أقلامالأولى

الدستور وحدود السياسة والقانون

بقلم: احسن خلاص

الجزائرأعطت الرئاسة، بتوزيع نسخة مسودة مشروع التعديلات الدستورية، إشارة انطلاق النقاش حول المراجعة الخامسة من نوعها لدستور 23 فبراير 1989. وإن لم تحدد السلطة قنوات النقاش حول الوثيقة الموزعة ولا أطره الرسمية فإنها خصت الشركاء السياسيين والاجتماعيين بالإرسالية الرسمية وتركت من لا ينتمي إلى دائرة الشركاء في موقع الملاحظ المتابع الموزع بين المهتم والمتفرج في انتظار نشرها على أوسع نطاق.

 

منذ انطلاق حملته الانتخابية لرئاسيات 12 ديسمبر بشر الرئيس تبون بإصلاحات دستورية عميقة تكرس الحريات وتعمق الفصل بين السلطات والتوازن بينها بما يكفل التخلص من الحكم الفردي المركزي وتمحي النقائص والاختلالات التي اعترت الجهاز القضائي فضلا عن إضفاء الشفافية والأخلاق على أجهزة الدولة. كما أدرج تلك الإصلاحات ضمن رغبته في أن يستجيب لمطالب “الحراك المبارك” الذي أنقذ في نظره الدولة من الانهيار، من خلال التغلب على كل الأسباب التي أدت إلى الانفجار في فبراير من العام الماضي.

 

انطلق الرئيس تبون في المسعى دون إطالة فقد استدعى لجنة من خبراء القانون العام بعضهم ينشط على الصعيد الدولي لبلورة صيغة جديدة للدستور تتناسب مع ما تضمنته رسالة تكليف حددت سبعة محاور يمكن للجنة الخوض فيها بكل حرية بل فتح لها المجال للخروج عن نص رسالة التكليف عند الضرورة. وما عدا اللقاءات القليلة التي أجراها مع شخصيات وأحزاب سياسية لم ير الرئيس تبون ضرورة فتح استشارة قبلية موسعة من منطلق أنه الحراك الشعبي عبر بما فيه الكفاية عن المواطن التي ينبغي أن يمسها التغيير ولسان حاله يقول كما قال ديغول ذات يوم: لقد فهمتكم.

 

ظل الرئيس تبون يؤكد في كل اللقاءات الرسمية العامة وعند لقائه ممثلي وسائل الإعلام أن الجزائر تتجه لتغيير جذري للنظام القائم وكان يعبر في بعض الأحيان عن طموح يتجاوز السقف الذي تطمح إليه القوى الأشد معارضة لهذا النظام إذ وعد أن يكون هذا العام عاما للنظام الجديد الذي سيرى النور بمجرد الانتهاء من الاستشارة الشعبية حول الدستور وحول البرلمان الجديد الذي سينبثق في ظل نظام انتخابي متين وأكثر شفافية وديمقراطية. انتهت لجنة الخبراء من عملها وسلمت تقريرها إلى من كلفها وقبل أن تنصرف كلفها الرئيس تبون بإعداد مشروع جديد لتعديل قانون النظام الانتخابي. وظل المهتمون من رجال القانون والشركاء السياسيون ينتظرون خروج المشروع الجديد إلى النور بعد أن عطله لأسابيع الظرف الخاص الذي تمر به البلاد والعالم جراء وباء كورونا.

 

وها هي الوثيقة بيننا اليوم وقد ضمنتها لجنة الخبراء التي أعدتها ورقة تعلل فيها خياراتها وتوضح فيها فهمها لرسالة التكليف التي تلقتها منذ أكثر من شهرين. وهي ورقة جديرة بالاهتمام قبل الخوض في مناقشة نص مشروع التعديلات الجديدة ذاته. وقد كانت اللجنة واضحة ومنسجمة تماما مع طبيعتها ومضمون المهام المكلفة بها إذ أنها أولا وأخيرا هي لجنة تقنية لا يمكن لها أن تحل محل الفاعلين السياسيين الذي يقع عليهم اقتراح الخيارات الكبرى.

 

وبالرغم من أن الرئيس تبون أتاح لها المجال لكي “تكثر على ما وصاها” إلا أنها فضلت أن تكون زاهدة “فقللت على ما وصاها” إذا ما استعنا بالتعبير الشعبي. وقد قالت ذلك صراحة عندما قالت بأنها “لا تعتقد أنها في مهمة تأسيسية تسمح لها بمراجعة الأحكام المتعلقة بالنظام الدستوري”. فهدفها كما حددته لذاتها “إثراء النص الدستوري حتى يكون منسجما مع متطلبات دولة القانون، واستنادا إلى المبادئ العالمية التي يقوم عليها النظام الدستوري اليوم، وكل الاتجاهات والتجارب المعتمدة على المستوى الدولي، مع ضرورة التقيد بما يفرضه الواقع السياسي والاجتماعي للجزائر.” وتظهر من هذا التعليل الخلفية الدولية لأعضاء اللجنة أو لبعضهم على الأقل وهو ما سنعثر عليه في ثنايا المقترحات التي قدمتها لإثراء النص الدستوري.

 

لقد كانت الخلفية التقنية الخبراتية للجنة واضحة تماما إلى درجة أن النص المقترح تجرد إلى حد كبير من المحتوى السياسي فقد غرق فريق الخبراء في التحسينات الفنية لمحتوى الدستور في نسخته الأخيرة في 2016، وقد أبدت اللجنة ذلك بوضوح عندما ذكرت أن “بعض أحكام الدستور الحالي صيغ بشكل أفقدها معناها القانوني وهو ما يفسر صعوبة تطبيقها وتفسيرها في بعض الحالات وهو ما دفع اللجنة إلى إعادة صياغة البعض منها وإلغاء البعض الآخر بالنظر إلى طابعها غير القانوني” وكأن الصيغة الجديدة ليست موجهة للمجتمع ولا للطبقة السياسية بل هي في مجال النقاش الأكاديمي والقانوني المحض ولو أنها تضمنت مقترحات جديدة في عدة مجالات سنأتي إلى مناقشتها في حينها.

 

لاشك أن الصياغة السليمة لمواد الدستور لتوافق روح التشريع والتأسيس من الأهمية بمكان إذ أنها تجنب التأويلات وتعطي للنص قوة وصلابة تمكنه من أداء دوره في الضبط  والتوجيه الواضح والسليم لاسيما في النزاعات، إلا أن الإفراط في التركيز عليها دون الخوض في النقاش السياسي الحاد حول حاضرنا ومستقبلنا السياسي يرهن مسعى التعديل الدستوري ويجرده من مغزاه وقد يرهن الجهود القائمة من أجل الإصلاح الشامل، فلا يمكن أن نحرص على تكييف النصوص القائمة مع المعايير التقنية الدولية دون أن يكون ظل النقاشات السياسية التي ملأت الجزائر كلها لعام كامل من الحراك الشعبي على هامش الاهتمام الدستوري.

 

وفي انتظار دخول الطبقة السياسية على خط النقاش حول الوثيقة المقترحة، فيمكن القول إن اللجنة كانت مبالغة في الحذر من الخوض في الخيارات السياسية الكبرى، إذ أبقت على جوهر دستور 1989 والتعديلات المعتبرة التي أدخلت عليه في 1996 واكتفت، إلا في بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة، بتحسينات فنية وهي من صميم اختصاصها كلجنة خبراء.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى