
في عالم ضاق فيه التاريخ بأشيائه، صارت القيم المُشيَّئة من أدوات صراعات ومناورات الاستقطاب والاستحواذ السياسي، كالسلام والفن الأدب وغيرها من قيم الجمال التي يتم عبرها اليوم اختراق البني الثقافية والسياسية للأمم وذلك من خلال جوائز لا يحتاج العقل فيها، إلى كبير جهد كي يدرك أنها قصدية وغير ذات مصداقية.
فجائزة غونكور التي منحت مؤخرا للصحفي والروائي الفرانكفوني الجزائري كمال داود، عن روايته حوريات، عكست بحق مدى تمدد نطاق البعد الوظيفي كأسلوب للاستحواذ والاستقطاب الحضاري والسياسي الغربي ليشمل الأفراد بعد أن كان الأمر مقتصرا إلى حد كبير على الدول والكيانات المصطنعة، فالأفراد في زمن سرعة انتشار تكنولوجيا الصوت والصورة، صاروا في التأثير الوظيفي على الراي العام، بأهمية الأمم والدول وذلك من خلال توظيفهم في الإشكالات العولمية وصراعاتها المحمومة اليوم.
فبصرف النظر عن مدى استحقاق الكاتب الفني للجائزة وجدارته بها من عدمه، يظل توقيت وسياق تتويجه بها محل أسئلة عميقة لدى الكثير من نخب العرب والجزائر بشكل أخص، حيث جاءت في سياق متوتر في العلاقة بين فرنسا والجزائر، أين أدارت فيها هاته الأخيرة ظهرها للغة الفرنسية، من خلال تقليص استعمالها في التعليم والاستعاضة عنها بالإنجليزية، وهو ما لم تتقبله دوائر الثقافة والاقتصاد الفرنسية باعتباره يمس بمجال استثماري تاريخي كان الجنرال ديغول أول من أشار إليه في مذكراته “الأمل” بحسبانه أهم رأسمال للحركة الاستعمارية وأبرزها الاستعمار الفرنسي، أين تغتني الخزينة الفرنسية من محاصيل تجارتها المادية والثقافية تجبيها لها رقعة تواجد لغتها في إفريقيا ومناطق النفوذ الفرانكفوني في العالم.
غير أن السياق الأهم الذي اختير أن تمنح فيه الجائزة، هو ذلك المتعلق بواقع الصراع بالمنطقة حول الصحراء الغربية التي تورطت فيه فرنسا بالميل النهائي للموقف المغربي ومشروع الحكم الذاتي الذي يقترحه كحل وحيد لهذا الملف الشائك، وهو ما يكون حسب بعض الملاحظين بمثابة الاسفين الأخير الذي دُقَّ في نعش العلاقة بين النظامين القائمين حاليا في كل الجزائر وباريس، وقد يعترض البعض على هذا الربط، باعتبار أن الجائزة أدبية تمنح بقرار فني غير ذي صلة بالمسألة السياسية والدبلوماسية، لكن في الحقيقة ما ظهر من تجارب مع هاته الجوائز والتوظيف السياسي لها، يعطي شرعية الاسترابة منها ووضعها في خانة الاستعمال السياسي للخيال الفني في تكريس الهيمنة وحسم الصراعات بين ثقافات ومصالح الدول والأمم.
كما أن التقاليد التي درجت عليها الجهات المانحة للجوائز اليوم، خصوصا على مستوى الثيمات والقضايا التي تعطى الأولوية في التتويج، خلقت شكلا مريبا في الكتابة والابداع، بحيث جفت الأقلام في عديد الدول “التابعة” عن أن تكون ذاتها وقررت تغير معسكر مقروئيتها، مؤثرة الكتابة تحت الطلب (التوظيف) على أن تكتب بصدق ما هو مكنون في مخيلتها وما تجود بها قريحتها.
فالعولمة اليوم تعيد تشكيل خيال جديد عابر للثقافات بل وكاسر لحدود الخصوصية، من خلال الدوس على كل عناصرها بأقلام تتمرد على الذات، من غير هدى معرفي أو اقتناع أو قناعة حقيقيين بمشروع ثقافي جديد، إنما هي الامتيازات والشهرة التي تمنحها الدوائر الغربية ما قبل تعرية الذات وجعلها مادة للسخرية الفنية هي التي صارت الدافع الرئيس للكتابة الهمجية التهجُّمية على الأصول الاجتماعية والثقافة للامم.
فتسليع الخيال الفني والأدبي الجاري اليوم من خلال استباحة المعاني والرموز والحدود الثقافية الراسمة لأبعاد وحقائق الاختلاف والتنوع البشري في ميراث هذا العالم وذاكرت ثقافاته وخيالها الذي يجدد عبره تشكيل بنيته بمختلف أطرافها وطرائفها، هو جهد مقصود في مسار استكمال مشروع خلق النموذج البديل لسوق الثقافة، نموذج سائل، مائع ضائع، مركب من عناصر غير تاريخية بالمرة.
فمثل هؤلاء الكتاب العرب والمسلمين الذين يسترضون الغرب ويسهدونه في مساراتهم الإبداعية، وطالبين جوائزه، إنما هم في الحقيق في قلب هذا المشروع، إذ يشتغلون على افراغ الأطر الثقافية الخاصة لبلدانهم من محتواها بنقضها وفق إملاءات النموذج النقدي الغربي وغلوه في القطع مع القيم والتقاليد والأعراف الإنسانية باعتبارها حائلة دائمة دون الانتقال إلى مراحل أخرى من الكتابة والإبداع الأدبي الذي ينتهي في الأخير إلى طرح نموذج جديد من المستهلك لإنتاج الخيال والمعنى، وهو النموذج العولمي المادي المتجاوز لكل أبعاد التاريخ والجغرافيا وحمولتهما الحضارية.
لكن ما يظل مثيرا للانتباه هو أن هذا الاختراق للأمن الثقافي والقيمي، ليس يقف عند التوظيف الخارجي للفاعل الثقافي والأدبي، وإنما هو كامن في التجربة المحلية أي بداخل حدائق الكلمة والفن الخاصة، مثلما كان الشأن مع رواية هوراية التي أحدثت صدمة في المشهد الثقافي وفضاء التلقي فيه، بسبب الجرأة على النموذج الثقافي السائد اليوم.
فما هو واضح من ضعف على مستوى إدارة السوق الثقافية في العالم العربي عموما، وفوضى الرأي فيها بسبب غياب المشروع الاجتماعي والثقافي لكل هاته البلدان، يجعل من قدرة الاختراق الغربي وتوظيف الرموز والمعاني والثوابت في هز الاستقرار السياسي والمس بأمن البلاد الثقافي والديني والاجتماعي، أسهل مما كان عليه الأمر قبيل هذا الانفجار في تكنولوجيا الاتصال التي اختزلت العالم اليوم في ذاكرة وشاشة هاته محمول يعلق بخصر شاب غر وطالب مشوه ومتلق للفن والادب من غير خارطة ادراكية محصنة.
ففساد الجوائز الأدبية العربية والغربية هو من حيث الوسائل واحد، إذ تسيطر عليه دوائر العبث بالمقدسات والتشجيع على استباحة منظومات القيم التي تقع على رأس قائمة مشروطات وشروط الارتقاء العولمي، أما من حيث الغايات ففساد الجوائز العربية ومسابقاتها مالي مادي محض، والفضائح التي لا تكاد تنتهي.
فالوظيفية الفردية كأداة تصارعية في السياق العولمي واجتياحه للعقول والحقول خلف حواجزها الطبيعية، أمر بات يدعو إلى إيجاد مقاربة خاصة في التعامل معه بما يضمن القدرة على الحفاظ على الخصوصيات وقمع التخريب والتغريب الذي سيفضي، إن هو تواصل واستمر، إلى محو الذات والحاقها بالنموذج العبثي الاستهلاكي الذي تضعه العولمة كأفق لاكتمال مسارها اللا تاريخي !
بشير عمري