أقلام

الرجولة .. استعداد و أخلاق و مواقف

في مارس شهر الشهداء والعلماء
الرجولة.. استعداد وأخلاق ومواقف
بقلم: أ.د. مسعود فلوسي

في كل مناسبة نحتفي فيها بذكرى رجل عظيم من رجال الوطن و الأمة، هناك سؤال ملح يطرح نفسه، وهو: لماذا بعض الناس يرفعهم الله عز وجل ويعلي شأنهم ويجعل ذكرهم يتردد على الألسنة مهما طال الزمان بعد رحيلهم من هذه الدنيا، في حين أن معظم الناس ينطوي ذكرهم ويُنسى أمرهم بمجرد وفاتهم ووضعهم في قبورهم؟.. هذا سؤال مهم جدا، وفي الجواب عنه يرد ذكر قيمة عظيمة ينبغي علينا أن نعرفها، وهي قيمة الرجولة.

حقيقة الرجولة

الرجولة ليست هي الذكورة، الرجولة قيمة، الرجولة أخلاق، الرجولة مواقف، الرجولة أعمال عظيمة يقوم بها الإنسان، وبها يرفعه الله سبحانه وتعالى ويُعلي شأنه ويُخلد ذكره. لماذا يخلد الله عز وجل ذكر العلماء والشهداء والعظماء؟لأنهم تحلوا بهذه الخصلة وبهذه الصفة، وهي صفة الرجولة.

في هذا المقام نجد حديثا للنبي صلى الله عليه وسلم يبين حقيقة هذه القيمة وهذه الخصلة التي يتميز بها قلي من الناس، فالناس كثيرون في هذه الدنيا ولكن المتميزين منهم بهذه الخصلة قليلون. نحن في تعبيرنا الشعبي، عندما يكون هناك إنسان صاحب مواقف ومبادئ، نقول عنه: ذاك رجل حقا.. هنا نحن نشير إلى قيمة الرجولة التي لا يتحلى بها كل الناس وإنما بعضهم فقط. الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّما النَّاسُ كالإِبِلِ المِائَةِ، لا تَكادُ تَجِدُ فيها راحِلَةً". في هذا الحديث ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة مثلا من البيئة الصحراوية التي كانوا يعيشون فيها ويعرفونها، والتي كانت الإبل تمثل المال الأكثر حضورا فيها مقارنة مع غيره من أنواع الأموال والممتلكات.

ومعنى هذا المثل؛ أن الناس في هذه الحياة كالإبل المائة، لا يكاد يصلح منها للحمل والركوب سوى واحدة، أما البقية فليس لها من وظيفة سوى العلف والحلب وأن تؤكل كلحم. فكذلك الناس في المائة منهم لا تكاد تجد واحدا يستحق وصف الرجولة التي هي أخلاق ومواقف. "أو المعنى: أنَّ أكثَرَ النَّاسِ أهلُ نقْصٍ، وأمَّا أهلُ الفضلِ فعَدَدُهم قَليلٌ جِدًّا؛ فهم بمَنزلةِ الرَّاحلةِ في الإبلِ الحَمُولةِ. أو المعنى: أنَّ النَّاسَ كثيرٌ، والمرضيُّ منهم قليلٌ". وإذا كان الأمر بهذا الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ففي عصرنا هذا ربما لا تجد في الألف أو في عشرة آلاف شخصا واحدا يستحق وصف الرجولة.

معنى الرجولة التي يقصدها النبي صلى الله عليه وسلم؟

في دار من دور المدينة المباركة، زمن الخلافة الراشدة، جلس عمر إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا. فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله. ثم قال عمر: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: "ولكني أتمنى رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله". فحتى الصحابة لم يكونوا كلهم متحققين بوصف الرجولة، مع أنهم أشرف أجيال هذه الأمة وأقربها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لماذا الرجال قليل؟

فإذن الرجال قليل.. لماذا؟لأن الرجولة ثمنها باهظ، فلكي تكون رجلا يجب عليك أن تدفع الثمن غاليا، وليس كل الناس عندهم الشجاعة والقابلية لدفع هذا الثمن. فثمن الرجولة غالٍ وعزيزٌ. ثمن الرجولة ليس أموالا ولا أطيانا، وإنما هو النفس، هو التضحية بكل ما يملك الإنسان من مال وجاه وكل ما هو عزيز على النفس، حتى الروح، حين يتطلب الموقف أن يضحي بالروح يقدم عليها ولا يبالي. فهذا الثمن لا يستطيع دفعه كل الناس.. ليس كل الناس يستطيعون أن يضحوا، وليس كل الناس يقبلون أن يضحوا، وليس كل الناس مقتنعين بقيمة التضحية وأهميتها. ولذلك ليس كل الناس يستطيعون أن يكونوا رجالا، لأن الرجولة تضحية، الرجولة مواقف كلها تضحية في صميمها وفي عمقها. ولذلك فإن الله عز وجل يخلد ذكر الرجال، ولا يخلد ذكر من لا يستطيعون الرقي إلى مرتبة الرجولة. هناك من يبذل الثمن حتى يرتقي إلى مرتبة الرجولة، وهناك من لا يقدر عليه، لأن نفسه تغلبه فلا تسمح له بالصعود على السلم الذي يوصله إلى مرتبة الرجولة، لأن هذا السلم كل درجة فيه تتطلب التضحية شيء من الأشياء الغالية على النفس والتي لا تستطيع التخلي أو التنازل عنها. وعندما لا يصعد على السلم يبقى في السفح حيث الزحام الكثير الذي يجعله يختفي ولا يكاد يظهر له أثر.

ولذلك فنحن عندما نتحدث عن علمائنا وشهدائنا، وعظمائنا، مهما كانت الأدوار التي أدوها في هذه الحياة، فنحن لا نتحدث عن الأشخاص بأعيانهم، وإنما نتحدث عن هذه المرتبة العظيمة التي استطاعوا أن يرتقوا إليها حين دفعوا ثمنها، في حين لم يستطع غيرهم أن يرتقي لأنه لم يدفع ثمن الرجولة.

الصفات المؤهلة لمرتبة الرجولة

أول الخصال المؤهلة إلى مرتبة الرجولة؛ هي الإيمان واليقين وليس الإمكانات والوسائل المادية، الإيمان بالله عز وجل واليقين المطلق في عون الله لمن توكل عليه وسأله العون وأخلص له العمل. فبدون إيمان لا يمكن تحقيق أي شيء، حتى وإن توفرت الإمكانات المادية الضخمة فهي لا تنفع بدون إيمان، لكن إذا توفر الإيمان فحتى وإن عدمت الإمكانات أو كانت قليلة إلا أن الإيمان ينفع ويرفع، لأن الإنسان حينئذ يأوي إلى ركن شديد وهو الله عز وجل الذي يملك مقاليد الأمور ويُبلغ الأعمالَ مقاصدَها ويسخر كل شيء للإنسان حتى ينجز أعماله ويصل إلى أهدافه.

الصفة الثانية المؤهلة لمرتبة الرجولة هي: الاستهانة بالدنيا وطلب الآخرة، وهذا ما يفشل فيه معظم الناس، حيث يركنون إلى الدنيا ويلتصقون بها ويحبونها ويريدون أن يخلدوا فيها، ومن هو بهذا الوصف لا يمكنه أن يرتقي إلى مرتبة الرجولة.

الرجولة تقتضي أن يضع الإنسان الدنيا تحت قدميه، وليس المقصود ألا يملك الإنسان شيئا في هذه الدنيا، وإنما المقصود ألا يتعلق قلبه بالدنيا، فالاستهانة بالدنيا معناها ألا تمتلكك الدنيا وإنما تمتلكها أنت وتجعلها في يدك لا في قلبك، فيمكن أن تكون غنيا ثريا ومالكا للأموال الطائلة لكنك لا تبالي أن تضحي بها كلها عندما يتطلب الموقف ذلك.

بل إن أعز ما يملكه الإنسان ويربطه بالدنيا هو نفسه أو روحه، فالرجل هو من يضحي بروحه إذا اقتضى الأمر ذلك، وهذا ما يعجز عن الارتقاء إليه معظم الناس، ولذلك ليس كل الناس يستطيعون أن يكونوا رجالا. فالرجل الحق هو من يؤمن أن الموت في سبيل الله هو الحياة الحقيقية، ولذلك يستهين بالروح ولا يبالي أن يقدمها قربانا لتحقيق مرضاة الله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران: 169].

أما الصفة الثالثة من الصفات الرافعة لصاحبها إلى مرتبة الرجولة فهي علو الهمة وتقدم الصفوف وقيادة الآخرين على طريق المجد. الرجل الحق لا يرضى بأدنى المراتب ولا يقبل أن يكون في مؤخرة الركب، فالرجولة تدفع صاحبها لطلب أعلى المراتب، وأعلى المراتب في هذه الحياة هي الشهادة في سبيل الله، وإذا لم تحصل على الشهادة فأن تكون مجاهدا في سبيل الله وأن تحقق أعلى مراتب الجهاد في سبيل الله. هذه هي الرجولة، أما من يكتفي بمؤخرة الركب، أو يكتفي بتتبع الحائط، أو يطلب السلامة في مشاهد الموت فهذا لا يمكنه أن يكون رجلا.

الرجولة تقتضي تقدم الصفوف، ليس فقط في الحرب، وإنما في كل الأمور التي يتعاون الناس فيها. فعندما يُدعى الناس إلى البذل والعطاء، لكي تكون رجلا يجب أن تكون أسبقهم إلى ذلك، وعندما يُدعون إلى قتال المحتلين والدفاع عن الوطن تكون أول من يحمل سلاحه ويتقدم للتضحية بنفسه وماله وكل ما يملك، وهكذا في سائر الشؤون.

أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما ذا سمي صديقا بينما لم يسم غيره بهذا الاسم؟ لأنه عندما دعا النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة إلى البذل والعطاء في سبيل الله، جاؤوا بالأموال، كل بما هان على نفسه، لكن أبا بكر جاء بماله كله ولم يحتفظ منه بشيء. عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمَرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلتُ: اليوم أسبقُ أبا بكر إن سبقتُه يومًا، قال: فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيتَ لأهلك؟)، قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: (يا أبا بكر، ما أبقيتَ لأهلِكَ؟)، قال: أبقيتُ لهم الله ورسوله، قلتُ: والله لا أسبقه إلى شيء أبدًا! [رواه الترمذي وأبو داود].

فالرجولة مواقف، إيمان مطلق ويقين قطعي بأن الرزق بيد الله وحده، وأن عطاءه سبحانه وتعالى بلا حدود، وهذا اليقين يفتقده معظم الناس الذي لا يؤمنون إلا بالملموس، أما الغيب فغير مضمون بالنسبة لهم، ولذلك يمسكون ما بين أيديهم توهما منهم أنه مضمون ما دام بأيديهم. فالرجولة تتطلب تقدم الصفوف، وإعطاء القدوة والمثل للآخرين، وقيادتهم في طريق البذل والعطاء.

الرجولة إذن هي التضحية، هي السبق في كل الأمور، هي اليقين بالله عز وجل وابتغاء الدار الآخرة والاستهانة بهذه الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

حاجتنا إلى الرجال

إن أمتنا بحاجة إلى رجال، وإن بلادنا بحاجة إلى رجال، والرجولة هي التي تنهض بالأمة والبلاد. فإذا كنا كلنا نرضى بأدنى المراتب في السفوح ووسط الزحام فإن بلادنا لن تنهض وأمتنا لن تنتصر على أعدائها. نحتاج إلى رجال في كل المواقع، رجال يعلون المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ويقدمون منفعة الجامعة على المنفعة الشخصية، لأنهم يدركون أن خدمة وتحقيق المصلحة العامة الجماعية سبيل إلى تحقيق المصلحة الشخصية الفردية، أما العمل لأجل المصلحة الشخصية والمنفعة الذاتية فهو سبيل إلى إهدار المصلحة العامة وتضييعها مما يعود على المصلحة الخاصة بالتصنيع والإهدار على سبيل التبع. لا بد أن نفكر في مصلحة الجميع، أن نعمل لمصلحة الجميع، كل في مستواه ومجاله وموقعه، بهذا فقط ننجح ونتقدم، أما إذا كان كل واحد منا يفكر فقط في نفسه وفي مصلحته فلن ننجح ولن نحقق شيئا، بل إننا سنفقد كل ما نملك شيئا فشيئا. وهذا ما ينبغي أن نربي عليه أبناءنا؛ أن نربيهم على طلب المعالي وخدمة المصلحة العامة ونفع العباد وتعمير البلاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى