أقلامالأولى

الديمقراطية بين القبول والرفض..

د. بن عجمية بوعبد الله أستاذ جامعي وكاتب صحفي

 

لطاما أثار موضوع الديمقراطية الجدل والنقاش بكل تمظهراته السياسية والثقافية والحضارية داخل المجتمعات الديمقراطية نفسها والتي تعتبر العراب الأساسي لهذا المفهوم والممارسة معا وأيضا في الدول التي توصف بأنها غير ديمقراطية، وترجع أهمية وحساسية هذا الموضوع لسبب بسيط وهو أنها تتعلق بالوصول إلى السلطة وكرسي الحكم الذي يعتبر واحدا من أهم البيئات المستقطبة للصراع والتنافس بل والاقتتال أحيانا، لذلك نجد أن بعض المجتمعات ارتضت السلوك الديمقراطي القائم على الاختيار الحر والشفاف للحكام من قبل محكوميهم، وبين من ناصب العداء لهذه الوسيلة التي رآها بأنها تهدد كيانه وعرشه ونفوذه فآثر البقاء في السلطة تحت أي ثمن.

ولذلك يمكن تصنيف دول العالم وفق هذا المفهوم الديمقراطي والممارسة السياسية الشفافة إلى ثلاثة عوالم رئيسية:

العالم الديمقراطي الحقيقي: والذي استقرت فيه الحياة السياسية والممارسة الانتخابية على أساس الاختيار الشفاف والديمقراطي للحكام والمجالس المنتخبة على كل المستويات المحلية والإقليمية والوطنية في تداول سلمي وحضاري للسلطة يطبعه مناخ من الحريات كحرية التعبير والاحتجاج والتظاهر والنقد للحاكم ومشروعه وحزبه في مشهد تطبعه ثنائية الموالاة والمعارضة والتي تتبدل من محطة انتخابية إلى أخرى، وما يميز هذه الممارسات أن الجميع يسلم باللعبة الديمقراطية وبنتائجها النزيهة والشفافة لأن الجميع ساهم في بناء هذه المنظومة فتوافق الكل عليها كوسيلة للوصول إلى السلطة أو مغادرتها.

العالم غير الديمقراطي: وهو البلدان التي ما تزال تعيش صراعات مؤلمة وخلافات عميقة حول العقد الاجتماعي والسياسي فيها بسبب الاستفراد بالحكم إما حكم الفرد المطلق أو حكم العائلة الدائم أو حكم الحزب الواحد مع هامش يكاد ينعدم للحريات بكل أنواعها، أما الأنشطة المعارضة لنظام الحكم من أحزاب أو جمعيات أو نقابات أو فعاليات فلا تكاد تجد لنفسها موطئ قدم في هذا النظام الأوحد والمغلق فتجد أغلبهم إما في المنافي أو السجون أو بالتصفية المباشرة لإسكات كل الأصوات التي من شأنها أن تطالب بالإصلاح السياسي والتداول السلمي على السلطة والنتيجة أن هذه الدول أغلبها فاشلة اقتصاديا ومضطربة سياسيا وهشة اجتماعيا لأن الطبيعة البشرية لا تقبل الاستبداد وبقاء الأمور على حالها ولعقود طويلة من الزمن.

عالم الديمقراطية الصورية: وهي الدول التي تريد أن تتحايل على الممارسة الديمقراطية بإجراء انتخابات صورية وتبديل لواجهات الحكم ولكن هي من تتحكم بنتائج هذه الانتخابات بالتزوير والتلاعب بالأرقام مع بقاء نفس السياسات ونفس النظام، مع وجود معارضة وإعلام وهامش من الحريات والممارسات النقابية حتى يتخيل لك للوهلة الأولى أنها دول ديمقراطية في حين أنه متحكم بها من وراء ستار، وهذه أيضا دول لم تستطع أن تحقق الرفاه لشعوبها ولا الاستقرار لمجتمعاتها.

في عالمنا العربي لا تبعث الحياة السياسية على التفاؤل أبدا بسبب انحصار البعد الديمقراطي وغياب الممارسة السياسية الشفافة، والنتيجة ما آلت إليه أوضاع منطقتنا من تخلف وتراجع لعديد المؤشرات الاقتصادية والمالية والسياسية والعلمية… إلخ وإذا حاولنا أن نحصر أسباب هذا الواقع السياسي الضبابي فيمكن اختصاره في النقاط المهمة التالية:

  • مخلفات الاستعمار وتوابعه في المنطقة التي استلمت الحكم في أغلب الدول العربية بعد الاستقلال وعززت حكم الحزب الواحد والفرد وقمعت كل الآراء المخالفة وهي التي تتحمل بالدرجة الأولى ما آلت إليه أوطاننا، فتشكلت نخب حول الحاكم تؤصل لمشروعية حكمه ولمنجزاته مع تسويق شيطنة الديمقراطية كونها تجلب الفوضى وعدم الاستقرار، وأن وصول أي رأي أو حزب أو كيان أو جماعة معارضة هو حلول للخراب وتدمير للمجتمعات فبقيت هذه الأنظمة بناء على هذه الحجج الواهية والخاطئة تحكم لعقود طويلة من الزمن وبدعم من مستعمر الأمس الذي رأى فيها امتدادا لنفوذه وضمانا لمصالحه.
  • ضعف النخب التي من المفروض أن تقوم هي بتأطير عملية التغيير والإصلاح ناهيك على النخب التي انخرطت في خطط الحكام والتي استرزقت وانتفعت من خيراته وامتيازاته، إضافة إلى أن أغلب النخب آثرت الصمت بحجة استحالة التغيير من جهة وعدم تحمسها لدفع وتحمل ضريبة هذا التغيير من جهة أخرى.
  • انهماك الشعوب بإرادتها أو بفعل الأنظمة الحاكمة في تفاصيل حياتها اليومية ومتطلبات المعيشة الروتينية كالتعليم والصحة والشغل والأكل والشرب والسكن والقدرة الشرائية والأمن في بعض المجتمعات التي تعرف اضطرابات وحروب أهلية، متناسية بأن التغيير يكون بانتفاضتها كشعوب كونها قوة لا تقهر كما فعلت عديد شعوب العالم التي غيرت أنظمة الحكم في بلادها وانتقلت بمجتمعاتها من دول فاشلة إلى دول كبرى، فمن سيقوم بعملية التغيير إذا لم تقم بها الشعوب بتأطير من النخب.
  • تأثير القوى العالمية ومعارضتها لقيام أي حكم ديمقراطي أو تجربة سياسية ناجحة في بلداننا العربية والإسلامية ومحاولة وأد كل تجربة في المهد، والتجارب على ذلك عديدة وكثيرة لعل أبرزها ما حدث لبعض دول الربيع العربي من ثورات مضادة بدعم وتشجيع من القوى العالمية، وحتى العراق مثلا الذي صدعت أمريكا رؤوسنا بأنها سوف تحوله إلى بلد ديمقراطي وتحرره من نظام “صدام حسين” دخل في أتون النزاعات الطائفية والمحاصصات  العرقية، ويبقى مثال الاخوان المسلمين في مصر والانقلاب على التجربة الديمقراطية فيه أبرز مثال على الثورات المضادة التي قادتها وأشرفت عليها القوى العالمية.
  • الصراعات الدينية والمذهبية والعرقية والاثنية واللغوية في منطقتنا العربية واستخدامها في الصراع وإذكاء الحروب الأهلية ساهم عميقا في تأخير عملية الإصلاح والتغيير السلمي، فالمفروض أن هذه الاختلافات هي تنوع قوة ونقطة إيجابية لمجتمعاتنا، ولكن في عالمنا العربي تحولت إلى كابوس مخيف وبعبع يهدد كل عملية إصلاح أو محاولة تغيير أو توازن واستقرار والدليل ما يحدث في سوريا والعراق واليمن ولبنان بين الطوائف والإثنيات والمذاهب.

الديمقراطية ثقافة وقناعة أولا وتضحية كذلك من قبل حملة مشاريع الإصلاح والتغيير من نخب وأحزاب ونقابات ومجتمع مدني وإعلام، وليست مجرد أحلام أو أوهام نصدرها لكسب الوقت أو لاحتواء واقع أو لإخفاء حقائق، ليست الأمور مستحيلة ولكن يحتاج الأمر إلى إرادة وثقة وتكاتف جهود الجميع للوصول إلى المستوى الذي نتمناه جميعا وهو أوطان قوية ومستقرة لها كلمتها وتأثيرها وأوراقها المؤثرة على المسرح العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى