أقلام

الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للأحوال الشخصية للمسلمين في البلدان العربية (الجزء الثاني)

تتفق كل الدول العربية -دستوريا أو قانونيا، حرفيا أو ضمنيا- على اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا وأساسيا لقانون الأحوال الشخصية أو قانون الأسرة الذي يضم أيضا أحكام الميراث وذلك لكافة المواطنين المسلمين.

 

يعتبر لبنان حالة خاصة، فهو يضم 15 قانوناً منفصلاً للأحوال الشخصيّة للطوائف المُعترف بها، ويتم تنظيم هذه القوانين بموجب قانون وطني يتعلق بقيد وثائق الأحوال الشخصية لجميع اللبنانيين.كما نشير أن المحاكم الدينية التي تطبق هذه القوانين مستقلّة، ولا تخضع لأي إشراف حكومي، وتصدر أحكامها باسم الطائفة الخاصة بها. فيما يخص الطائفة السنية، ينظم القرار 46 المؤرخ في أول أكتوبر 2011 أحكام الأسرة، وتنص ديباجة ذات القرار على أنّه “بناءً على القانون رقم 177المؤرخ في29أغسطس2011م،تُعدل المادة 242 من قانون تنظيم القضاء الشرعي السني والجعفري الصادر بتاريخ 16يوليو 1962م وتعديلاته، لتصبح على الشكل الآتي: يصدر القاضي السني حكمه طبقًا للأحكام المنصوص عليها في القرارات الصادرة عن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في الأحوال الشخصية للمسلمين السنة والمتعلقة بتنظيم شؤون الطائفة الدينية سندا للمادة الأولى من أحكام المرسوم الاشتراعي رقم 18/1955 المعدل بالقرار الصادر بتاريخ 28مايو1956م، وفي حال عدم وجود أي نص يرجع القاضي السني إلى قانون حقوق العائلة العثماني الصادر في 25 أكتوبر 1917م، وإلا فيحكم طبقا لأرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة”. نذكر أن القانون العثماني تمّ إعداده وفقا للمذهب الحنفي، وهو المذهب الرسمي للدولة العثمانية قبل سقوطها. لم تُرجح ليبيا أي مذهب فقهي على آخر، رغم انتمائها للفضاء السني-المالكي؛ القانون المتضمن الأحكام الخاصة بالزواج والطلاق وآثارهما ينص في مادته 72 على ما يلي: “فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه، فيحكم بمقتضى المذاهب الفقهية المعتبرة الأكثر ملاءمة لنصوص هذا القانون”.

عكس ذلك، ذهب قانون الأحوال الشخصية الموريتاني، حيث نصت المادة 311على أنّه: “يرجع في تفسير مدلولات هذه المدونة (وهو اسم قانون الأسرة) عند الإشكال إلى مشهور مذهب مالك.كل ما لم ينص عليه في هذه المدونة يرجع فيه إلى مشهور مذهب مالك”. للتذكير، موريتانيا، وعلى شاكلة الدول المغاربية الخمسة، تنتمي إلى المذهب الفقهي المالكي الذي طوره الفقيه خليل ابن إسحاق المعروف بالجندي، صاحب كتاب المختصر في فقه الإمام مالك. على نفس المنوال، سار قانون الأحوال الشخصية المغربي المعروف بمدونة الأسرة المغربية، حيث نصت المادة 400 منه على “كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي، والاجتهاد الذي يراعي فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة والمعروف. نص قانون الأحوال الشخصية العماني -في مادته 281– على “تطبيق القاضي لأرجح الأقوال في مذهب المورث ما لم یطلب الورثة بالإجماع تطبیق نصوص القانون، وذلك في حالة اختلاف أحكام ميراث البنت والجد وذوي الأرحام في مذهب المورث عن الأحكام الواردة في هذا القانون. كما أكّد في ذات المادة على “الحكم بمقتضى الشريعة الإسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص هذا القانون، إذا لم يوجد نص في هذا الأخير”. نشير أن المذهب الفقهي الأكثر رواجا في سلطنة عمان هو الفقه الإباضي، ومع ذلك تجنب المشرع ترجيحه في غياب النص القانوني.

تعتبر دولة فلسطين هي الأخرى حالة خاصة فيما يخص أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين؛ يطبق في الضفة الغربية قانون الأحوال الشخصية رقم 61 لسنة 1976، بينما يطبق في قطاع غزة قانون حقوق العائلة رقم 303 الصادر في 26 يناير 1954. وترجح المادة 183 من القانون الأول مذهب أبي حنيفة في حالة غياب أي حكم يتعلق بالأحوال الشخصية، بينما سكت القانون الثاني عن ترجيح أي مذهب، أو الرجوع لمبادئ الشريعة الإسلامية في غياب النص القانوني. للإشارة، يتمتع المسيحيون بقوانين خاصة بأحوالهم الشخصية حسب الكنائس المنتشرة بفلسطين. يعتبر قانون الأسرة القطري القانون العربي الوحيد للأحوال الشخصية الذي يتخذ من المذهب الفقهي الحنبلي مذهبا رسميا، إذ له الأولوية في التطبيق أمام المذاهب الفقهية السنية والقواعد الفقهية العامة في الشريعة الإسلامية. جاء في المادة 3 منه “فيما   لم يرد بشأنه نص في هذاالقانون،يعمل بالرأي الراجح من المذهب الحنبلي مالم ترالمحكمة الأخذ بغيره لأسباب تبيّنها في حكمها. وإذالم يوجدرأي راجح في المذهب الحنبلي لواقعة لم يرد بشأنهانص خاص في هذاالقانون،طبّق القاضي مايراه ملائماً من آراءالمذاهب الأربعة،وإذاتعذرذلك،طبّق القواعد الفقهية العامة في الشريعةالإسلامية”.

السعودية هي الدولة العربية الوحيدة التي لم تُقنن الأحوال الشخصية التي تبقى مستمدة من الشريعة الإسلامية فيما يخص أهل السنة والجماعة. فيما يستفيد الشيعة من فقههم الخاص سواء الجعفري أو الإسماعيلي. لم تسمح أوضاع الصومال السياسية بظهور قانون جديد للأحوال الشخصية، فآخر قانون للأسرة الصومالي ظهر في عهد محمد سياد بري في 1975. ومن مميزات هذا القانون أنه يعتمد على المذهب الشافعي، غير أن بعض أحكامه تخالف الشريعة الإسلامية مثل مساواة الرجل والمرأة في الميراث والنفقة، ومنع تعدد الزوجات. ينص القانون السوداني للأحوال الشخصية الخاص بالمسلمين في المادة 5منه، “على العمل بالراجح من المذهب الحنفي فيما لا حكم فيه بهذا القانون”. ومع ذلك حاد المشرع عن المذهب الحنفي في بعض المسائل كالكفاءة والولاية في الزواج، وارتكز على المذهب المالكي الذي يدين به أغلب السودانيين.

أكد قانون الأحوال الشخصية السوري على ترجيح المذهب الحنفي في كل ما لم يرد عليه نص في هذا القانون (المادة 305)، كما استثنى الطائفة الدرزية من بعض الأحكام، (المادة 307). أما الطوائف المسيحية واليهودية فقد أرجع ذات القانون ذلك إلى قوانين خاصة بها (المادة 308). مجلة الأحوال الشخصية التونسية لم تُرجح أي مذهب فقهي رغم انتماء تونس للفضاء السني-المالكي، ولا حتى لمبادئ الشريعة الإسلامية، بل يمكن القول أن القانون التونسي خرج عن المألوف والمعمول به في الشريعة الإسلامية عندما منع تعدد الزوجات، وإقرار المساواة الكاملة بين الزوجين في كل ما يتعلق بأسباب الطلاق وإجراءات الطلاق وآثار الطلاق. كما نشير أن تونس أصدرت قانونا يتعلق بضبط الأحوال الشخصية للتونسيين من غير المسلمين واليهود.

فضّل القانون الإماراتي المتعلق بالأحوال الشخصية المذهب المالكي على بقية المذاهب الفقهية السنية في حالة غياب نص قانوني، حيث جاء في المادة 2: “يرجع في فهم النصوص التشريعية في هذا القانون وتفسيرها وتأويلها إلى أصول الفقه الإسلامي وقواعده. تطبق نصوص هذا القانون على جميع المسائل التي تناولها في لفظها أو فحواها، ويرجع في تفسيرها واستكمال أحكامها إلى المذهب الفقهي الذي أخذت منه. وإذا لم يوجد نص في هذا القانون يحكم بمقتضى المشهور من مذهب مالك ثم مذهب أحمد ثم مذهب الشافعي ثم مذهب أبي حنيفة. أخيرا، تجنب قانون الأحوال الشخصية اليمني ترجيح مذهب على آخر، وفضل الرجوع إلى أقوى الأدلة في الشريعة الإسلامية، حيث جاء في المادة 349: “كل ما لم يرد به نص في هذا القانون.يعمل فيه بأقوى الأدلة في الشريعة الإسلامية”. هذا يعني أن المشرع اليمني تجنّب الاعتماد على مذهب فقهي معين كما فعلت بعض الدساتير العربية. ويمكن تفسير ذلك بوجود مذهبين فقهيين مختلفين هما المذهب السني الشافعي، والمذهب الشيعي الزيدي.

مما سبق، يتجلى أن السعودية تبقى البلد العربي الوحيد الذي لم يسع إلى تقنين الأحوال الشخصية، حيث يرتكز القضاء على الشريعة الإسلامية بفقهها الحنبلي فيما يخص أهل السنة والجماعة. كذلك تبقى قطر الدولة العربية الوحيدة التي قننت الأحوال الشخصية بترجيح المذهب الحنبلي في حالة غياب نص قانوني. أيضا، يعتبر قانون الأسرة الصومالي القانون العربي الوحيد الذي رجح المذهب الشافعي بصريح العبارة. ستة بلدان عربية رجحت المذهب الفقهي الحنفي في حالة غياب القانون وهي: مصر والأردن ولبنان وفلسطين والسودان وسوريا، فيما رجحت خمسة بلدان المذهب الفقهي المالكي وهي: البحرين والكويت وموريتانيا والمغرب والإمارات. ستة بلدان عربية رجحت قوانينها مبادئ الشريعة الإسلامية، أو أحكام الفقه، بدل مذهب فقهي معين، وهي: الجزائر وجزر القمر والعراق وليبيا وعُمان واليمن. أخيرا، فضّل القانونان الشخصيان التونسي والجيبوتي عدم الرجوع إلى أي سند فقهي عام أو خاص، مما يعني أن القاضي ملزم باجتهاد شخصي في حالة غياب النص القانوني.

ملاحظة: المقال مقتبس من مشروع كتاب حول “الظاهرة الدينية في الدساتير العربية” قد يصدر في نهاية السنة. 

محمد سعيد بوسعدية: باحث حر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى