احسن خلاص
ونحن نحيي الذكرى السابعة والسبعين للمجازر الكبرى التي حدثت في ماي 1945 وشهد اليوم الثامن منه تصعيدا رهيبا في قالمة وسطيف وخراطة أعاد القانوني والباحث في التاريخ عامر رخيلة على صفحته على الفايس بوك طرح إشكالات طالما طرحت على الساحتين السياسية والأكاديمية ولم تجد من يتابعها بالعناية الكافية ويحسم في أمرها. وهذه الإشكالات تلتصق بإعادة التوظيف الأعمى للمفاهيم التي اعتادت المدرسة الاستعمارية على توظيفها لوصف الوقائع التي جرت والقضايا التي طرحت خلال 132 سنة من الاحتلال الفرنسي للجزائر.
وإن بدت معركة الذاكرة بين بقايا الفكر الاستعماري في فرنسا وبين جزائر الاستقلال سياسية أمام إلحاح السلطات العليا للبلاد على تحريك الملفات العالقة والمضي قدما في إنجاز مصالحة ذاكراتية على المستوى السياسي تتيح إبعاد السياسة عن البحث التاريخي، إلا أن المعركة الحقيقية التي تتطلب نفسا طويلا هي المعركة العلمية وتحدي تقصي حقيقة ما جرى ووصفه بالأوصاف المناسبة له. إنها بعبارة أخرى معركة مفاهيم، كيف نضمن لها القدرة على القراءة الموضوعية والواقعية للوقائع والقضايا المصاحبة لها.
توقف الأستاذ عامر رخيلة عند إحدى هذه المفاهيم التي عمدت المدرسة الكولونيالية على تكريسها حتى أصبحت مرجعا تسلل إلى مدرستنا وجامعتنا ومؤسساتنا الإعلامية. وذكر في هذا الصدد: “نجتر ما حرصت مخابر الإدارة الاستعمارية السياسية والعسكرية ومؤرخوها ومثقفوها وصحفيوها على تكريسه من تقزيم للجرم اصطلاحا ومساحة وحجما وآثارا بدءا من وصف الإبادة الجماعية بالحوادث وهي عبارة منتقاة لإخراج ما ارتكبه الجيش النظامي الفرنسي وشاركته في ذلك قوات الجندرمة والشرطة والفرق المسلحة من المستوطنين الأوربيين في عمليات القتل الجماعي للجزائريين والقنص والاصطياد لكل ما يتحرك من بشر أو حيوان”.
لم يعد الرهان اليوم منصبا على نقل فضائع النظام الاستعماري في الجزائر إذ أن الشهادات والشواهد والآثار القائمة كافية في ذاتها ليطلع القاصي والداني على الجرائم الرهيبة وكيف دفع الشعب الجزائري ثمنا باهظا لاسترجاع سيادته على أرضه. إنما الرهان اليوم على المفاهيم. والأمر لا يتعلق بالتدخل لتغيير قراءة الفرنسيين لتاريخهم في الجزائر فذلك شأنهم ولا بالبحث عن منظومة مفاهيمية معيارية تتوسط القراءتين الفرنسية والجزائرية أو تجمع بينهما، فالمستعجل اليوم هو عملية تطهير واسعة للمنظومة الفكرية والمفاهيمية التي نقرأ بها تاريخ كفاحنا ضد النظام الاستعماري الفرنسي في الجزائر، وما دامت مؤسساتنا تحتفظ بالمصطلح الاستعماري لوصف واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية وأشنع أنواع الإبادة الجماعية فإننا لا نزال تحت الأغلال الأكاديمية للاستعمار ولم تتخلص عقولنا من رواسب الكولونيالية وسواء كان ذلك عن قناعة أو عن جهل بما تحمله المفاهيم من خطورة فإن عواقبه تبقى وخيمة على الأجيال.
يدرك الفرنسيون تماما أن التاريخ ليس وقائع تسرد فحسب إنما هو معركة قراءات، فشتان ما بين قراءة المعتدي وقراءة المعتدى عليه وقراءة “المنتصر” وقراءة “المنتصر عليه”. وفي هذا السياق ردد الأستاذ رخيلة متأسفا: “وإذا كانت الإدارة الاستعمارية لتقزيم جرمها اعتمدت وعممت مصطلح الحوادث طمسا للحقيقة أليست لنا مسؤولية في تكريس ذلك لا في كتبنا المدرسية فحسب بل حتى في كتاباتنا التاريخية والصحفية وخطابنا السياسي والأدهى والأمر أن ذلك تم في ظل وجود مجاهدين ومسؤولين فيهم من عاش الأحداث وشاهد بأم عينيه المذبحة بل فيهم من تمت إبادة كافة أفراد أسرته أوعشيرته…”
لذا وجدنا في الضفة الأخرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعبر أمام خليط من الشباب من أبناء الحركى وأبنا الأقدام السوداء وأحفاد العساكر الفرنسيين الذين شاركوا في “حرب الجزائر” عن أسفه الشديد من أن كتب التاريخ الفرنسية لم تترجم إلى اللغة العربية ليتمكن الشباب الجزائري من تجاوز ما أسماه تأثير الأتراك في نظرة الجزائريين للاستعمار، كما لو أن الجزائريين، لم يكونوا لينظروا إلى فرنسا الاستعمارية بنظرة العداء لو لم يؤثر عليهم الأتراك. قد لا تهمنا هذه النظرة الخاطئة بقدر ما يهمنا أن فرنسا على أعلى مستويات صنع القرار فيها حريصة على أن تربح معركة المفاهيم في قراءة وقائع وقضايا الفترة الاستعمارية ولو ظلما وزورا وتجنيا على الحق.
ثم إننا لنجد تناغما عجيبا بين المفاهيم التي يوظفها المؤرخون والمفكرون مع تلك التي يوظفها السياسيون وكأننا أمام معجم وطني لا ينبغي لأحد الخروج عن النص دون أن يخضع لهجوم عنيف يذهب إلى حد التخوين والاتهام بالتضليل. كان لابد أن يمر الأمر على البرلمان الفرنسي بعدما حدث نقاش معمق عبر وسائل الإعلام الفرنسية لكي يتم الانتقال من وصف ثورة التحرير الجزائرية بالأحداث إلى وصف جديد اسمه حرب الجزائر دون أن يدلنا المشرع الفرنسي إن كانت هذه الحرب حرب جزائريين على فرنسا أم حرب فرنسا على الجزائريين ودون إرادة وشجاعة على تحديد المسؤوليات. والأغرب أننا نجد من بين المؤرخين عندنا أو كتاب الذاكرة تحولوا هم أيضا إلى توظيف مصطلح حرب الجزائر بدل الأحداث مسايرة لما أقرته الدولة الفرنسية. وعلينا اليوم أن نتساءل في الجزائر: متى يكون للجزائر معجمها الوطني للمصطلحات التاريخية لاسيما المتعلقة منها بالفترة الاستعمارية الفرنسية فالأمر حيوي إذا أرادت الجزائر أن تربح فكريا معركة الذاكرة.