بقلم: عيسى قراقع
عن دار الفارابي في بيروت صدرت رواية “حسن اللاوعي” للكاتب والأسير المحرر إسماعيل رمضان والتي سطرت معظم فصولها داخل معتقلات الاحتلال الإسرائيلي، بطل الرواية هو الشيخ المجاهد حسن اللاوي اللبدي سكان قرية كفر اللبد قضاء طولكرم، أحد أئمة المسجد الأقصى خلال سنوات الانتداب البريطاني على فلسطين.
اعتقل الاحتلال البريطاني حسن اللاوي، عام 1938 خلال تصدي الثوار الفلسطينيين للقوات البريطانية حيث لاحقتهم حتى أسوار القدس، تصدى المصلون لهم وعلى رأسهم الشيح حسن وكان شابا في مقتبل الثلاثين من عمره، وخلال المواجهة والدفاع عن الأقصى تمكن الشيخ حسن من قتل احد الضباط البريطانيين.
اقتيد الشيخ حسن بعد قتله الضابط إلى سجن عكا شمال فلسطين وحكم عليه بالإعدام لكنه خفف لاحقا إلى السجن المؤبد بعد حملة تضامن فلسطينية كبيرة معه، وقد لبث في سجنه عشر سنوات، ولكن هذه العشر سنوات طالت مدتها مع مأساة النكبة الفلسطينية عام 1948 وامتدت إلى 45 عاما حيث فقد أثر الشيخ حسن في فوضى الحرب والتهجير التي عصفت بالواقع الفلسطيني. انسحبت القوات البريطانية من فلسطين ومهدت الطريق للعصابات الصهيونية بالاستيلاء عليها، وقد استطاع السجناء ان يخرجوا من سجن عكا، لكن اللاوي ظل خارج السجن أو في السجن مجهول المصير، وكان الشيخ حسن قد تعرض خلال اعتقاله لصدمات من التعذيب أدت الى فقدانه الذاكرة، فالنكبة وسياسة التطهير العرقي الصهيونية أدت إلى اغتيال ذاكرة الشيخ حسن، وموت الذاكرة هي أقسى أنواع الموت. الشيخ حسن شهد حالات الإعدام والشنق والمعاملة الوحشية والقاسية التي تعرض لها آلاف الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجن عكا على يد الاحتلال البريطاني، وشهد كيف أسست بريطانيا ما يسمى مشروع الوطن القومي لليهود في فلسطين وتسليم البلاد للعصابات الصهيونية في اكبر عملية ظلم استعماري تحدث في التاريخ. الكاتب إسماعيل رمضان في روايته يحاول أن يرتب الفوضى في ذاكرة حسن اللاوي ويستعيد المكان والزمان والتاريخ ويعيد الحياة لأولئك الذين لم يعودوا بيننا، فالرواية ملكت بنصوصها مفاتيح لأبواب الذاكرة الفلسطينية، فبدون ذاكرة الشيخ حسن لن يكون هناك رواية، فالنسيان لا يملك هوية، الرواية هي صراع بين الوعي واللاوعي، فالشعب الفلسطيني يتعرض لعدوان على وعيه وثقافته، فالمستعمرون لا يكتفون بالسيطرة على الأرض والناس من الخارج وإنما من الداخل أيضا، من داخل ذواتهم على مستوى الفكر والسلوك والإرادة، هدر الوعي والحجر على العقول هي المقدمة لهدر الوطن. حالة اللاوعي التي مر بها الشيخ المناضل حسن في سجون الاحتلال البريطاني والإسرائيلي وفقدانه الذاكرة هي رديف لحالة اللاوعي السياسي والثقافي التي نمر بها الآن، فالاحتلال يستهدف وعي الشعب الفلسطيني ومصيره السياسي وهويته القومية والوطنية كما حصل مع الشيخ حسن، ليوصلنا إلى حالة اللاوعي وفقدان التوازن، وعندها يصبح اللاوعي عصيا على الوعي، فكلنا يصبح حينها حسن اللاوي كما يقول الكاتب. الكاتب إسماعيل رمضان يحاول أن يحرر وعي حسن اللاوي من القيود والمغلق والتوهان، يخرجه من الغياب والتهميش والصدمات الموجعة، يعيد الكاتب رسم الأمكنة والأزمان وملامح الشخوص والأحداث كما كانت، عودة الذاكرة هي التي تجعل عالمنا أكثر اكتمالا ووضوحا عندما يصبح استعادة الوعي هو استعادة للهوية ومشروع الحرية. الكاتب يقول لنا في روايته: ان وجدنا حسن اللاوي وجدنا قسما من روحنا الضائعة، فلا تتركوا حسن وحيدا، أعيدوا الاعتبار لكل الم وحرمان عاشه الرجل، تقفوا أثره حتى تصلوا الى القدس، ومن يجد حسن يستطيع ان يهدم السجون الكبيرة والسجون الصغيرة. الرواية تعيد ترميم الماضي الفلسطيني الذي سيطرت عليه إسرائيل وتحكمت به بالقوة المسلحة زمانيا ومكانيا، وتضع الرواية صوتا للتاريخ الفلسطيني الذي تم اسكاته من قبل الرواية التوراتية الصهيونية، فاستملاك الماضي هو جزء من السياسة الإسرائيلية في الحاضر والتي تتعامل وكأن الشعب الفلسطيني غير موجود. الرواية تحمل رسالة استراتيجية للشعب الفلسطيني ولكل المثقفين والباحثين تقول: لقد حان الوقت للتاريخ الفلسطيني المفعم بالتضحيات والحضارات والثقافات ان يبلغ سن الرشد والمقاومة، حان الوقت للتصدي للرواية الصهيونية المختلقة والمزيفة ومحاولات نزع شرعية التاريخ الفلسطيني. لا تجعلوا ذاكرة حسن اللاوي تنطمر تحت التراب فنحن جزء منها، فإن أعدنا لحسن الوعي أعدنا لأنفسنا الوعي والإدراك والتفكير ومفاهيم المواطنة والانتماء والكيانية، استعادة الوعي هي الأساس للتمرد والثورة، هي دليل المناضل والسياسي في رفض الخنوع والاستسلام، هي المقدمة لتغيير الواقع ومقاومة تبلد وموت الفعل النضالي والطاقات الحيوية. ولأن الكاتب إسماعيل رمضان قد مر في تجربة الاعتقال لسنوات عديدة، فقد أبدع في روايته باستخدام نماذج نضالية من رموز لأسرى نجحوا في مواجهة نظام اللاوعي بوعي كوسيلة للمقاومة والحفاظ على الكرامة.
في السجن الجسد لا يشعر، العينان لا ترمشان، الفم لا ينطق، القدمان مقيدتان، الضرب والتعذيب والقمع لم يعد مفيدا، خذوا الجسد تحت هراواتكم فالروح استقلت وانفصلت ولن تستسلم كما يستسلم الجسد، الوعي بواقع السجن ومخططاته هو اللاوعي الذي يحرر الأسير من بين الجدران ولا يستطيع السجان إلقاء القبض عليه. كل أسير فلسطيني هو حسن اللاوي، أرواح ظلت طليقة خارج السجن، فاللاوعي الذي مر به الشيخ حسن استطاع ان يمنع المحتلين بأن يكونوا هم عقلنا الخارجي الذي تحكم بكل أفعالنا ويخططوا بدلا منا، لهذا تعرف الشيخ حسن على قريته المهجرة كفر اللبد بعد أن عثر عليه ذووه قابعا في مصحة نفسية داخل إسرائيل بعد 45 عاما من فقدان أثره. حسن اللاوي في القرية، تدفق الدم إلى رأسه، وبدأ يتعرف على المباني المهدومة والشوارع والصخور والأشجار، دخل إلى بيته المهجور وتربع على الأرض، بحث عن بندقيته المخبأة في سقف البيت، طاقة وعي هائلة دبت في عروقه، الذاكرة لا تستأذن أحدا، تشرع نوافذها في كل الاتجاهات، تقرأ الأسماء على الحاضرين والغائبين، يتفاعل موقد شظاياها مع كل الأجيال. رواية حسن اللاوي جمعت بين منهجية السرد التاريخي والتوثيق، ولكن الكاتب أضفى بعدا فنيا جماليا وفلسفيا على نصوصها، وهذا ما أدى إلى نقل السرد التاريخي الخشن والصلب بصورة المفكر والأديب، والرواية لا تخلو من نقد سياسي واجتماعي للحالة الفلسطينية، فالماضي في الرواية يحاكم الحاضر، والنقد هنا يأتي من داخل الإطار، بالرغم من أنها وقعت في بعض نصوصها في الشعاراتية والخطابية السياسية التي كان من المحبذ تجنبها.
رواية حسن الاوي تردد صدى المعاني التي قصدها الشاعر محمود درويش عندما قال:
بين الغزالة والذئب لا بد من ذاكرة
لا بد من حسن اللاوي لكي نكسر الدائرة
ولا بد من فرس فوق ساحات هذا الصهيل.