أقلامالأولىالعالم

السديس والنبي والتطبيع

بقلم احسن خلاص

انطلق صوت إمام الحرم المكي عبد الرحمن السديس مجددا في تناغم مع عزف أولياء الأمر الجدد بالمملكة العربية السعوديه ومع موجة “التغيير” التي يقودها في داخل المملكة ولي العهد محمد بن سلمان منذ سنوات. غير أن عزف السديس هذه المرة تجاوز صوته جدران المسجد الحرام بمكة المكرمة وسافر عبر الأثير والشبكة العنكبوتية ليصل إلى آذان المسلمين جميعا قبل أن يؤشر عليه ترامب ونتنياهو.

وقد كانت الرقاب مشرئبة والأبصار شاخصة تنتظر أي خطوة تخطوها المملكة العربية السعودية في مسار التطبيع مع إسرائيل الذي دشنته الإمارات العربية المتحدة مما جعل الآذان أكثر حساسية لأي كلمة أو حرف ينبس به أمير أو وزير سعودي فضلا عن أن تأتي “تباشير التطبيع” من بقعة مقدسة اسمها الحرم المكي.

ما كان متوقعا ومنتظرا لم يتأخر كثيرا فقد كان مسرحه خطبة جمعة ألقاها شيخ الحرم الامام المقرئ ذائع الصيت في العالم الإسلامي فصل فيها بين الإيمان بعقيدة الولاء والبراء وبين حسن معاملة غير المسلمين مستشهدا بمواقف للنبي محمد (ص) من اليهود المحيطين به ومعاملاته الفاضلة التي كانت سببا في إسلام بعضهم.

وإن لم يدع السديس صراحة إلى التطبيع مع الدولة الصهيونية، لأن “شرف” الاعلان عن ذلك لا يعود إليه بل لولي الأمر عندما يؤذن له، فإن في حديثه ما لبس فيه من أنه دعوة ضمنية وفرش للبساط الديني أمام الملك سلمان وابنه لإعلان وشيك لما يجري الترتيب له في الكواليس وهو أن تخطو أكبر دولة راعية للإسلام السني وقبلة المسلمين جميعا خطوتها “التاريخية” التي سترفع بها الحرج عن جموع الدول العربية والإسلامية التي صارت تسأل الإدارة الأمريكية، بشهادة ترامب نفسه، عند موعد دورها لإقامة العلاقات مع الدولة العبرية.

قد لا يكون سلمان وابنه بحاجة لخطيب مثل السديس ليجيز لهما من على منبر الحرم المكي قرارات اتخذت دونهما منذ سنوات على بعد آلاف الكيلومترات من مكة المكرمة وتنتظر الوقت المناسب لتجسيدها على أرض الواقع من قبل منظومة دولية لا تعرف الارتجال في خطواتها، قد لا يحتاج بن سلمان لصوت رجال الدين وهو الذي اعتقل ولا يزال كل صوت مخالف لتوجهاته الإصلاحية، غير أن حاجة السديس لذلك مؤكدة أمام ضرورة فك إشكالية الولاء والبراء قبل إعلان التطبيع وليبين للناس ويقنعهم أن ولاءه للعائلة الملكية ودعوته للسمع والطاعة وعدم مخالفة الجماعة إذا ما رضيت بالتطبيع مع “اليهود الغاصبين” لا يتنافى مع ما وقر في القلب من براء من اليهود والمشركين بل يدخل في الخلق النبوي القائم على حسن معاملة جيرانه من اليهود. وننقل هنا بأمانة ما ذكره السديس بقوله:
“من التنبيهات المفيدة في مسائل العقيدة عدم الفهم الصحيح في باب الولاء والبراء ووجود اللبس فيه بين الاعتقاد القلبي وحسن التعامل في العلاقات الفردية والدولية كما هو مقرر في المقاصد المرعية والسياسة الشرعية والمصالح الإنسانية إذ لا يتنافى مع عدم موالاة غير المسلم معاملته معاملة حسنة تأليفا لقلبه واستمالة لنفسه للدخول في هذا الدين، فيكون المسلم محسنا إليه ليستميل قلبه إلى الدين القويم”.

وذهبت حماسة السديس أبعد من مواقف علماء البلاط عندما رمى أي صوت معارض متمسك بالمقاومة بالمروق وصنفه ضمن الخوارج بقوله: “أمة الإسلام.. ومن أبرز معالم العقيدة الصحية المهمة وأسسها لزوم الجماعة وحسن السمع للإمام والطاعة خلافا لمنهج الخوارج المارقين والبغاة المقيتين والأحزاب الضالة وجماعات العنف المسلحة والطائفية البغيضة الذين يكفرون الولاة ويخرجون على الأئمة ويسفكون الدماء”، وليس هذا الموقف أقل حماسة في حقيقته من مواقفه السابقة، أبرزها اعتبار دونالد ترامب رفقة الملك سلمان رائدين السلام العالمي ودفاعه المستميت في منابر أخرى خارج المملكة عن سياسة التطبيع باسم الحوار بين الأديان والحضارات وهو الذي لم يفوت فرصة صلوات التراويح بالمسجد الحرام قبل صعود سلمان وابنه دون أن يدعو بتدمير اليهود الغاصبين وبتحرير المسجد الأقصى منهم وبتحرير فلسطين.

لكن ما الذي جعل خطبة السديس تثير كل هذا الجدل؟ أليس السديس موظفا لدى الملك سلمان وأنه على رأس مؤسسة تحت سيادة المملكة العربية السعودية؟ أليست مواقفه شأنا داخليا سعوديا؟ أليست خطبته على مذهب المملكة السني الوهابي الذي يشاركه العديد من المسلمين في العالم؟ أليس ما استشهد به ثابتا في كتب الصحاح من المرويات السنية ومن السيرة النبوية؟ لكن بالمقابل ما الذي سمح للسديس باستعمال منبر هو ملك رمزي للمسلمين جميعا ليقف منه مواقف على مقاس ولي أمره في مسائل مختلف عليها بين المسلمين من أهل السنة والجماعة فضلا عن الطوائف والفرق الأخرى؟ وما الذي دفع السديس لتقديم تبريرات واهية من مثل أن حسن معاملة اليهود أو التطبيع معهم قد يؤدي إلى اسلامهم وهو الذي يقرأ من القرآن “ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم”؟ ثم ما علاقة الدين بإدارة العلاقات الدولية التي لا تعرف أصدقاء دائمين ولا أعداء دائمين بل مصالح دائمة وتصنع في مخابر لا علاقة للمسلمين بها؟ ولماذا يستدعي النبي ليناصر ترامب ونتنياهو أو يخاصمهما؟

قد تطول قائمة التساؤلات التي تعكس جدلا حادا يعرفه العالم الإسلامي المهزوم المغلوب على أمره والذي يبحث في تراثه الديني عما يبرر هزيمته وتخلفه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى