أقلام

الذاكرة أهميتها ومقتضياتها بالنسبة للدولة الجزائرية الحديثة

من خلال ذكرى انتفاضة 8 ماي 1945

السفير د. محمود براهم

تمهيد

ما الذاكرة سوى وعي بالتماثل الذاتي عبر الزمن وحامل للهوية وضامن لاستمراريتها وأمنها. وتوسعا سنقول إن الذاكرة الجماعية تصوغ الهوية وتحدد سلوك الدولة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. فالذاكرة في رأي البعض شكل من أشكال الوعي الجماعي ومرآة تعكس العالم الاجتماعي وفي ذات الوقت نور يضيئه. إنها في آن واحد نموذج من المجتمع ونموذج للمجتمع، متواجدة في الحاضر أكثر منها في الماضي.

وكيف لمجتمع ما أن يحقق وجوده ويكتسب وعيه الذاتي بنفسه إن لم يكن قادرا على استحضار جملة من الأحداث الحاضرة والماضية ومراجعة الزمن والتنقل عبر محطاته باستمرار. فالذاكرة الجماعية هي حاملة لهويّة الدولة عبر سردياتها المٌؤسِسة الحقيقية. وحتى نحقق أمننا علينا النظر إلى ما وراء الأنا الحاضر والغوص في ماضي ومستقبل الوطن كي نحافظ على وحدته وسلامته من خلال المحافظة على ذاكرته الجماعية. وعمليا ذاكرة الجزائر الحبلى بأحداث جسام هي من حددت سلوك الدولة الجزائرية بعد استعادة استقلالها سنة 1962. ذاكرة صقلتها دهور من المقاومة المستميتة عن حرمة البلاد واستقلالها. ولا عجب أن نرى الجزائر تتكفل بعيد استقلالها بالدفاع عن المظلومين ممن عاشوا مثلها غبن الاستعمار وظلمه وتدفع بهم نحو الاستقلال دفعا. فعندما سقطت الجزائر سقطت إفريقيا كلها وعندما نهضت الجزائر نهضت إفريقيا كلها، وامتد وهيجها الثوري إلى العالم العربي والإسلامي وأعطى دفعا قويا لقضاياه المقدسة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

وعملا على الحفاظ على هوية الأمة الجزائرية وسلامتها حاضرا ومستقبلا جعلت السلطات الجزائرية العليا من يوم 08 مايو من كل سنة يوما للذاكرة الوطنية وهو ذات اليوم الذي يوافق اندلاع انتفاضة 08 مايو 1945 المجيدة التي ضحى خلالها شعبنا على مذبح الحرية بـ 45000 شهيد والتي تعمل الدولة الجزائرية الآن من أجل استرداد حقه في الحقيقة.

إن بقاء أمة مرهون ببقاء ذاكرتها التي تمثل الأسمنت الذي يوحدها ويسمح بالتواصل بين أجيالها الحاضرة والماضية. وإذا كانت فرنسا اليوم لا تستنكف أن تنحني أمام “أرواح محاربيها الذي قاتلوا من أجل أهداف استعمارية توسعية ولا تعترف بوجود “حرب منسية”، فما بالك بالجزائر التي لم تتعافى بعد من رضوض العدوان الاستعماري الهمجي الفرنسي عليها؟

فرنسا الاستعمارية ونكران الجميل

بعد الثورة الفرنسية (1789) هاجمت الملكيات الأوروبية فرنسا من جميع الجهات وباشرت إنجلترا محاصرتها وتجويعها في وقت كانت خزيتيها خاوية. فمن أنقذ شعبها من المجاعة؟ إنها الجزائر التي منحتها قرضا بمليون فرنك ذهبي ودون فوائد. وبعد عودة السلم لم تسدد فرنسا دينها لأن البرجوازية الفرنسية آنذاك كانت ترى أن قرض المال لفرنسا يمثل شرف لدائنيها عليهم أن يكتفوا بشرف به. بل وأكثر من ذلك لقد حصلت في مدينة القالة الساحلية على مكان جعلته مستودعا تجاريا بعد التعهد بعدم تحصينه، فأخلفت الوعد وقامت بتحصينات عليه ولذلك غضب الداي ورمى القنصل الفرنسي دوفال Deval بمروحة فاتخذت فرنسا من ذريعة لغزو الجزائر.

كان غزو فرنسا للجزائر حرب غير شريفة لأنها لم تكن حربا بين خصمين متكافئين في القوة. لقد تميز القادة العسكريون الفرنسيون بإجرامهم المنقطع النظير. فعند عجز جيوشهم عن تحقيق النصر في الميدان يعمدون إلى حرق القرى والمحاصيل وتدخين السكان في المغارات وقطع الأشجار وسلب الممتلكات وبيع النساء والاطفال وذهب بهم الأمر إلى حدّ قطع آذان الجزائريين وجمعها في صناديق على سبيل التسلية. لقد أرسلوا عظام ضحاياهم إلى باريس لتزين متاحفهم وصنعوا منها مواد كالصابون وحتى الغذاء. أن تقاريرهم ذاتها تشهد على إجرامهم. راجعوا ان شئتم كتابات الجنرال سانت آرنو والمارشال، Saint-Arnaud بوجو Bugeaud والعقيد بان Pein وستقرؤن أشياء يندى لها جبين البشرية، أشياء تترفع الوحوش الكاسرة عن فعلها. ومع ذلك تواصلت مقاومة الشعب الجزائري لها دون توقف الى غاية العصور الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية وهي فترة ظن فيها الكثير أن الأمر قد استتب لفرنسا وأن الجو قد خلا لها لتبيض وتفرخ لكن هيهات هيهات.

سياق التاريخي لأحداث 08 مايو 1945
طالبت مجموعة صغيرة من النخبة الجزائرية بين 1898 و1900 بالمساواة السياسية بين الفرنسيين والجزائريين في إطار الاندماج لكن دون فائدة لأن فرنسا كانت، وهي محقّة، تشك في نواياهم فالأمير خالد كان قد راسل الرئيس الأمريكي ويلسون يطلب منه تمكين الجزائر من الاستقلال.

وخلال الحرب العالمية الأولى، تم تجنيد 173.000 جندي جزائري شكلوا الجزء الأكبر من القوة غير الأوروبية المعبأة على الجبهات الأوروبية كما تم تحويل 119,000 جزائري إلى الحاضرة الفرنسية للمشاركة في إعادة إعمارها. لم يكافأ هذا الجهد أبدا. لقد عاد أولئك الذين نجوا من هذه الحرب إلى الجزائر بأفكار تحررية ستؤتي أكلها لاحقا.

وجاءت الحرب العالمية الثانية لتكشف عن عورة الجيش الفرنسي وتفند سردية بطولاته المزيفة حول حرب الإبادة التي خاضها في الجزائر ضد شعب أعزل. احتلت ألمانيا فرنسا في بضع أسابيع بين مايو ويونيو 1940 وبموجب الهدنة المبرمة في 22 يونيو 1940، مُنحت حكومة المارشال بيتان Pétain في فيشي Vichy، حكما ذاتيا شكليا على بقية الإقليم الذي سمي مجازا “المنطقة الحرة”. كان جل المسؤولين الفرنسيين على غرار بيار لافال Laval، يؤمنون بالنصر النهائي لألمانيا ويرون من الصواب قبوله بل أن الفرنسيين شكلوا فيلقا من المتطوعين للقتال لصالح ألمانيا على الجبهة السوفيتية وأٌمرت القوات الفرنسية في شمال إفريقيا بمقاومة عمليات الإنزال الأنجلو سكسونية في 8 نوفمبر 1942. كان ذلك عار لا يمحى.
وبدء من 22 أغسطس وعلى نقيض الفرنسيين المتعاونين مع النازيين، خاضت فرقة المشاة الجزائرية الثالثة وفوج الرماة الجزائريون معركة مرسيليا وحرروها في 28 من نفس الشهر نهائيا رغم التحصينات الألمانية الرهيبة.

مجازر 8 مايو 1945

بعد هبوط الحلفاء في شمال إفريقيا اتصل الوطنيون الجزائريون بالمندوبين السياسيين الأمريكان على غرار روبرت مرفي Murphy، وناقشوا معه سبل تطبيق الميثاق الأطلسي على الجزائر، ووعدت بريطانيا وأمريكا الشعوب التي كانت تحارب معها بمنحها الحق في تقرير المصير بعد النصر على العدو المشترك وبالتدويل النشط والمكثف للمشكلة الجزائرية. حدث ذلك في ديسمبر 1942، في وقت كان فيه الديغوليون يطلبون من الجزائريين مساعدة المجهود الحربي للحلفاء. وفي 18 أبريل 1945 تم توقيف الزعيم الوطني مصالي الحاج وحوّل إلى القليعة في انتظار نفيه إلى برازافيل. هذا الاستفزاز المقصود دفع بمناضلي حزب الشعب الجزائري المحظور إلى تنظيم مظاهرات شملت كامل التراب الجزائري ودامت 8 أيام بدأ من الفاتح من مايو في الجزائر العاصمة ووهران ثم في سطيف وقالمة وخراطة ومدن جزائرية أخرى بهدف تكريم الجنود الجزائريين الذين قضوا خلال الحرب، رفعت خلالها الأعلام وطنية وشعار “تحي الجزائر حرة مستقلة”.

لقد اعتبرت الحكومة المؤقتة التي يرأسها ديغول وضمت الأحزاب السياسية للمقاومة والحزب الشيوعي الفرنسي التلويح بالعلم الجزائري مساس غير مقبول بالسيادة الفرنسية على التراب الجزائري ورفضت أن يقدم المتظاهرون أنفسهم باعتبارهم هوية سياسية منفصلة عن فرنسا. ولذلك سقط سعد بوزيد عضو الكشافة الإسلامية الذي كان يحمل الراية الجزائرية قتيلا. لقد زاد القمع ونكران الجميل من حماسة المتظاهرين الوطنيين الذين اطرهم حزب الشعب الجزائري في المدن الكبيرة كسطيف وقالمة وخراطة وفي أحوازها.

وفي قالمة، وبأمر من ديغول نفسه وتحت ذريعة الحفاظ على النظام، قام رئيس دائرتها السفاح آشياريAchiary، محافظ الشرطة السابق بتكوين ميليشيات من الأوروبيين أطرهم مقاومون قدامى ضد الجيش الألماني وبدأوا مطاردة الوطنيين وتقتيلهم دون رحمة وبشكل ممنهج وبمساعدة السلطات العمومية وبعض المنتخبين والشرطة والدرك. وبعده وإلى غاية 22 مايو تكفل الجيش الفرنسي بالقمع العسكري للجزائريين العزل مستعملا أسلحة ثقيلة ونفذ إعدامات جماعية في الأرياف طالت حتى النساء والأطفال.

ففي 11 مايو 1945 قصفت مدفعية البحرية الفرنسية مرتفعات خراطة وتواصل عنف المستوطنين الفرنسيين في ضواحي قالمة إلى غاية منتصف جوان. وقد تلا هذا التقتيل الممنهج قمع قضائي تواصل إلى غاية 1946 في شكل أحكام جماعية بالإعدام. هذا هو رد الجميل كما مارسته فرنسا الاستعمارية. لقد سقط في هذه المجازر الوحشية التي لا سابق لها في تاريخ البشرية 45 ألف جزائري وهذا رقم وثقه مناضلو حزب الشعب الجزائري الذين كانوا على قدر عظيم من التنظيم وعلى علم بمن استشهد وبمن نجا من الموت. وكعادتها حاولت فرنسا عبثا التشكيك في هذا الرقم فالمجزرة كانت مهولة ولذلك صرّح الجنرال دوفال الذي قاد القمع العسكري في سطيف أمام الأوروبيين آنذاك: “لقد أعطيتكم السلام عشر سنوات ولن أضمنه لكم بعد ذلك”.

كانت تلك الانتفاضة تعبير على نفاذ صبر الجزائريين وعدم تحملهم للاستعمار وكانت الظروف السياسية مواتية لكن الظروف المادية لم تكن كذاك ولكن لا أحد لامهم على انتفاضتهم. ومن لم يحاول أي شيء لن ينال أي شيء وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يُدقّ. فقد كان من نتائج هذه المجزرة أن أحدثت قطيعة كاملة بين الأوروبيين والجزائريين المسلمين الذين هجروا كل شيء وفرنسي وصاروا يجاهرون بوطنيتهم أمام الملأ وبدأوا في التحضر لثورتهم عبر تأسيس المنظمة السرية التي تكفلت بالتحضير للكفاح المسلح ومنها انبثقت فيما بعد اللجنة الثورية للوحدة العمل (CRUA) في يونيو 1954 والتي حضرت لثوة نوفمبر. كان الجنرال هنري مارتان Martin ، رئيس المخابرات العسكرية الفرنسية محقا حين أعلن سنة 1944 أن الأحزاب الوطنية الجزائرية بصدد التحضير للثورة في الجزائر.

ومن انتفاضة 8 مايو 1945 نستخلص دروسا عديدة أهمها أن التضحية لا مناص منها من أجل الحرية وأن العمل الثوري ضروري وحتى وإن لم يؤدي إلى النصر المنشود لأنه سيحافظ على جذوة المقاومة مشتعلة وسيغذي روحها في المخيال الجماعي وأن الركون والاستسلام لن يحقق الحرية والاستقلال بل سيؤدي إلى اندثار الشعوب وموتها. أحداث 8 مايو كانت سابقة خطيرة على درب الجهاد ذكرت من أتى بعدها بوجود شعب يقاوم ويرفض العبودية ويعشق الحرية.

إن هذه الملاحم التي تعج بها ذاكرة الجزائر الجماعية هي من أسست لبروز نموذج جيوسياسي Geopolitical model جزائري مخالف للمبادي المؤسسة للجيوسياسة الغربية، نموذج قائم على الحق واحترامه والدفاع عنه، في الواقع لا في الخطاب، عكس النموذج الغربي القائم على أفكار المصلحة المطلقة والمبادئ التوسيديدية Thucydidianالتي تقول بأن “على القوي التمتع بما تمنحه له قوته وعلى الضعيف تحمل ما جلبه له ضعفه” أو المكيافلية Machiavellianالتي تقول بأن “الغاية تبرر الوسيلة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى