احسن خلاص
في العدد الأخير من حصة مانشيت التي خصصناها خلال كامل الشهر الفضيل لبحث ودراسة الأبعاد الدينية وتفاعلاتها في المجتمع الجزائري كان لنا حديث عن التدين لدى الشباب مع ضيفنا رئيس مخبر الدين والمجتمع بجامعة الجزائر الأستاذ الزبير عروس. وتنطلق أهمية الموضوع من التأثيرات الخطيرة التي يمكن أن يحدثها التدين لدى الشباب على الحياة الاجتماعية من جانب وعلى أنماط السلوك السياسي والاقتصادي والاستهلاكي بشكل عام.
ما لا يختلف فيه أحد أن علاقة المجتمع الجزائري بالتدين علاقة متينة تشكلت عبر القرون وعرفت الجزائر على غرار المنطقة المغاربية كلها مذاهب ونحل شتى وشكل بعضها السند الأيديولوجي للكثير من الامارات والدول التي تداولت على هذه المنطقة. وبهذا فإن التدين شكل تراكمية تاريخية فضل الزبير عروس تسميتها بالتدين التاريخي بدل التدين التقليدي الذي قد يحمل معنى سلبيا انتقاصيا، هذا التدين المغاربي المنطلق من مؤسستين متكاملتين هما الزاوية التي أنيط بها التكوين الديني واتباع الطرق الصوفية ابتغاء للسمو الروحي والمسجد الذي أنيطت به مهمة التوجيه والفتوى والقضاء في المسائل المتعلقة بالعبادات والمعاملات ذات الصلة بالشرع الإسلامي.
لم تكن ظاهرة تدين الشباب ملفتة للانتباه إلا في فترة الثمانينات من القرن الماضي، فترة عرف تغيرات جيوسياسية هامة انطلاقا من نجاح الثورة الإسلامية في إيران التي أرست نظاما إسلاميا شيعيا توعد بتصدير الثورة إلى جميع البلدان العربية مما جعل العربية السعودية تستنفر قواها للتصدي لما كانت تعتبره تهديدا لزعامتها للعالم السني وخطرا على الوهابية، مذهبها الرسمي بما يمثله الزحف الإيراني المحتمل من إمكانية تأليب الشباب العربي على الأنظمة وتشكيل موالاة دينية وسياسية للناشئ الجديد لو لم يتم تقويض هذا المشروع بحرب إعلامية مضادة أضيفت إلى الحرب العراقية الإيرانية التي شغلت إيران لأكثر من 7 سنوات. وشكلت الحرب في أفغانستان من جانب آخر ظاهرة هامة كان لها تأثير على اتجاه الشباب نحو أشكال من التدين الذي نشأ عنه صراع بين الجيل الجديد من المتدينين والجيل السابق الذي ورث التدين عن البنى التقليدية. كانت الحرب الأفغانية في نظر الكثير من الشباب حربا فاصلة بين الإيمان والكفر وبين الحق والباطل. ويضيف الاستاذ عروس إلى هذه العوامل الجيوسياسية سياسة الانفتاح التي اعتمدتها السلطة خلال تلك الفترة والتي فتحت الأبواب للجزائريين للسفر شرقا وغربا وظهور ما وصفته النخب المحافظة بالغزو الثقافي مع انتشار البرابول والانفتاح على ما تبثه القنوات الفرنسية من مظاهر الحياة الغربية، هذا الانفتاح فتح المجال العربية السعودية لكي تنظم دفعات العمرة للشباب الذي يعود في أغلب الأحيان محملا بحقائب مملوءة بالكتيبات وأشرطة الكاسيت لبثت خطاب ديني غير معهود في الجزائر. لقد اكتشف الشباب من خلال تلك الدعامات أن وراء دروس المساجد وفتاوى الأئمة وما يبثه التلفزيون والإذاعة من خطاب ديني “رسمي” خطابا آخر وعلماء على مذاهب أخرى غير المذهب المالكي المألوف. ولم تمض الا سنوات قليلة حتى انتشرت أنماط جديدة للتدين وتشكلت جماعات للدعوة والتبليغ انطلاقا من المساجد نحو الفضاءات العامة كما تشكلت فرق انتشرت في الأرض مستأنسة بالآية القرانية “فلولا نفر طائفة منكم ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم” وآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: “ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”، لاسيما وأن هذه الجماعات أخذ نشاطها يزداد مع الانتشار الرهيب لاستهلاك مظاهر الحضارة الغربية في المأكل واللباس والسلوك مما جعل المجتمع الجزائري يعرف صراعا بين اتجاهين دخيلين أحدهما وفد من الغرب والآخر الذي استورد تصورات وأشكالا جديدة في ما يعرف عند هذا التيار بالصحوة الإسلامية.
كان رهان هذه الفرق الدعوية إعادة الشباب المنساق مع مظاهر الحضارة الغربية إلى المساجد بل الاستثمار في حيويته ليحمل شعار الدعوة الدينية التي اختلطت منذ بداية الثمانينات بدعوات سياسية لمحاربة نظام الحكم وأسلمة المجتمع وفق القيم الجديدة وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية. غير أن التدين السياسي عرف تراجعا كانت وراءه الأزمة الأمنية التي دخلت فيها الجزائر من خلال المواجهة المسلحة بين الدولة وبين الجماعات المسلحة التي نشأت من الخلايا الدعوية التي تشكلت وانصهرت في المطالب السياسية التي تحدثنا عنها ضمن ما يسمى السلفية الجهادية. كان رد فعل المآل الدموي الذي وصلت إليها الجماعات السلفية الجهادية قد دفع إلى قدوم تيار جديد سمي تيار السلفية العلمية التي ظلت تسعى إلى تبرئة التيار السلفي من تهمة التمرد والخروج عن الحاكم. وقد ساعد تطور تكنولوجيات المعلومات والاتصال على ظهور جماعات جديدة تعتمد على المرجعيات الافتراضية المنسلخة عن الفضاءات التاريخية للتدين، فقد حل تدين المواقع محل تدين الواقع.