
بقلم: احسن خلاص
لا يمكن النظر إلى التطورات الأخيرة على الأرض الليبية إلا بعين التفاؤل الحذر كما تعودنا على ذلك في السابق إذ تنشرح الصدور بعد كل مبادرة تعلن ولقاء يلتئم واتفاق يبرم قبل أن يكتشف الليبيون والمحيط الدولي معهم أنها مجرد استراحة مؤقتة سرعان ما تندلع أعمال القتال من جديد ويسود منطق الغاب ويعم الغموض والفتنة وتتواصل المعاناة في بلد أرادته القوى الإقليمية مسرحا لتصفية حساباتها الجيوسياسية على الأرض عن طريق الحرب بالوكالة، هذه القوى التي أبت أن تترك الليبيين ولو للحظة واحدة يتدبرون شأنهم الداخلي بعيدا عن الوصاية الخارجية على هذا الطرف أو ذاك من أطراف الأزمة.
هذا هو الوضع الذي تعيشه ليبيا منذ ما يقرب من عشرة أعوام، لم تتغير منه إلا بعض التفاصيل والأدوار بل ظل يزيد تفاقما عاما بعد عام وتتكرس فكرة الأرض المستباحة والدولة الفاشلة في كل محطة يجتر فيها الليبيون الفشل في الخروج من عنق الزجاجة، فمنذ “الثورة” التي أسقطت “قائد الثورة” معمر القذافي على وقع عدوان عسكري أطلسي خلف تمزقا ودمارا وتفتتا أفشل كل محاولات التوصل على حد أدنى من الدولة المصانة في حدودها ووحدتها الشعبية والترابية، لم يجد نفعا دستور ولا انتخابات برلمانية ولا حكومات متعاقبة ولا محادثات كتلك التي رعتها الجزائر وباريس وروما ولا اتفاقات مثل اتفاق الصخيرات واتفاق باريس ولا المصافحات التي تظهر أمام الكاميرات بين فايز السراج وحفتر. الكل يدعي تمسكه بالتسوية السياسية لكن لا أحد تخلى عن الحرب التي يعتقد أنها تضمن له هامش مناورة أكبر في أي سعي محتمل نحو هذه التسوية التي استهلكت العديد من مبعوثي الأمم المتحدة آخرهم اللبناني غسان سلامة الذي انسحب في مارس الماضي لأسباب صحية دون أن يعثر عن خليفة له إلى اليوم.
يأتي إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة أمام الطرفين المدني والعسكري لبنغازي، عقيلة صالح وخليفة حفتر، عن مبادرة لوقف القتال والبدء في مسار تسوية سياسية وفق مقررات ندوة برلين ونتائج عمل اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 ليضاف إلى تلك المحطات التي تلي آخر فصل من فصول النزاع المسلح كما هو حال النزاع الذي نشأ بعد أن بدأ في أفريل من العام الماضي زحف قوات حفتر على مدى 14 شهرا إلى المنطقة الغربية وبالأخص العاصمة طرابلس وسيطرتها على أجزاء مهمة منها وكادت أن تبسط سيطرتها العسكرية تماما وتلغي كل معادلات التسوية السياسية لولا تدخل القوات التركية التي أعادت التوازن على الأرض، غير أن تطورات عسكرية هامة مكنت قوات الجيش الموالية لحكومة طرابلس من استعادة السيطرة على جل المناطق التي صارت في وقت قريب تحت سلطة المشير خليفة حفتر وانتهت بالتالي بمقترح القاهرة الذي نحاول تحليل أبعاده.
وبالفعل فإن ثمة علامات استفهام تحوم حول قرار الجنوح إلى السلم الذي اتخذته القوى الداعمة لحفتر وأملته عليه ولم يكن أمامه إلا القبول به بعد أن خارت قواه إثر الهزيمة التي مني بها في غرب ليبيا، تساؤلات عن السرعة التي جاء بها وكأنه سيناريو كان معدا مسبقا وورقة لدى هذه الدول كانت مهيأة لاستعمالها عند ظهور معطيات أخرى لا تخدم خطة الانقلاب الشامل. ويبدو من قراءة أولية لمحتوى إعلان القاهرة أنه لا يقدم حلا كاملا وجاهزا للتطبيق بل يقترح عملية سياسية معقدة قد تمتد لعامين حدد فيها ترتيب للأولويات ووضعت فيها تفاصيل التنفيذ.
ينطلق إعلان القاهرة من منطق أن لا غالب في هذا النزاع ولا مغلوب وهو ما رفضته حكومة السراج التي رأت في العرض المصري هدية مسمومة ومناورة لربح الوقت قبل استعادة القوة ومراجعة عناصر الخطة المرسومة لبلوغ الهدف وهي التي خبرت مدى التزام الطرف الشرقي بالاتفاقات السابقة لاسيما خليفة حفتر حيث أشار ممثلو سلطة طرابلس وعلى رأسهم السراج أن أي قبول للعرض المصري مشروط بانسحاب كامل لقوات حفتر إلى مواقعها قبل 4 أفريل 2019 قبل أن ينسحب هو من طاولة المفاوضات إذ أصبح لا يؤتمن جانبه كما صار دوره في المرحلة المقبلة فاقدا لإجماع القوى الداعمة له.
ومما يعزز منطق التكتيك في مبادرة القاهرة أنه استند في مرجعيته على المبادئ التي لا يمكن أن تخرج عنها حكومة الوفاق المدعومة دوليا إذ فضلا عن تأكيدها على وحدة وسلامة الأراضي الليبية واحترام كافة الجهود والمبادرات الدولية وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة ومخرجات قمة برلين من حل سياسي بخطوات تنفيذية واضحة وتوافقات بين زعماء الدولة المعنية بالأزمة منها استكمال أعمال مسار اللجنة العسكرية 5+5 بجنيف برعاية الأمم المتحدة. وهي مرجعيات لا يختلف عنها أحد.
غير أن الشيطان يسكن في تفاصيل حيثيات المسار السياسي لاستعادة الدولة الليبية لمؤسساتها والذي يقترح أن ترعاه الأمم المتحدة التي شل دورها بعد ذهاب غسان سلامة فضلا عن أنه يقوم على محاصصة إقليمية شبيهة بالمحاصصة العراقية مع اختلاف بسيط مع الحالة العراقية التي تدمج المحاصصة الإقليمية مع المحاصصة الطائفية، إذ لتجاوز الثنائيات تقترح المبادرة أن يتشكل مجمع انتخابي يشمل الأقاليم الثلاث المتنازعة ويضم أعضاء من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة وشيوخ القبائل والأعيان ونخب سياسية ومثقفين ونقابات حيث يضطلع هذا المجمع الانتخابي تحت إشراف الأمم المتحدة بمتابعة تنفيذ بنود خارطة الطريق المرسومة في مدة لا تتجاوز 90 يوما. وينشأ خلالها مجلس رئاسي ثلاثي على الطريقة العراقية، برئيس ونائبين يقوم بتعيين رئيس للوزراء ونائبين له ليقوم الثلاثي بتشكيل حكومة من 27 عضوا يوافق عليها المجلس الرئاسي قبل عرضها على ثقة مجلس النواب.
وتشترط المبادرة أن تتخذ قرارات المجلس الرئاسي بالأغلبية باستثناء المقترحات العسكرية التي تشترط الإجماع وحضور القائد العام للقوات المسلحة، كما تشترط أن توزع الحقائب الوزارية بين الأقاليم متناسبة مع عدد سكان كل إقليم (طرابلس 9 وزارات، برقة 7 وزارات وفزان 5 وزارات) وتوزع 6 وزارات سيادية بالتساوي على الأقاليم الثلاثة ويعين لكل وزير نائبان من الإقليمين الآخرين، وأن لا يستحوذ أي إقليم على رئاسة السلطات الثلاث (المجلس الرئاسي ومجلس النواب ومجلس الوزراء). كما يقوم مجلس النواب الليبي بالمصادقة على تعديلات الإعلان الدستوري من خلال لجنة قانونية يتم تشكيلها من قبل رئيس المجلس المستشار عقيلة صالح بعد اتفاق ممثلين عن مجلسي النواب والدولة وهذه التعديلات تبقى مؤقتة إلى غاية صياغة دستور جديد على يد شخصيات وكفاءات من المجمع الانتخابي يعتمدها البرلمان قبل عرضه على الاستفتاء الشعبي في مدة للمرحلة الانتقالية تتراوح بين عام ونصف وعامين قبل أن تتوج بانتخابات برلمانية ورئاسية وفق مخرجات الدستور الجديد فضلا عن إعادة تنظيم وتوحيد مؤسسات الدولة الاقتصادية لضمان أداء فعال للحكومة.
ويبقى التساؤل مطروحا حول مدى استعداد جميع الأطراف لقبول العرض وقدرة الأمم المتحدة على الإشراف عنه ومتابعته والتي عجزت عن تعيين مبعوث جديد إلى ليبيا وقبل هذا كله من أين ستستمد هذه الخطة بتفاصيلها وتعقيداتها النفس للبقاء والصمود لمدة عامين في محيط متوتر ومضطرب تتداخل في المصالح الإقليمية والدولية.
تعليق واحد