تحالفات مخلة وهنا تتدفق الأسئلة:.. فمن؟ وكيف؟ ومتى؟.. هي بعض الأسئلة التي أرهقت مجتمعاتنا التي تعاني الفقر والتخلف فيما هي تدرك أن عزتها تكمن في الطريق إلى القدس..فكما كان الطريق إلى القدس معراج نبينا إلى السموات العلى وسدرة المنتهى إيذانا بعالميتنا الأولى فإنه كذلك اليوم سيكون معراجنا إلى العزة لندخل عالميتنا الإسلامية الثانية فلا دعوات الجاهلية الطائفية والعرقية، فنهضتنا لن تكون إلا على طريق  القدس..  فمن له شرف الخطوة الأولى؟ إنه أكثر المسلمين والعرب إيمانا بالقدس وفلسطين وعشقا لها، إنها الجزائر بلا ريب.

لماذا الجزائر؟:

لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، تبدو الجزائر ذات الحظ الأوفر بالقيام بهذا الدور الجليل، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.. وهنا نجد أنفسنا بالضرورة مضطرين أن نفند بعض محاولات التشكيك والتثبيط.. فمن الأسئلة المتعجلة تلك التي تتحدث عن الإمكانات والقدرات و استحالة التوصل الى نتيجة وأسباب أخرى مثل بعد المكان وتعدد المشكلات واضطرابات إقليمية ودولية و مدى سكوت الأجانب على هذا السلوك السياسي الذي يصطدم في الجوهر مع مشاريعهم لتفجير المنطقة..

الجزائر بلد رئيس في الوطن العربي لم ينل استقلاله بمنحة استعمارية إنما بثورة غيرت الخريطة السياسية في أفريقيا والوطن العربي وقوضت أركان الاستعمار.. ثورة فجرت ثورات وكان صداها يشمل قارات الأرض الأربع و لم تكن في حلف أو محور، إنما مستقلة لا شرقية ولا غربية .. ثورة تجسدت قيما وسننا منتصرة و أسكنت شعبها تقاليد ترفض قيم الرذيلة والهزيمة المتمثلة بالتمزق والتشتت والجبن وموالاة الأعداء.. وأكدت دورها وموقعها في خريطة الفعل العربي من خلال حضور مستمر في المواقف التاريخية مع القضية الفلسطينية والثورة الفلسطينية وفي القتال على قناة السويس ودعم جبهات القتال بكل ما تملك من طائرات وبإسناد مالي وتسليحي كبير لم يمنعها عن ذلك مواقف من هذا النظام او ذاك ولم يحجم موقفها ودورها قلة إمكاناتها المادية يومذاك، فالجزائر تؤمن أن هذا السلوك تعبير تلقائي عن عميق قناعاتها.. 

لم تكن عقود الاستقلال الستة هي فقط شاهدة هذا الدور فلقد شارك الجزائريون في إطار الإسناد المغاربي جيش صلاح الدين في تحرير بيت المقدس بما يمثل ربع جيش صلاح الدين وكان لهم الدور الرئيس في تحرير القدس وبذلك منحهم القائد التاريخي صلاح الدين أخطر المواقع وأشرفها في المسجد الأقصى حي المغاربة وبوابة المغاربة لحماية حائط البراق.. وأوقف لها عبر الغوث بومدين ألفي هكتار في القدس الشريف في “عين كارم”.

في العقود الستة لاسيما تلك التي كانت تحت قيادة الرئيس هواري بومدين والشاذلي بن جديد تميزت الجزائر بحضور قوي في المشهد السياسي العربي بحجم ثقل وزن ثورتها المنتصرة واستمر الخط السياسي للجزائر على المستوى العربي والإسلامي قويا مستقيما بلا عوج ولم يسجل عليه أي هفوة، ملتزما بقضايا أمته ومبتعدا تماما عن التحيز لمحور دون آخر أو لطرف دون آخر فنالت الجزائر بذلك ثقة الأطراف جميعا.. لم يكن هذا الخط السياسي من باب الدعاية وبهرجة الفعل الذي يتم المقايضة به بل إنه عقيدة سياسية تنطلق من عميق وجدان الثوار المؤمنين بالوحدة وقيمتها والمدركين لخطورة التمزق في الأمة وكيف يهيئ للانهيار.. فكانت كل محاولاتها لرأب الصدع مكللة بالنجاح.

فلقد استطاعت الجزائر جمع الإيرانيين والعراقيين في اتفاقية صلح وسلام في 1975 بعد حروب متشعبة، كما أنهت صراعا متفاقما بين ليبيا ومصر سنة 1977 وبشكل نهائي، كما جمعت الفلسطينيين المتنازعين في 1987 قبيل الانتفاضة ليخرجوا من مؤتمر المصالحة وقد توحدت منظمة التحرير الفلسطينية التي كادت الخلافات تعصف بها.. فكان من نتائج هذه المصالحة الإسهام القوي في انتفاضة فلسطينية شاملة.. وعندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية انشغلت الجزائر بأعلى مستوياتها لإنهائها من خلال تكليف وزير خارجيتها محمد الصديق بن يحيى الوزير العبقري لإجراء مفاوضات مكوكية بين الطرفين حتى استشهد أثناء مهمته العظيمة في 3 مايو 1982.. لم تكن المصالحات بين العرب والمسلمين رغبة او صدفة إنما عقيدة تدفع لها الجزائر بكل طاقتها وتميز الجزائريون في هذه المهمات المقدسة بنبل المسعى والوقوف إزاء الجميع على مسافة واحدة ولكن بدأب لتذليل الصعاب.

سجل حافل منه المعلن و كثيره غير المعلن يضع الجزائر بلا تردد في المكانة الرائدة حرصا وعملا وقدرة وإيمانا بالوحدة.. وهذا هو أحد إنتاجات الثورة المباركة المتجددة ولن يتنازل عنه الجزائريون لأنه الوفاء لدماء الشهداء واستحضار قيم ثورتهم وسنن انتصارها.

إن تركيا وإيران في حاجة بلا شك للخروج من تخبطهما في العلاقة بالعرب ومن عزلة مفروضة على كلا منهما وقد نال كل منهما غضب من هذا الفريق أو ذاك، كما ان العرب في سورية والعراق واليمن بحاجة أن يرتفع عنهم تدخل الإيرانيين والأتراك.. وهنا يأتي دور الجزائر المقبول من الجميع لفض الاشتباك وإجراء مصالحات بين الدول العربية الرئيسية وجيران العرب وتعميق التفاهم الاستراتيجي في عمل متشعب ودؤوب لتجنيب المنطقة عبث العابثين.. وفي هذا الإطار سيأتي الحديث عن مشكلات الدول العربية الداخلية والمرتبطة بهذا الجار أو ذاك.. إن الموضوع عقيدة ومبدأ وبالإضافة إلى ذلك فهو تحقيق أمن قومي استراتيجي والله غالب على أمره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى