أقلام

الحروب بالمشرق العربي

الاستشراق كعنصر استمرار القلق الجيوبوليتيكي

تعبر الحروب المستمرة في الغالب الأعم، عن حالة من التمدد في الوعي المرتجع في الزمن والكامن في التاريخ، أي أنها حرب لا تكاد تخمد على تعود للاندلاع فهي بذلك ليست وليدة نزاع ظرفي مصلحي، كما كان الحال في يوغسلافية السابقة، أو حتى بين بريطانيا والأرجنتين حول الفوكلاند أو جزر المالوين كما كانت تنعت بداي ثمانينات القرن الفائت، بل هي وليدة عناصر متراكمة ومركبة ضاربة بأصولها في الأعماق السحيقة للتاريخ، وهي إذ تتصف بالعمق الزمني فإنها من أشياء ومعاني ذلك التاريخ المتشكل من مشاكل مستمرة، تتغذى في أوراها وفي وسائل تواصلها واستمرارها.
ومنطقة المشرق الإسلامي أو العربي هي أكثر المناطق اليوم تجربة في هذه الحرب الممتدة بطولها في التاريخ، فهي قبل موجة الاستعمار التي تأتت من نهضة أوروبية إصلاحية، كانت فريسة لنفسها من خلال التقاتل الطائفي والمذهبي والسياسي الاثني، رصيد من الخراب احتفظ به التراث الفكري والنظري، لم يتسنى للعقل الإسلامي امتلاك القدرة المبكرة على تفكيكه من قبل أن يقدم المستعمرون بكل أدواتهم ويغوصون فيه تنقيبا وتفكيكا إعادة تركيب، فيما عُرف بالاستشراق الذي لا يناقش لدى نخب العرب في حاضر مفعوله على مستوى صنع السياسات في الغرب وإنما في مترف القول الفلسفي في صالونات الاستئناس بالفكر والتاريخ والأدب.
لقد عمل الاستشراق على إعادة تشكيل الصورة المبعثرة للمنطقة على كل المستويات، بل أكثر من ذلك نفض غبار عن تراثها في السياسة والانتماءات المذهبية والطائفية، وعلى ضوائها رسم وجها جيوبوليتيكا للمنطقة بعد أن نزل وأنزل بها قواه المادية الكبرى التي تأتت له، مثلما أسفلنا القول، من بعد إصلاحات دينية وسياسية وفكرية ضاربة في عمقه التاريخي بلغت في مداها حد القطائع الابستمولوجية، فالرسم هذا ليس إذن وليد الآن، حيث يرفض بعضهم عبارات سياسية يعتقد أنها ولدية سطحية في التدبير كمقولة “الشرق الأوسط الجديد” فالجدة هنا هي محطة من مسار تاريخي استعماري متواصل من تجديد الرسم وإعادته لوجه المنطقة، وفق ما تقتضيه الظروف، بغية الإبقاء على السيطرة والاطباق عليها، حتى وإن ارتد وعيه اليها من أجيال متتالية صوب الماضي، فإنها ستظل وفق منطقة التجديد الاستعماري الاستشراقي المستمر، قابلة للترويض، وهو ما يفسر استمرار الحرب بها (منطقة الشرق الأوسط) وفي كل مرة يحضر خطاب الماضي الطائفي والمذهبي وخطاب الجغرافيا السياسية القلقلة التي تأسست استعماريا وفق هذه الانتماءات الطائفي، الاثنية المذهبية، بحيث تظل هي أداة اخماد أي رغبة وإرادة في العبور إلى العصر والتمكن من أشيائه.
إن الاستشراق لمتجلٍ بوضوح في الموافق والردود من الحروب التي تنشب في المنطقة، والاصطفافات التي يحدثها، وهذا في ظل فشل النخب السياسية العربية في تحيين مضنون خطابها ومشروعها الفكري، عبر استحداث القطائع الجدية مع تراث في مكنونه المذهبي واستحضار مفهومات أخرى للوجود التاريخي والسياسي غير التي أسست لصراعات قديمة أوحلت الامة وأبقتها مرتكسة وفي حمأة التخلف والوهن والضياع.
ولا يعتقدن أحد هنا، بأن الاستشراق هو محض مسألة فكرية فلسفية تاريخية متعلقة بسجالات وجدالات تخبية فوقية، ولا تمت بأي صلة كانت للواقع، وليست ذات تأثير على واقع الناس من العامة وعلاقات دولهم وأنظمة حكمهم، ذلك لأن اختراق الاستشراق لتاريخ الامة مثلما أشرنا اليه سابق مسه في العمق ولم يكتف بالقشرة، بل إن عقولنا هي التي تظل متوقفة عند حدود قشرة هذا التاريخ نصنع منها هزائمنا المتتالية.
فالاستشراق كرؤية للذات العربية وموقف من الاخر حيال ماضي هاته الامة الذي لا يزال يصنع حاضرها، وكأداة من أدوات استراتيجية التحكم في المنطقة، من خلال ترسيمها تاريخيا وجغرافيا، هو نافذ إلى أعماق الوعي الشعبي الذي لم يرق بعد إلى حد فهم ابجديات الانتماء ومستوياتها، بين ما هو ديني ومذهبي وطائفي وقُطري سياسي عصري وغيرها من أشكال الانتماء وممارساته.
وحتى حركات الاحياء والتجديد ونخب التحديث، بدت، ليت فقط عاجزة عن تجاوز التشكيل الاستشراقي السياسي للمنطقة، بل بعضها تبنته والبعض الاخر رضخ اليه كونه من مسلمات التاريخ ونتائجه، في وراحت بعض الاتجاهات الاصولية ترفض بالعموميات الإصلاحية التي تضمنتها مشاريعها ذلك التشكل بمحاولة الاعتماد على الوجدان والوحدوي عبر توظيف لذاكرة تأويلية للماضي تتصارع فيها السرديات المذهبية كل بحسب ما وصله من أخبار هذا الماضي المجيد التليد ‪!‬‬
فالاستشراف بما طرحه من ثقل معرفي وفلسفي غير به من وجه المنطقة تاريخيا وجغرافية، ملأ فيه فراغا معرفيا كان العقل العربي يعيش في ظلمة ذهاليزه أحقبا، أحدث خلالا على مستوى التمثل الاستراتيجي للتاريخ بالمنطقة، ففي الوقت الذي تمكن فيه الغرب من استكمال درايته بالخصوصيات والتناقضات التي تستعر في نفوس وعقول الشعوب المرتدة دوما بوعيها إلى الخلف، وقطع بها على هذا الأساس المنطقة تقطيعا، مستندا على ما كتبه عقوله الاستشراقية الكبرى تكفي الإشارة هنا فقط إلى نموذج برنارد لويس الذي تملأ كتبه المحملة بأدق التفاصيل وأكبر المعلومات عن الجينات التاريخية للمنطقة بين الحقيقة والتزوير، مكاتب البنتاغون والبيت الأبيض الأمريكي للتدليل على هول الأثر الاستشراقي ودوره في انتاج الواقع المحترب المكهرب دوما بالمنطقة، دون الحديث عن الاستشراف البريطاني الذي هو أعتى وأذكى بكثير.
واطلالة وجيزة، هنا على ردود الفعل من الدور الذي لعبته الدفاعات الجوية المنصوبة في الأردن وهي تتصدى للصواريخ الإيرانية المستهدفة لمناطق في أرض الكيان الصهيوني ليدرك المرء عمق هذا الأثر الاستشراقي في تكوين واقع تاريخي يترسخ بقدر ما يتزحزح حسب في الظروف في وعي العامة والخاصة من المتابعين للشأن السياسي العربي والإسلامي.
فالإشكال إذا هو أكبر مما يوصف ويسرد في تحليلات وتأويلات فوقية أو عملية لما يجري اليوم من محاولات إعادة تجديد واقع قديم، عبر النهج الاستعماري ذي الأصول الاستشراقية العميقة، وهذا بفرض نموذج ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد، من خلال توظيف التناقضات التاريخية للمنطقة.
بشير عمري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى