
تتوالى الفجائع والأنباء المحزنة الغير السارة، لتخبرنا فجأة دون سابق إنذار، برحيل قطب من الأقطاب وعلم من الأعلام فضيلة الشيخ العم الحاج عيسى بلعور (الطالب عيسى)، معتمد الأئمة بولاية غرداية عمدة من عمداء المالكية وعرصة داعمة وركيزة من الركائز المتينة الصائنة، لتشد البنيان المرصوص لحمايته من التصدع والتشقق. شمعة من الشموع المنيرة بربوع تراب بلديات غرداية وضواحيها وخارج أسوارها بكل الجهات أينما حل وأرتحل وطلب ودعي. ورمز من رموز الشخصيات الفاعلة والقامات والإطارات الاجتماعية الثقافية الإرشادية التوعوية التحسيسية وغيرها من الألقاب والمهام.
ويضرب الموت فجأة -من جديد- قامة وشخصية فذة واعية مفعمة بالإنسانية والحب والنبل عضو من الأعضاء الفاعلين البارزين النشطاء بالمؤسسات المسعدية والحركة الجمعوية، الخيرية والإنسانية بين عامة الناس. شخصية بارزة لها مكانتها وسمعتها واسمها المنقوش في الذاكرة بين الأجيال المتعاقبة، لا يمحى ولا ينسى من بين الأسماء اللامعة في سماء غرداية بوادي ميزاب ليحكي تاريخ سجله الذهبي الحافل لأجيال المستقبل لاحقا مآثره ومناقبه -بكل فخر- واعتزاز.
بمطلع العشرة ذي الحجة وشهرها المبارك لعام 1442 هـ، وشهر جويلية من سنة 2021، انطفأت شمعة العم الطالب الحاج عيسى المنيرة عن عمر ناهز 82 سنة والذي شيعت جنازته بعد عصر الجمعة في جو جنائزي مهيب بحضور جمع كبير حضرته السلطات المحلية على رأسهم السيد والي الولاية وسلك الأسرة الدينية ورفقاء المنابر والمساجد والمشايخ والأعلام، على رأسهم فضيلة الشيخ الطالب الحاج الأخضرالتهمة والشيخ الطالب الجمعي الحاج بوجمعة حوتية وغيرهم، وبحضور رئيس وأعضاء مؤسسة الشعانبة التي يعد الأب الروحي لها والمؤسس الفعلي لها وبحضور عائلة الفقيد وأعيان المدينة ومحبيه من مختلف فئات المجتمع والوافدين من خارج الولاية من كل جهات الوطن. لتوديعه الوداع الأبدي ووري التراب بمقبرة مرماد بولاية غرداية.
جمع الناس حي بكل مكان وزمان وجالسهم وجمعهم موتى مرافقين له في جنازة واحدة موحدة محكمة التنظيم والتسيير، بحيث وري شيخنا الطالب عيسى التراب رفقة من وافاتهم المنية هم الأخريين، كل من المجاهد العم محمد رسيوي (العوادي) والأستاذ زيان الحاج أحمد بن الحاج قويدر بني، معلم مربي الأجيال مدير مدرسة والعم مهامة بوعمامة.
رحل عنا فقيدنا الغالي على قلوب الجميع الطالب عيسى في صمت، تاركا ورائه بصماته الخالدة الشاهد حي بين المجتمع برمته. بالمساجد والمدارس القرآنية والزوايا والمخيمات الصيفية والجمعيات المتعددة والمراكز والمؤسسات المسجدية وحلقات الذكر والدروس وشواطئ البحار وكثبان الصحراء داخل وخارج الوطن من أهمهما وأغلاها سفريات الحج للبقاع المقدسة واشرافه وتأطيره وإرشاده لجميع الحجاج لاسيما الضمان منهم المتعطش لمزيد المعرفة والتأكيد من صحة حجه وتأدية فرضه.
يذكر الجميع ويشهد الكل بأن فضيلة الشيخ الطالب عيسى مربي الأجيال عبر سنين خلت، الإمام الخطيب، المكون المؤطر، الناصح المرشد، المرافق. هو أحد الرموز الشامخة وقامة من القامات العالية وعلم من أعلام التعليم الديني والتربية وأصول الفقه والشريعة ومتون الدين عامة. وفارس من فرسان العمل الخيري التطوعي المجتمعي خاصة، وشخصية اجتماعية محلية وطنية في أوساط المجتمع عامة دون استثناء في جنوب الجزائر عموما وغرداية جوهرة الواحات -خصوصا- بوادي ميزاب، عرفه المجتمع الغرداوي وغيره بمبادئه وحكمته والتزامه الديني وأخلاقه الحميدة وسيرته وسلكوه الطيب، وحبه للخير والعطاء ومناصرته للحق، ذوو إصلاح ذات البين وفض الخلافات والصلح بين الناس. كان مثالا يحتذى به في سيرته وسلوكه وإخلاصه ووفائه وتفانيه في عمله ومهامه في كل المحافل والمنابر.
الطالب عيسى في ومضة سطور:
من كملة تأبين فضيلة الشيخ الدكتور الحاج لخضر بن قومار رئيس المجلس العلمي بمديرية الشؤون الدينية بولاية غرداية والأستاذ بجامعة غرداية وتنشيط الأستاذ الرزمة رضوان بن عبد القادر بحصة الجمعة بمحطة إذاعة غرداية الجهوية. ومسجد سيدنا عمر بن الخطاب بخي الثنية.
هو الشيخ بلعور عيسى بن محمد بن عيسى (المعروف بالطالب عيسى) من مواليد متليلي الشعانبة سنة 1939، الموافق سنة 1358 هـ من أبوين كريمين لأسرة محافظة، أسرة علم وفقه وتربية متجذرة من نبع سليل فياض لا يجف ولا يتوقف عن الضخ والسقي على مدار الأعوام، ترعرع بأحضان أجداده وسلفه، فحفظ منهم تاريخ نسبه وسير أهاليه وأسرته، منهم فضيلة الشيخ بلعور مسعود الموسوعة العلمية ومنعشحواضر التعليم وقتها مطلع القرن الماضي 1900. والإمام المجاهد العم بلعور الحاج أحمد، تعلم مبادئ العلم والقراءة على يد مشايخ ومعلمي المدنية كبقية أقرانه يومها، نال ما تسير من العلم. بعد حفظ كتاب الله ودراسة بعض المتون الفقهية والدينية وبعض الشيء من النحو والصرف واللغة والسيرة النبوية على شيوخ محاضر مدينة متليلي وغرداية وغيرهم. ظل يتوق إلى مزيد من تحصيل العلم والمعرفة دون حياء وفي كل وقت ومناسبة لا يكل ولا يمل كما يشهد له الجميع بذلك لآخر أيام حياته أوراقه وقلمه لا يفارقه أين ما حل وأرتحل لطلب العلم والمعرفة والنهل من منابع الأعلام والمشايخ مستفسرا وسائلا إلخ…..
إنتقل رفقة أسرته إلى مدينة غرداية سنة 1947، عائلته التي عانت مأساة ويلات الاستعمار الفرنسي وعاشت مظالم الحكم العسكري ومرارة الحياة بالصحراء القاسية، فرغم العوز وقلة الحاجة إلا أن عزيمته كانت جد قوية وإصراره على التعلم والنجاح كان قائما وثباتنا لم يحد عنه.
بدأ مسيرته الوظيفية، إذ عمل بمسجد سيدنا حمزة 1391 ه- 1971 م ومن محاسن الصدف الجميلة كان ذلك يوم فضيلة مناسبة المولد النبوي الشريف وقتها بطلب من جماعة المسجد، وظف سنة 1974 كإمام بالمسجد للصلوات الخمسة. وشارك سنة 1975 في مسابقة الأئمة بورقلة نحج فيها كإمام خطيب وألتحق بمدرسة التكوين فتكون في بلدية مفتاح بولاية البليدة وتخرج بشهادة إمام خطيب، إلا أنه لم يتوقف عن طلب العلم وكنوزه.
من خصاله الحميدة وسيرته المشرفة وأعماله سعى سنة 1984 في توسعة مسجد سيدنا حمزة بعين لوبو الذي ظل حريصا عليه وقائما مشرفا عليه. والذي عمل فيه إبان الحقبة الاستعمارية وهيمنتها ومنعها للتعليم القرآني خاصة، رفقة الشهيد الطالب عيسى عمير والمغفور له بإذن الله الطالب حمودي قباني كمعلم مساهم في التعليم القرآني بالمسجد وفضيلة الشيخين الأستاذ الحاج الأخضر الدهمة خريج مدرسة الزيتونة وأحد تلاميذ الشيخ الطاهر بن عاشور وفضيلة الشيخ الحاج أحمد بوعامر -حفظهم الله- ورعاهم وأمدهم بموفور الصحة.
مختصر من بعض نشاطاته الخيرية والإنسانية، كان الطالب عيسى معروفا بالإنفاق على المعوزين والفقراء والساعي لفعل الخير والحث عليه كما تشهد له حصة الناس للناس كل يوم سبت بمحطة إذاعة غرداية الجهوية، وكان يحاول دائما أن يدخل عليهم السرور والابتسامة والتخفيف عنهم آلام وتعويض بعض الشيء مما حرموا منه. ومن الثقافية كان يؤطر ويشرف على المخيم الصيفي مرافقا للأطفال الأيتام ضمن جمعية سنابل الرحمة بغرداية ومرافقا منشطا مخففا على المسنين والمرضى العجزة مرافقا لهم في رحلتهم الاستجمامية بزلفانة، أما من الجانب الثقافي التوعوي فلقد وفقني الله أن حضر بعض نشاطاتي وكان مؤطرا حملتي الولائية سنة 2012 ضد العنف بجميع أشكاله والذي أفتتح بداية انطلاقتها من مركز بيت الشباب بزلفانة يومها هاته عينة ما خفي كان أعظم.
نعاه جمع المشايخ والعلماء سواء بالمساجد منهم مسجد عمر بن الخطاب بحي الثنية و بمقبرة مرماد وغيرهم وتهاطلت برقيات ورسائل التعازي من وزير الشؤون الدينية وبقية الهيئات والمؤسسات والجهات.
نم قرير العين شيخنا الطالب عيسى -رحمك الله- يكفي فخرا أنك أصبحت الرمز المقتدى به في كل شيء من صدحت المنابر إلى الأعمال الخيرية والإنسانية التطوعية ومفخرة غرداية عامة ويكفي فخرا أنك سليل عائلة علم ودين وتربية وأخلاق أنك ابن المدرسة القرآنية أصلا ونسبا تشهد له ربوع الجنوب من -بكل فخر- واعتزاز رحمة الله عليهم
وختامها أسأل الله العلي القدير أن يتغمدك بواسع رحمته وغفرانه ويسكنك فسيح جناته وأن يطيب تراك وأن ينير قبرك ويجعله روضة من رياض الجنة
• بقلم الأستاذ الحاج نور الدين أحمد بامون ستراسبورغ فرنسا –