أقلام

الشيخ عمر دردور (باديس الأوراس) ومنهجه

(1292- 1433هـ 1913-2009م)

‪ ‬‬
الأستاذ الدكتور أحمد محمود عيساوي
‪ ‬‬
تنتظم تفاصيل ومكونات هذه الدراسة العلمية المنهجية الأكاديمية حول شخصية الداعية المصلح المجاهد والسياسي والعلم الشيخ عمر دردور رحمه الله (1330-1433هـ 1913-2009م) لتتناول رؤيته الإصلاحية ونظرته الاستراتيجية في عملية الإصلاح ذاتها، من خلال تطبيقاتها العملية والواقعية في بيئته وحياته ومجتمعه ومكوناته ولاسيما معوقات الإدارة الاستعمارية وتحدياتها القاسية.
تلك القوانين الردعية التي حرمت الجزائريين من تعلم لغتهم ودينهم والاعتزاز والتنعم بخيرات وطنهم، بهدف محو شخصيتهم وهويتهم من صفحات التاريخ، وهو ما كان موضوع إصلاح ومقاومة من قبل الشيخ عمر دردور وجيله من المصلحين ومن سبقهم ومن جاء من بعدهم. حيث يعكف صاحب الدراسة على التعريف بإشكالية البحث وتساؤلات الدراسة ومصادر ومراجع الإجابة والاستدلال البياني والبرهاني على الأطروحات الإشكالية للتعرف على حيثيات الممارسة الإصلاحية من جهة ومعالمها الهادية من جهة ثانية، ونتائجها وثمارها المرجوة في الواقع الجزائري المعيش. وفق خطوات البحث العلمي المتعارف عليها بين أهل الصناعة. مجيبين على كل الأسئلة المطروحة من خلال رؤية وممارسة الشيخ وكيفية تطبيقها في الواقع الجزائري البائس التعيس بالقيود الاستعمارية، من منطلقها المرجعي المتمثل في العلم والمعرفة وضمان الفهم والفقه والوعي الحقيقي لصناعة فرد مؤهل وكائن متمكن وإنسان تتمثل فيه مقومات الإنسانية الكريمة: الحرية، العدالة، المساواة، الأخوة، الكرامة، السيادة.. مع معرفة مرجعية وتطبيقية لكيفيات إدارة البوصلة الإصلاحية والتغييرية في ظل بيئة استعمارية عفنة وآسنة ومحبطة عن مجرد التفكير في صناعة أشلاء إنسان حر كريم أبي شجاع.. طامح للسيادة وطامع للانعتاق من قيود الاستعمار المهينة الذليلة، وفق الخطوات التالية المثبتة في عناوين الدراسة.
ما قبل الإشكالية:
‪ ‬‬
القاعدة المرجعية المهمة التي نحتكم إليها في عملية التأطير المعرفي لدراسة وتحليل الشخصيات والأعلام من موروثنا الثقافي العربي الإسلامي، هي ما جاء عن الإمام (جلال الدين السيوطي 849-911هـ 1445-1505م) قوله في كتابه (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ): ((.. فمن ورّخ مؤمنا فكأنما أحياه، ومن قرأ تاريخه فكأنما زاره..))‪ ‬ فمهمتنا الأساسية هنا هي الترجمة والتعريف والتدوين لسيرته وحياته وجهاده المرير كما وصلت إلينا مشافهة وحكاية وتدوينا وتوثيقا.. مستهدفين وضع خطوط ومعالم هادية لترسم منهج الآباء والأجداد في التغيير والإصلاح ومقاومة الاستعمار وخططه التدميرية للقضاء على هوية ومقومات وخصوصيات الشعب الجزائري المقهور.‬
‪ ‬‬
إشكالية وتساؤلات الدراسة:
‪ ‬‬
لم يساورني شك منذ أن تعرفت على شخصية الراحل الأستاذ الداعية المصلح الشيخ عمر دردور من خلال ظرف الوثائق الأرشيفية السميك الذي قدمه لي ابنه الأستاذ عبد الحق دردور بكل طواعية وأريحية ومحبة شهر نوفمبر 1994م عندما أخبرته بأني بصدد إعداد أطروحة دكتوراة دولة في وحول شخصية الشيخ العلامة المصلح العربي بن بلقاسم التبسي 1891-1957م بجامعة الجزائر بكلية أصول الدين، قائلا لي: ((هذا كل ما يملكه الشيخ سيدي عمر دردور من وثائق تخص جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تفيدك وتنفعك في بحثك)). ومن خلال تلك الوثائق الأرشيفية المختلفة المقدمة إلي (مراسلات، تعينيات، قرارات، تحقيقات بلاغات، تكليفات، قصاصات صحفية، كلمات، مكتوبات، إيصالات، تغطيات، حوارات صحفية..). والتي اطلعت عليها وقرأتها بتأنٍ وروية وعمق وتأصيل تأريخي لحيثيات وزمان وظرف صدورها.. ومنذ ذاك الوقت عرفت قيمته وقدره وحقيقته.. وتساءلت يومها بيني وبين نفسي: من هو هذا الرجل؟ ومن يكون؟ وما هي مكانته وموقعه ودوره ووظيفته وتأثيراته محليا ووطنيا وعربيا؟
كما أنه لم يساورني شك يوم أن التقيته وتعرفت عليه شخصيا وعن كثب في ندوة الاستماع لآراء الشرائح الشعبية في ولاية أوراس النمامشة الكبرى شهر أفريل 1996م التي نظمها الراحل العقيد الحاج لخضر 1914-1998م لتقديم رأي شريحة هذه الولاية حول دستور الجزائر الجديد يومها والمقدم للرئيس اليامين زروال ليضعها بين أيدي وأقلام لجنة تدوين دستور الجزائر المزمع اعتماده والتصويت عليه سنة 1997م من أن الشيخ الراحل عمر دردور رحمه الله كان يملك رؤية إصلاحية ونظرة استراتيجية للعودة بالجزائر وبالفرد الجزائري إلى مساره الطبيعي بين مجموع أفراد المجتمع الإنساني، يخدمها وينهض بها كما كان قبل أن يجثم على صدره الاستعمار الفرنسي ويسحقه ويقبره في عداد الموتى من الأمم.
كما لم يساورني شك – أنا وغيري من العقلاء الباحثين- من أن الذي درس عند الشيخ عبد الحميد بن باديس ستكون له بالتأكيد رؤية إصلاحية ونظرة استراتيجية لنفسه ولأمته وللجزائر وللأمة العربية والإسلامية، بله للإنسانية التائهة الضالة جمعاء. ومن أجلها حوكم وسجن في بدايات شبابه وهو ما يزال في ريعان الشباب لم يتجاوز الثلاثين من العمر من أجل الإسلام والعربية والجزائر.. بتهمة فتح مدراس عربية إسلامية تدرس الإسلام واللغة العربية سنوات 1934-1938م في ظل قوانين ميشال الصادرة سنة 1933م بمنع الوعظ والإرشاد لرجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في المساجد والجوامع والزوايا والمدارس، فضلا عن قانون الـ 08/مارس/1938م الجائر والمشؤوم الذي يعتبر اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر يمنع تعلمها وتعليمها ويعاقب بالمحاكمات والغرامات والسجن كل من يحاول فتح مدرسة لتعليمها للناشئة.. والتي قدّم جراءها للمحكمة وأُودع السجن من شهر ماي حتى سبتمبر 1939م تاريخ خروجه مع بداية الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939م
والإشكالية التي سيعالجها الباحث هي:
ما هي معالم المنهج الإصلاحي والتغييري الذي انتهجه الشيخ عمر دردور في حياته ومسيرته الإصلاحية؟
وما هي الاستراتيجية التي اتبعها في سبيل نجاح خطته الإصلاحية؟
ولعلني أجد في بداية معالجة إشكاليتي في وصف الأستاذ أحمد بن السايح له ما ينير الصورة التي أريدها أن تظهر له أمام تساؤلاتي، قوله: ((.. يكاد الأستاذ العلامة عمر دردور بجهاده ومناشطه الإصلاحية يكون أمة بحالها؛ فقد اضطلع في حياته المديدة والمليئة بالمفاخر والمواقف الخالدة، بما لا تستطيعه المؤسسات التي لها غاية، ولا الجمعيات والأحزاب التي تبني نضالاتها على إقامة مشروع مجتمع بديل، ومعارضة مسؤولة. وقد كانت رسالة مترجمنا الأستاذ عمر دردو ـ طيب الله بالرحمات ثراه وسلام عليه في الصالحين في مقعد صدق عند مليك مقتدرـ تراهن على الانتصار لقضية شعب بأكمله، وانتشاله من واقعه الاستدماري المزري، والارتفاع به إلى مستوى النضال والتحرر، والمواجهة بشتى الوسائل المتاحة من أجل تخليص الوطن من قبضة الآسر المحتل، وصدق الشاعر الذي قال:
وليس على الله بمستنكر على أن يجمع العالم في واحد
ذلك هو ـ بالتحديد ـ الأستاذ عمر دردور في أعماله ونضالاته ومسارات حياته الطافحة بألوان الكفاح والبلاء الحسن، والتحديات والْعِرَاكِ المتواصل من أجل نصرة الجزائر وتحقيق استقلالها، والتمكين للإسلام فيها ، وكانت هي المهمة التي اختارها وندب لها نفسه وحياته وماله وكل ما أُوتِيَ من جهد وقوة قبل وأثناء وبعد الثورة ؛ فقد تجشم ـ من أجل ذلك ـ الصعاب وكابد أعباء الحياة الشاقة ، وتحمل أصعب المسؤوليات التي لا يتحملها سواه، وكان أمينا فيما أؤتمن عليه من أموال وأسرار تتعلق بالمصلحة العامة للوطن. وكانت إرادته من طراز آخر ـ غير مألوف ـ لا تجده إلا عند المُصْلِحِينَ الكبار الذين يعملون على إحياء الأمم وإعادة بعثها من جديد..))
‪ ‬‬
مصادري ومراجعي:
‪ ‬‬
في البحث العلمي الأكاديمي المنضبط أول ما يسأل الباحث نفسه قبل الشروع في بحثه سؤالين مركزيين، هما: هل هذا الشخص أو الموضوع يمكن البحث فيه؟ وهل ثمة إشكالية بحثية جلية يمكن الإبحار فيها أم لا؟ والسؤال الثاني مفاده هو: أين مصادري ومراجعي التي سأنجز من خلالها البحث وأدلل بها على فرضياتي البحثية؟
طبعا وبعد أن أجبت على السؤال الأول ووجدت الإشكالية الجديرة بالبحث، نظرت في مصادري ومراجعي، فوجدت للأسف الشديد أن الذين تكلموا عنه كثيرون جدا، وتتفاجأ من أن الذين كتبوا عن هذه الشخصية (عمر دردور) ليسوا ضمن أسوار الجامعة، ولا يحملون لقب دكتور أو أستاذ باحث؟؟ فكل من كتب عنه أساتذة وأئمة وباحثين أحرار، وهم الأساتذة: لحسن بن علجية الذي ألف عنه كتابا، وأحمد بن السائح الذي كتب عنه مقالا نشره في جريدة المسار المغاربي وعبد الكريم قاضي مراسل جريدة الأوراس الذي أجرى معه حوارا مطولا ومفيدا وثريا، والشيخ الإمام السنوسي الشافعي أحد تلامذته الي حفظ القرآن الكريم وأخذ العلوم العربية والدينية عنه سنوات الستينيات، والأستاذ محمد الشريف بغامي رحمه الله مدير معهد الأئمة بالزانة البيضاء بباتنة، ومرويات بعض تلامذته.. وأن مبدأ الكتابة عنه من الأكاديميين كان مع هؤلاء الأساتذة وهم: الأستاذ الدكتور عبد الباسط دردور والأستاذ الدكتور مسعود فلوسي والأستاذ الدكتور (بلقاسم ساعي 1948-2023م) والأستاذ الدكتور (حسن رمضان فحلة 1940-2022م) فقط حسب آخر إحصاء علمي مسردي لمن كتب عنه متوافر بين يدي.
‪ ‬‬
مصطلحات الدراسة:
‪ ‬‬
ونود قبل الغوص في الدراسة نود الوقوف عند بعض المصطلحات الرئيسية في الدراسة كمصطلح الإصلاح والاستراتيجة، وهي:
1 – الإصلاح لغة:
جاء في قاموس تاج العروس من جواهر القاموس للمرتضى الزبيدي أن: الصلاح ضد الفساد، من فعل (ص. ل. ح) بالفتح كـ (قنع)، ونصر. و (ص. ل. ح) بالضم كـ (كرم وحسُن). والصالح هو الجابر لأموره وسائر أعماله، وجمعه صالحون وصلحاء، ومصلحون. وأصلح الشيء ضد أفسده، أي: أقامه وعدله وسواه، بعد أن كان فاسدا. محمد مرتضى الزبيدي، تـاج العروس من جواهر القامـوس، دار مكتبة الحياة، بيروت، دون طبعة، دون تاريخ، ج 2، ص 182 و183.
ومن المجاز في اللغة قولهم: (أصلح إليه: أي أحسن إليه)، و(أصلح الدابة: إذا أحسن إليها فصلحت وصارت صالحة للاستعمال)، و(أصلح الشيء: أي تعهده، وتوكل أمر إصلاحه)، و(الصلح بالضم: أي التسوية بين جميع الأطراف المختلفة بالسلم والصلح والخير). و(الصلاح، والإصلاح من الصلح، الذي هو من صلح، والذي هو ضد الفساد)، و(اصطلحا، وتصالحا أي: اتفقا).
من خلال هذه المقاربات اللغوية يمكننا الاستئناس بأن مفهوم الإصلاح أو الصلاح لغة هو : الجبر، والتسوية، والإقامة، والتعهد لما ُأفسد وُترك وُأهمل من الأمور أو المخلوقات أو الموجودات.
2 – الإصلاح اصطلاحا:
‪ ‬‬
هو عملية تغييرية تهدف بها الجهة المصلحة إحداث تغيير في واقع المصلحين العقلي، والتصوري والوجداني والسلوكي الاجتماعي والمادي الإنجازي والعمراني، وفق الأهداف المرجوة، وذلك عبر مرحلة زمنية، ووفق سنن كونية آفاقية، بأساليب ومناهج ووسائل حضارية، تتفاعل بمنطقية اجتماعية وحضارية بين الجهة المصلحة – بالكسر- والمصلحة – بالفتح -، بحيث تتغير الجهة المصلحة – بالفتح – نحو الواقع الجديد المرسوم لها.
كما أنه هو عملية تغيرية منضبطة لتقويم وتعديل سلوك أمة ما وفق المنطلق والآلية والمقصد الشرعي النبيل الذي يحكم ويضبط مسار العملية الإصلاحية منطلقا ووسيلة وممارسة وغاية. وقد اقترن بالضوابط التالية:
1 – أنه جاء مناقضا لكل أشكال الفساد.
2 – أنه اقترن بعالم القيم والمثل العلا الروحية والتعبدية والتشريعية.
3 – أنه اقترن بمقومات التغيير الحضارية، وشكل أهم عناصرها.
4 – أنه اقترن بمقومات البناء الحضاري المادية والروحية.
5 – عملية ذات أركان منضبطة. فهو: عملية توعوية إرشادية ذات أركان رئيسة هي: (مصلح، مصلح، إصلاح، تقنيات ومناهج إصلاحية) ولكل ركن من هذه الأركان خصوصياتها ومقوماتها ومنطلقاتها وممارساتها ووسائلها وغاياتها.. فإذا أخذنا الركن الأول المصلح وهو القائم بعملية الإصلاح فإننا لفهمه فهما جيدا لابد أن نجيب على الأسئلة التالية: من هو؟ وما هي منطلقاته وعقيدته ونيته وإرادته؟ وماهي غاياته وأهدافه؟ وما هي وسائله وأساليبه؟ وبعبارة أخرى : من هو؟ ماذا يقول؟ ماذا يريد؟ من يريد؟ متى يريد؟ بأي وسيلة يريد؟ وما هو التأثير المنتظر؟ وردة الفعل المنتظرة؟
6 – وهو عملية فردية تغطي أبعاد الفرد الأربعة: (البعد الوجداني، العقلي، السلوكي، الإنجازي)، كما أنها عملية اجتماعية وإنسانية شاملة، هدفها تعميم الصلاح بين الأفراد والمجتمعات، تضطلع بها المؤسسات والجمعيات والهيآت والمنظمات أفضل مما يضطلع بها الأفراد لوحدهم. محكومة بضوابط المرحلية الزمنية، والسننية التاريخية، والنمو الطبعي للموجودات.
7 – وهو عملية استثمارية مضمونة النتائج، آفاقية الأبعاد والأهداف، تؤدي في النهاية إلى بلوغ مقصد الصلاح.
8 – وهو عملية متشابكة، متداخلة، مترابطة، معقدة، تضم نسيجا متشابكا وهائلا من الأنساق والأنماط والسمات المعرفية والثقافية والفكرية والدينية والاجتماعية والتربوية.. بهدف إعمار الأنفس والآفاق والعمران.

3- الاستراتيجة لغة واصطلاحا:
‪ ‬‬
أصله اللغوي في الإنجليزية والفرنسية واستدعي للغة العربية كمصطلح معرب يفيد الرؤية الشاملة والآفاقية.. (‪stratégique‬) ‪ (vision stratégique)‬‬‬
رؤية مرجعية منطلقية شاملة وآفاقية تمسح وتشمل مختلف المعطيات والموجودات الواقعية وتداعياتها ومآلاتها وتفاعلاتها على المديين القريب والبعيد في مختلف الميادين والمجالات في عالم الأشياء والأشخاص والأفكار.
وقبل التدليل والإجابة على هذين السؤالين الإشكاليين نود أن نقدم لمحة موجزة عن أهم محطات الشيخ عمر دردور يرحمه الله ويسكنه فسيح جناته.
من تاريخ العائلة الدردورية:
‪ ‬‬
والعائلة الدردورية عائلة عَرِيقَةٌ في الجهاد والجهاد عَرِيقٌ فيها ، وكان بلاؤها معروفا في مختلف الثورات التي عرفتها منطقة الأوراس؛ فضلا عن مساهمة العائلة الدردورية في نشر التعليم والوعي بوساطة زاويتها المشهورة والمعلومة لدى الخاص والعام، وهي زاوية سيدي علي دردور المرشد الروحي والزاهد المتعفف الذي جمع بين العلم والدعوة إلى الجهاد؛ وسار على نهجه نجله سيدي الهاشمي (1815 – 1899م) صاحب (طريقة الأحباب) الذي كان يمثل مدرسة متعددة المشارب، وكان إلى جانب نشاطه الروحي والتربوي من المهتمين بعلم الاقتصاد؛ بل كان رائدًا من روَّادِ الاقتصاد ـ بمفهوم ذلك الزمن ـ يَتَحَسَّبُ للمستقبل ويتطلَّعُ إلى ما هو آتٍ، ويحتاط للأزمات، ويُعَلِّمُ الناس الادخار والتوفير، وينصحهم بعدم الإسراف في الإنفاق والتزود لأيام الشدة، ليكونوا في منأى عن الاحتياج. وكان يحثهم على الأعمال المجدية وممارسة النشاطات المنتجة، كـ: فلح الأرض وتربية المواشي؛ وكانت تعاليمه في المجال الاقتصادي ترتكز على تطبيق صرف القروض للمحتاجين حتى لا يبقوا عالة على غيرهم، بشرط الالتزام بالتسديد في الآجال المتفق عليها، كما كان للصناعات اليدوية في تعاليمه وبرنامجه الاقتصادي المكانة المتميزة التي تلبي كافة الحاجيات، وتحقق ما يسمى بلغتنا المعاصرة ((الاكتفاء الذاتي))؛ ولَمْ يكن وضع المرأة بِدْعًا أَوْ نشازًا في المشروع الاجتماعي للعلامة الشيخ الهاشمي دردور. فقد حظيت المرأة عنده بما تستحقه من تكريم واحترام، وكان عليها من الواجبات بقدر ما كان عليها من حقوق، مثلها مثل الرجل في حركة دأبه ونشاطه التي سجلتها وأقرتها تعاليم المدرسة الدردورية
والشيخ الهاشمي دردور من مريدي الشيخ محمد بن عزوز البرجي، وهو سفير للرحمانية في مدرونة وفي مختلف جهات الأوراس على العموم؛ وفي عهده تصدت الزاوية الدردورية لمقاومة الاحتلال الفرنسي، وانضم الشيخ الهاشمي بأتباعه ومريديه إلى ثورة ابن جار الله (1879م) نكاية في الاستدمار، وأبلت الطريقة الدردورية البلاء الحسن في المقاومة والقتال، وثبت أتباعها في ميادين المواجهة، ونجحوا في قلب حسابات ومخططات الغزاة. وكان لدور الطريقة الدردورية الأثر البالغ في دحض وتراجع مشاريع الاحتلال. وقد أقضت الدردورية مضاجع المحتلين بنهجها ومشاريعها الإصلاحية، ووقفت مواقف صلبة أمام غطرسة العدوان وتصدت لبسط سلطان نفوذه. ولعل أشد ما أحرج الفرنسيين، وكان بمثابة حجر عثرة أمام أطماعهم هو تمكن الزاوية الدردورية من تسخير أتباعها وتأليب الجماهير على العدو الفرنسي وامتثال الساكنة لإرادة الشيخ الهاشمي والانصياع لأوامره وتعليماته
مولده ونشأته:
ولد الشيخ عمر دردور بتاريخ 13/10/1913م 1292هـ بقرية حيدوس بلدية ثنية العابد بوادي عبدي، من عرش أولاد عبدي الذين يصعد عمود نسبهم إلى بورك بن علي بن شيحان بن طراد بن أثرياء بن هلال بن عامر من العرب الهلاليين الخارجين من الحجاز عام 443 هـِ الموافق لسنة 1075مِ. وأدخل مولده السرور والابتهاج على الأبوين الكريمين محمد بن منصور دردور والفاضلة عائشة سباع
وبزاوية القرية حفظ القرآن الكريم وختمه ثلاث مرات وسنه لا يتجاوز الثانية عشرة، وتابع دراسته في زاوية سيدي عبد الرحمن الزموري بحيدوس سنة 1926م، وتتلمذ على يد مفتي القرية، ومنها رحل إلى زاوية سيدي علي بن عمر بطولقة ومكث فيها سنتين 1930-1931م، ومن بين المشايخ الذين أخذ عنهم العلم الحاج عبد الله الخذري ومحمد الدراجي، ومنها شد الرحال إلى الجامع الأخضر بقسنطينة لطلب العلم على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 1932م بعد أن وعده والده بتوفير مبلغ 100 فرنك كل شهر، وقد تعرف عليه عن طريق التاجر والمصلح الوجيه سي الحنفي العوبي، فقصدا قسنطينة سنة 1932م، ولما دخلا مقصورة الشيخ عرفه الشيخ العوبي به وبأسرته ورغبته في الدراسة، وفي هذا الصدد يقول الشيخ عمر دردور: ((.. واستقبلني الشيخ – ابن باديس- في مقصورته بالجامع الأخضر، وفرح بي وسألني: أين قرأت؟ وماذا قرأت؟ وعلى من قرأت؟ فأخبرته بأني أحفظ القرآن الكريم، ودرست بمسقط رأسي وبزاوية طولقة، فرد عليّ قائلا: سألحقك بالسنة الثانية، بعد امتحانك، لأن العلم أمانة، واختبرني في إعراب الجملة الآتية ” يا رحمةَ الله حلي في منازلنا” فأجبت موضحا حكم المنادى وأقسامه الخمسة، وحكم المضاف والمضاف إليه، وإعراب فعل الأمر إذا كان المخاطب انثى، والجار والمجرور، وحكم إعراب الضمير وبنائه في: منازلنا، فوفقني الله للوجه الصحيح في إعرابها، فزالت الوحشة وذهبت الدهشة، ثم كلف الشيخ عبد الحفيظ الجنان الذي عرفني بمكان السكن، وأوقات التعلم..))
وجاء موعد الامتحان الذي وصفه لنا صديقنا الأستاذ محمد الشريف بغامي أحد تلامذة الشيخ دردور ومريديه، يقول الأستاذ بغامي: ((.. أجرى له الشيخ عبد الحميد بن باديس امتحانا في استظهار القرآن الكريم وفي بعض المسائل الفقهية واللغوية ، وكان مما امتحن فيه إعراب الجملة: [يا رحمة الله حُلِّى بأرضنا] وهو ما ذكره لي فضيلة الشيخ رحمه الله، وكانت جميع إجاباته موفقة.. ولذلك لما شرع في التلقي من الشيخ عبد الحميد أبدى نباهةً وذكاءً وسرعةً في الفهم والتحصيل مما جعل شيخه يعتمده مع مجموعة من إخوانه منهم الشيخ الزموشي والشيخ حيرش والشيخ فضيل الورتلاني والشيخ حمزة بوكوشة وغيرهم لمساعدته في مهمة التعليم الإبتدائي بالجامع الأخضر والتدريس بمسجدي سيدي قموش وسيدي بومعزة.. وقد أمضى الشيخ سبع سنوات كاملة بين الدراسة والتدريس بقسنطينة.. وكلما تذكر تلك المرحلة إلا وأبدى إعجابه وحبه الكبير وتقديره لشيخه عبد الحميد بن باديس.. ))
وبقي يطلب العلم عنده إلى غاية سنة 1936م حيث أسس مع جماعة من الطلبة الأوراسيين والعلماء القاطنين بالأوراس الشعبة الأوراسية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، حيث قام بنشاط ديني وإصلاحي وتربوي وتعليمي وثقافي وسياسي مما جعل السلطات الاستعمارية التآمر عليه للقضاء على حركته الإصلاحية وسجنه سنة 1937م، وجرت محاكمته بتاريخ 06/01/1938م بتهمة القيام بحملة دعائية ضد فرنسا أثناء الاجتماعات والمهرجانات، وتحريض الشعب على العصيان وعدم تنفيذ الأوامر، وعدم الخضوع للسلطة المحلية وشتم أعوان الحكومة الفرنسية في الاجتماعات. حيث برأته المحكمة ولكن الحاكم الفرنسي بأريس استأنف الحكم وحكم على الشيخ بأربعة أشهر نافذة وغرامة مالية تقدر بـ (8000) فرنك، وأُعيد الشيخ إلى السجن لإتمام بقية العقوبة المقدرة بـ يوما، خرج على إثرها قوي العود
وبعد تخرجه عينه الشيخ عبد الحميد بن باديس عريفا من بين العرفاء الاثنى عشر الذين اختارهم لمساعدته في التدريس في مسجدي سيدي بومعزة وسيدي كموش، أو في قراهم ونواحيهم.
وقد ابتلي بلاءً عظيما عندما اتهمته السلطات الاستعمارية بفتح مدرسة حرة دون إذنها وموافقتها وتدريس اللغة العربية الغريبة عن القانون الاستعماري والممنوعة تدريسها وفق قوانينها الردعية، ولفقت له تهمة تحريض الجماهير والعصيان المدني وأدخلته السجن، ويوم محاكمته هاجت مدينة باتنة، وحضر المحاكمة الشيخ عبد الحميد بن باديس رفقة العديد من أعيان المدينة تأييدا وتثبيتا لعزيمته، وقد حضر من هؤلاء الأعيان الشيخ الطاهر مسعودان الحركاتي والشاعر محمد العيد آل خليفة والشيخ محمد خير الدين والشيخ التهامي بن فليس. وما كان من الإدارة الاستعمارية إلاّ أن حكمت عليه بالمدة نفسها التي قضاها في السجن الذي خرج منه منتصرا.
وقد أشادت به جريدة البصار في سلسلتها الأولى في الصفحة السابعة ناشرة صورة كاملة له، وكتبت تحتها العبارة التالية: (الشيخ عمر دردور قائد الحركة الإصلاحية بجبل الأوراس ومعتمد جمعية العلماء به، أول عالم جزائري يسجن ظلما في سبيل نشر الهداية الإسلامية)
ولما أراد الذهاب إلى جامع الزيتونة والاستزادة من علومه نصحه الشيخ عبد الحميد بن باديس بأن يبقى في الجزائر، وأن ما حصّل عليه من العلم كافٍ، لأن الجزائر محتاجة إليه، ولأن اللغة العربية والهوية الإسلامية مهددة وفي خطر كبير في الجزائر، وأذعن الشيخ لنصيحة شيخه وانطلق يعلم ويؤدب ويربي ويكون ويعظ ويُفتي ويخطب ويُنشىء المدارس والمساجد والزوايا..
وظل على هذا المنوال حتى اندلعت الثورة التحريرية المباركة كان على اتصال دائم بالمجاهد المرحوم محمد الشريف بن عكشة والمرحوم المجاهد سي الطاهر النويشي قصد إعداد مراكز للتموين ومخابىء للثوار إلى أن اكتشف أمره في شهر جويلية 1955م فاضطر إلى مغادرة الجزائر باتجاه فرنسا، ومنها التحق بالشيخ البشير الإبراهيمي بالقاهرة وبالوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني، وفي مصر اغتنم الفرصة بالإضافة إلى مشاركته في اجتماعات قيادة الثورة والتكفل بشؤون الطلبة الجزائريين، للاستزادة من طلب العلم في الأزهر الشريف فكان دائب الحضور لدروس المشايخ الكبار أمثال الإمام الأكبر وشيخ الأزهر عبد الحليم محمود، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ أحمد الشرباصي، والشيخ الهندي أبو الحسن الندوي كما كان دائب الحضور لندوات عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، ومالك بن نبي.. وغيرهم من فطاحلة الأدب والفكر والثقافة في مصر. وله ذكريات ومواقف كثيرة في مصر والشام رفقة الأدباء والمثقفين والثوريين العرب.

دوره في الثورة التحريرية:
‪ ‬‬
كانت اتصالات فقيدنا الأستاذ عمر دردور بقادة الثورة ومفجريها قبل اندلاع الثورة، وكان الشيخ عمر أحد الإطارات الفاعلة في التحضير الذي سبق موعد اندلاع الثورة المباركة، وكان على علم بميقاتها وساعة تفجيرها، وساهم بماله الخاص وبنفسه في سبيل إنجاح الثورة، وكان الشيخ عمر من الرجالات الأفذاذ الذين قدموا دعمهم الكامل وغير المشروط لثورة الشعب، وظل نعم المعوان ونعم المجاهد الذي تلقاه إلى جانبك في ساعة العسرة. وأمثال الشيخ عمر دردور معدن نادر من المحنكين لا يجود الزمان بمثلهم في كل الأحايين. وضع نفسه و ماله و كل ما يمتلك تحت تصرف الثورة، واضطلع بالإشراف على العديد من مراكز التموين، وتحضير المستشفيات وما تتطلبه طبيعة الثورة من خصوصية تنقل تلك المستشفيات من مكان إلى آخر لتقديم الإسعافات للجرحى والمصابين، وأدى تلك المهمة على أكمل وجه إلى جانب نخبة من المجاهدين الأُوَل من إطارات جيش التحرير الوطني، وقد استفادوا جميعا من خبرة وتجارب الشيخ دردور وقدرته على التنظيم
وبعد المنتصف الأول من سنة 1955 قررت قيادة الثورة أن ترسله إلى الخارج بعد أن أصبح مطاردا من طرف العدو، وقبل سفره حدثته نفسه أن يعرج على قسنطينة لحضور محاكمة صديقه القائد البطل مصطفى بن بولعيد، وفي نزل سيرتا بقسنطينة التقى بمحامي ابن بولعيد (سى العمراني) فانتهز الشيخ دردور فرصة هذا اللقاء وأوصى سي العمراني ببذل كل ما يستطيعه لإنقاذ حياة سي مصطفى، وبالمقابل أَسَرَّ سى العمراني للشيخ دردور أن الشرطة الفرنسية تتعقب أثرك وتبحث عنك وعليك أن تغادر المكان. فاتجه الشيخ عمر على الفور إلى مكتب الشيخ العربي التبسي الذي تولى بدوره تسفير الشيخ عمر إلى العاصمة، وفي هذه الأخيرة أَعَدَّتْ مصالح جبهة التحرير الوطني ملفا طبيا يتضمن الحالة الصحية الخطيرة للشيخ عمر وضرورة نقله للعلاج في الخارج. وفي فرنسا وجد الصراع على أشده بين الجبهويين والمصاليين، وحاول جمعهم على الكلمة السواء، وتعرض أثناء محاولة التقريب بينهم إلى محاولة اعتداء في مدينة (تور كوان) من طرف المصاليين، كادت تودي بحياته؛ ثم توجه إلى مدينة (فيشي) وبعض مدن الشمال الفرنسي مثل (ليون) و (باريس) وأشرف على تنظيم خلايا المهاجرين مُعَرِّفًا بالثورة الفتية حَاثًّا على بذل كل الجهود المتاحة لنصرتها ودعمها وتسخير كل الوسائل لخدمة مصالحها، وواصل مهامه الموكلة إليه في فرنسا إلى شهر جانفي من سنة 1956، ثم استدعته جبهة التحرير إلى القاهرة، فسافر إلى سويسرا ثم توجه إلى مصر، واتصل بقيادة جبهة التحرير في الخارج وانضم إلى ابن بلة وخيضر وآيت أحمد ومحمد البشير الإبراهيمي. وفي القاهرة قام بواجبه مع إخوانه، وأشرف على شؤون كثيرة ومهام مختلفة منها التكفل بضمان مِنَحِ الطلبة والتعريف بالثورة لدى الدول العربية أثناء سفرياته وتنقلاته الرسمية، وجمع المساعدات لدعم مسار الثورة. وفي سنة 1956 أسندت له مهمة تموين الثورة وتسليحها بجلب الذخيرة والعتاد فسافر إلى ليبيا وأدى كل تلك المهام والمسؤوليات على أكمل وجه؛ وفي ليبيا حاولوا تصفيته، ونبهه أحمد بن بلة وأمره بالتوجه إلى سوريا، ثم قام بواجبات أخرى في العراق، وعاد إلى القاهرة ليتولى مهمة تسيير خزينة الجبهة والعلاقات مع الدول العربية بمعية الدكتور أحمد فرنسيس، ويشهد له كل أعضاء وفد القاهرة على أمانته ونزاهته وحرصه الشديد على المحافظة على أموال الثورة؛ وظل مجاهدًا قياديا يعمل تحت تصرف جيش وجبهة التحرير الوطنيين إلى سنة 1960، حيث انتقل إلى تونس لتوعية الجنود على جبهات القتال في الحدود تحت قيادة العقيد محمدي السعيد (سى ناصر)، وبقي في تلك المهمة إلى الاستقلال
بعد الاستقلال:
‪ ‬‬
وبعد الاستقلال عمل على فتح المعهد الإسلامي بباتنة في ظرف قياسي وبدأ التدريس فيه سنة 1964م، وفي سنة 1981م قام بإدارة معهد تكوين الإطارات الدينية بسيدي عقبة ببسكرة، كما كان يمارس مهنة التفتيش إلى سنة 1989م، فضلا عن مهامه الدينية والاجتماعية الأخرى كالوعظ والإرشاد والفتوى والتدريس وإصلاح ذات البين في إطار المجلس العلمي للإفتاء
‪ ‬‬
نشاطاته بعد الاستقلال:
‪ ‬‬
وبعد تحقيق الاستقلال الوطني عاد الشيخ دردور إلى باتنة وشرع في المساهمة في مسيرة البناء الوطني، وانصب اهتمامه على النهوض بالتعليم، وانتشال الشباب من واقعهم البئيس الذي يحكمه التخلف والأمية، وكان البرنامج الذي رسمه الأستاذ عمر دردور برنامجا وطنيا عاما يهدف إلى تعميم مشروع التعليم والتكوين العلمي على المستوى الوطني عبر كل المراحل، وكانت فكرته المثمرة في هذا المجال الحساس فكرة رائدة وتحتاج إلى ميزانية دولة وتمويل ضخم، وإعداد برنامج عمل يضطلع به فريق بحث من المتخصصين في التربية وعلم النفس والمناهج البيداغوجية وما تقتضيه عملية التعليم من إعداد ودراسة وخطط؛ وكل ذلك يستحيل تحقيقه في الواقع إلا بعد دراسته التي تستغرق سنوات من النقاش والتحضير لإنجاح هذا المشروع الشائك، إلا أن الشيخ عمر دردور كما ذكرنا في صدر هذه الكلمة كان أمة في شخص اكتسب خبرته وتجاربه من واقع شعب مغلوب على أمره ، والمغلوب على أمره قد يتحول إلى مارد إذا أراد أن يُغَيِّرَ ما بنفسه (( إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)). ومن هذا المنطلق نقول أن الأستاذ عمر دردور هو الرائد المنشئ للتعليم في الجزائر بعد الاستقلال، وهو باعث النهضة العلمية والتثقيفية بعد استرجاع السيادة الوطنية ، وهو الذي أنشأ المعاهد الإسلامية التي عجزت الدولة حتى عن التفكير فيها كمشروع مستقبلي.
وللتاريخ نذكر أن صاحب فكرة إنشاء وتأسيس المعاهد الإسلامية هو فضيلة الأستاذ العلامة المجاهد عمر دردور الذي أراد أن يعيد للجزائر دورها العلمي، ويفتح أمام أجيالها في الجزائر المستقلة تلك القلاع الشامخة، والله وحده يعلم كم بذل الأستاذ عمر دردور من جهود شاقة لتحقيق الفكرة وجعلها واقعا في حياة الناس، وسعى لتعميمها في جهات مختلفة من ربوع الوطن. واستطاع الأستاذ عمر دردور أن يقنع صديقه وزير الأوقاف أحمد توفيق المدني بالفكرة والعمل على تحقيقها في الميدان؛ وفي شهر نوفمبر 1962، وبمناسبة الذكرى الثامنة لاندلاع الثورة التحريرية المجيدة، نجح الحلم وبدأ التطبيق الفعلي على أرض الميدان لإنشاء وإنجاز المعهد الإسلامي بباتنة كتجربة أولى، وكان الشيخ دردور بمتابعته وسهره وراء كل مراحل الإنجاز التي تمت على المستوى المحلي في ظرف قياسي وجيز. وتم تدشين معهد باتنة في فاتح ماي 1963؛ وكان لنجاح معهد باتنة روافد أخرى تأسست كمعاهد إسلامية في بسكرة وأريس وقسنطينة وبريكة والشمرة ومروانة والمعذر وبوسعادة والوادي وخنشلة ومنعة ونقاوس.. إلى أن بلغ مجموع هذه المعاهد إلى 36 مؤسسة على المستو الوطني. ومن باتنة سعى الشيخ دردور إلى إنشاء المعهد الإسلامي ببسكرة، وكان مشروع معهد بسكرة مقررا في أول الأمر كمشروع لسيدي عقبة، ولأسباب خاصة تتعلق بهذه الأخيرة، اقتنع الأستاذ عمر دردور في نهاية المطاف أن الاسم لسيدي عقبة وبسكرة هي المؤهلة، وتم تدشين المعهد الإسلامي ببسكرة تحت إشراف ورعاية الأستاذ عمر دردور، وأصبح مقر (نزل الترمينيس ـ ‪HOTEL TERMINUS‬ ) هو مقر المعهد الإسلامي ببسكرة؛ وكان الذي سيتولى إدارة المعهد هو حمزة حوحو الذي جاء من السعودية بمناسبة فرحة الاستقلال، ووعدوه بتعيينه على رأس إدارة المعهد، وقيل له اذهب إلى السعودية (ونَظِّمْ نفسك) ـكذاـ، وقم بتصفية ما عندك هنالك، فذهب ولما رجع لإدارة المعهد وجد الشيخ امحمد امغزي بخوش حَلَّ محله.‬
تلك هي بعض أعمال ومنجزات فقيدنا الراحل الأستاذ عمر دردور الذي كان واحدًا من رموز الحركة الإسلامية في الجزائر، وكان من القلائل الذين سجنوا في مقتبل العمر، وتعرض في سن الثانية والعشرين لمحنة المجابهة المباشرة مع السلطات الاستدمارية، وهي المحنة التي لا يتحملها ولا يصبر عليها حتى من اشتد عوده من الرجال الذين أنضجتهم تجارب الحياة ومرارة النضال، وكانت لهم مسارات طويلة وعِراك حافل بالمواجهات السياسية. قال عنه الأستاذ الدكتور مسعود فلوسي: ((.. أنه لولا شيوخ ثلاثة وهم محمد يكن الغسيري والشيخ الأمير صالحي والإمام عمر دردور لظل الأوراس يتخبط في جهله …)). والشيخ عمر دردور هو نوع آخر من الصبر والاحتمال، وهو فرادة قائمة بذاتها في التصدي لصنوف الابتلاءات المختلفة؛ وكان من خاصة الخاصة الذين تحلقوا حول رائد النهضة الإصلاحية الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس؛ وكان بصيرًا بمواقع الصراع متفطنا لدهاء الاستدمار ومؤامراته، وكان واعيا بمراتع السياسة وأحابيلها. فرحمة الله عليه وجعل الفردوس الأعلى مأواه.
استراتيجيته الإصلاحية:

انطلق الشيخ عمر من استراتيجية الإصلاحية من قاعدة ومرجعية طلب العلم والمعرفة، فبالعلم والمعرفة يمكن شق طريق الحياة الكريمة والتخلص من عبودية الاستعمار الفرنسي، لأن الاستعمار استعمرنا بقدراته العلمية والمعرفية والتقنية والصناعية.. فطلب العلم وإنشاء المدارس وتعليم الجزائريين صغارا وكبارا هو طريق الحرية والكرامة الاستقلال، وقد وصف الأستاذ أحمد بن السايح مسيرته الإصلاحية فقال: ((.. وبعد عودته من قسنطينة سنة 1936م سارع إلى تأسيس (( الشعبة الأوراسية )) لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بمعية مجموعة من طلبة الأوراس ومثقفيه، وبذلك أدخل الشيخ عمر الإصلاح الديني والثقافي والعلمي إلى مدن وقرى ومداشر الأوراس.
وبدأ في التدريس ونشر التوعية وفتح النوادي؛ وبمواظبته على هذا العمل أيقظ الضمائر، وصحح الكثير من المفاهيم السلبية السائدة، وحرر بدعوته وخطابه الإصلاحي العقول الخاملة والنفوس المترددة؛ وتجاوب مع دعوته الجديدة كافة مواطني الأوراس الأشم الذي رحب سكانه بالدعوة التجديدية التي أيقظت الناس من سباتهم، وفي تلك المرحلة الحاسمة استطاع الشيخ دردور أن يضع يده على جرح الوطن السليب، ويستعرض راهنه ومستقبله والحلول المجدية لتخليصه من قبضة الآسر المحتل.
ومضت دعوة الشيخ دردور تشق طريقها بالتوعية والتثقيف للكبار وفتح مدارس التربية والتعليم للصغار، وتلقين القرآن الكريم في الكتاتيب؛ والعمل على إبقاء مساجد المسلمين بعيدة عن إدارة المحتل. ووَلَّدَ هذا النشاط المتميز الغيظ لدى سلطات الاحتلال التي كانت تتابع أعمال الشيخ عمر دردور وتترصد أهدافه، وتترقب ضبطه متلبسًا بمخالفة قوانينها الجائرة؛ ولما أدركت إدارة الاستدمار أبعاد وغايات الشيخ دردور عَطَّلَتْ نشاطه، ثم سجنته من جوان إلى سبتمبر 1939 لا لأنها أقامت عليه الحجة، بل لأنها لم تعد قادرة على تحمل استمراره في دروسه ونشاطاته التي أصبحت مزعجة، ولم يبق أمامهم سوى الكيد والتآمر لإسكاته والتخلص منه، ولأسباب واهية تتنافى مع روح العدل ولا تتفق مع نزاهة القضاء وحيادية الأحكام المنصفة، لفقوا له اتهمات مختلقة لم يقترفها ولم تخطر له على بال، واتهموه بتأليب الجماهير ضدهم، وعدم الانصياع لآوامرهم، والتحريض ضدهم إلى غير ذلك من سيل الاتهمات الجاهزة التي تطال كل من يُنَاكِرُ تعسفهم واستكبارهم. وعلى الرغم من تبرئة الشيخ عمر بعد محاكمته لأن الاتهام لم يكن مؤسسا من أصله، إلا أن الذين كانوا يلاحقونه من داخل دواليب الإدارة الفرنسية لم يعجبهم حكم التبرئة، فازداد غيظهم واشتد حنقهم وامتلأت صدورهم نارا، فعاودوا تحريك متابعته، ووصل الأمر بحاكم أريس (ميستيكلي) بتلفيق واختلاق اتهامات جديدة ضد الشيخ عمر، واستعمل كل ما أوتي من مكر وكيد لتوريط الشيخ عمر، وهدد بعض الساكنة وأجبرهم على الإدلاء بشهادات الزور والإقدام على الكذب ، والتقول على الشيخ عمر بأشياء لم تقع منه، ولم تحدث في الواقع، بل هي محض افتراء من وحي عقل الشيطان (ميستيكلي) ومن لَفَّ لفه وكان على شاكلته؛ وبناء على هذا النوع الجديد من الباطل والتخرصات؛ تحركت محكمة الاستئناف، وأدانت الشيخ عمر دردور؛ وأثناء محاكمته توافدت الجماهير من مختلف أنحاء الأوراس، وأحاطت بسجن ومحكمة باتنة من كل جانب، ومن قسنطينة قدم إمام النهضة الجزائرية الأستاذ عبد الحميد بن باديس صحبة الشيخ محمد خير الدين، واستقبلهما علماء باتنة ، وألقى الشيخ ابن باديس درسا في المسجد العتيق بعد المحاكمة المتعسفة ، وأطلق سراح الشيخ في سبتمبر 1939 بعد أن استكمل كل أيام العقوبة التي سلطت عليه . وبعد خروجه من السجن وجد الحرب الكونية الثانية ـ قد اندلعت ـ في أيامها الأولى.
وبتعلة الحرب وما سادها من غموض وحذر تعطل النشاط السياسي للأحزاب والجمعيات ومنها جمعية العلماء، وبحكم ظروف الحرب الطارئة عرف الشيخ عمر بذكائه كيف يتعامل مع المعطيات الجديدة، وكيف يوفق بين سعيه الإصلاحي الذي دأب عليه، وبين واقع الحرب وما تمليه من حتميات.
وبعد الحرب استأنف الشيخ عمر مناشطه، وعاد إلى أداء واجباته نحو أمته ووطنه، ولم يقتصر عمله النوعي ونضالاته المخلصة على جمعية العلماء فحسب، بل كانت له أعمال أخرى في مجال الحركة الوطنية والتعاون من أجل المصلحة الوطنية مع قياديين من حزب الشعب؛ وهي المواقف التي أملاها عليه مقتضى الحال، ونهض بها بعد أن اقتنع بجدواها وبضرورتها واستيقن من مردوديتها على الوطن بالنصر، والدفع بقضيته السياسية إلى المواقع الموصلة للتحرر والمحققة لاسترجاع السيادة الوطنية؛ وقام بها أحسن قيام، ولم يكن يعنيه في قليل أو كثير سخط الساخطين أو نقد الناقدين ‪.‬‬
وفي هذا السياق نترك القلم للأستاذ محمد الشريف بغامي الذي تحدث عن هذه الحقيقة التي تُلْقِمُ المتهمين لجمعية العلماء حجرا، يقول الأستاذ بغامي: ((.. بالإضافة إلى نشاط الشيخ الإصلاحي والتعليمي التربوي المتسم دائما بصبغة السياسة، بث الوعي الوطني والتحسيس بأهمية العمل من أجل السيادة والحرية، وكان له نشاط ملحوظ في الأربعينيات بالتنسيق مع بعض قادة الحركة الوطنية في حزب الشعب (سى ابن بولعيد، سى الحواس..)، ولم يمنعه انتماؤه إلى الجمعية من النشاط المكثف لتحقيق أهداف الحركة الوطنية، وقد ساهم بفعالية في توعية الشعب للالتفاف حول المترشحين من أبنائه الصادقين في انتخابات 1947 ومنهم الشهيد مصطفى بن بولعيد، وقد أشرف الشيخ على أكثر من تجمع شعبي ومنه تجمع قرية مشونش حيث ألقى خطابا حَارًّا مُؤَثِّرًا ما زال أثره في نفوس من عايشه من الأحياء.. وذلك ما صرح لي به شخصيا، وما رواه لي أحد الأحياء (عمي مسعود مهري) شقيق الأستاذ محمد مهري المحامي..))
‪ ‬‬
معالم منهجه الإصلاحي:
‪ ‬‬
يمكننا بعد هذا العرض الوصفي التوثيقي السريع لمنجزات الشيخ عمر دردور أن نستخلص معالم منهج الإصلاحي المتمثل في التالي:
1 – العلم والمعرفة والوعي وإنشاء المدارس والمساجد والنوادي الإصلاحية الحرة.
2 – مقارعة الاستعمار بشتى الطرق والوسائل السلمية.
3 – الانضمام الفعلي لصفوف الثورة التحريرية.
4 – مواصلة المسيرة الإصلاحية والتغييرية بعد الاستقلال على كافة الأصعدة.
5 – الاضطلاع بالمسؤوليات الدينية والتربوية والتعليمة والثقافية..
6 – وضوح منهجه وخطه السياسي تجاه المشاريع والخطط التي اعتمدها النظام الجزائري.
7 – المشاركة والانخراط في كافة النشاطات والمشاريع الهادفة للرقي بالأمة الجزائرية.
8 – وقوفه الحازم والمبدئي في وجه التيارات التغريبية والبربرية والفرنكوفونية ودعاة الاشتراكية والمسخ والفرنسة والانسلاخ..
أخلاقه وصفاته:
يمكن وصف شخصية الشيخ عمر دردور من خلال من عرفه وتعامل معه بأنه شخصية أمينة وصارمة في الحفاظ على حقوق الأمة، ومتزنة وهادئة ورصينة ومتأملة ورانية بهدوء لكل ما يصادفها، كما أنه شخصية تتميز بالعفة والسلمية والترفع عن الدنايا والزهد في خشاش الأرض. والوطنية والاستماتة في خدمة العربية والإسلام والتعلق بالجزائر..
موقفه من أحداث الفتنة في الجزائر سنوات 1990-2000م:
‪ ‬‬
يمكن وصف موقفه من الفتنة التي وقعت في الجزائر من خلال الوثيقة التي سلمها لي كمقرر للجنة سماع رأي الفئات الشعبية في ولاية أوراس النمامشة، وقد جاء في الوثيقة التي ألقاها على الحاضرين، قوله في تشخيص الأزمة: ((.. الشعب يعيش أزمة اقتصادية وسياسية وثقافية وحتى عقائدية، بل وأمنية أيضا، وهي أخطرها. وكل ذلك أفقده الثقة في كل ما حوله من دولة وحكومة وإدارة. فالمطلوب الاتجاه إلى وسائل العلاج لكل هذه الأزمات، وكيف نعالج كل أزمة من هذه الأزمات المذكورة على حدة..))
مقدما رأيه بعد طرح حيثيات الأزمة فقال: ((.. أعتقد أن الآراء السديدة التي تقدم في هذا الصدد هي التي يحتاج إليها المنعقد حليا في الجزائر من أجل الحوار، وهي التي ينتظرها مثل هذا المجلس كمجلسنا هذا. فكيف نعالج الاقتصاد المنهار؟ وكيف نعالج فوضى السياسة؟ وكيف نعالج ثقافتنا وتربيتنا ونحررها؟))
وانطلق يركز على غياب الوعي الحقيقي وانتشار الفكر الفاسد بين عموم الناس في ظل غياب الأمن في البلاد فقال: ((.. وكيف نقتلع جذور الأفكار الفاسدة ممن يستعملها غطاء للثقافة، وهو يهدم الإسلام ولغة القرآن؟ والأهم من هذا هو معالجة الحالة الأمنية في الجزائر، لأنه من دون أمن لا وجود للاقتصاد ولا للسياسة ولا للثقافة..))
واضعا يده على جراحات الجزائر قائلا: ((.. وكيف نعالج العنف وقتل الأبرياء؟ وتخريب الاقتصاد الوطني؟ في رأيي يُسأل هؤلاء المتمردون ماذا يريدون؟ فإن زعموا أنهم يريدون إقامة الإسلام، فنقول لهم: ما تقومون به من قتل وتخريب وانتهاك للحرمات ليس هو إقامة الإسلام؟، بل هو هدم للإسلام..))
ثم يجيب على أولئك الخارجين على سلطة الدولة قائلا: ((.. وإن كان مطلبهم هو معقول كتحريم بيع الخمر للجزائريين، واختلاط الذكور مع الإناث في المدارس والجامعات مما يضاعف الأولاد غير الشرعيين في المستشفيات ودور التربية، فهنا لا بد من الكشف عن الخونة والمندسين وتقديمهم في التلفزة أمام الشعب. وإذا كان هذا هو مطلب المتمردين يطلب من السلطة أن تسمع لهم، وتستجيب بشرط أن يضعوا السلاح ويستسلموا للشريعة الإسلامية لتحقيق الصلح بين الطرفين، كما قال تعالى: “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين” صدق الله العظيم))
‪ ‬‬
شهادة تلامذته:
‪ ‬‬
وهذه شهادة أحد تلامذته فيه، إذ يقول الطالب الذي سيصير أستاذا ودكتورا متميزا في اللغة العربية وآدابها بلقاسم ساعي (1949-حي 2018م): ((..كانت مرحلة الطلب التي مكثتها في المعهد الإسلامي بباتنة من ربيع سنة 1963 إلى سنة 1967 مملوءة بالنشاط والجد، والفضل في ذلك يعود إلى الرجل العظيم والمدير القدوة فضيلة الشيخ عمر دردور الذي لم يكن قابعًا في مكتبه كعادة المديرين لكنّي ما أبصرته إلا متحركًا وسط الطلبة في حوار مع هذا وفي نُصح مع ذاك وفي تسجيل انشغال ما، مع ثالث، بطاقيته الشبيهة بطاقية الشيخ البشير الإبراهيمي وقشّابيته المغاربية. وأشهد للرجل أنّه كان يتابع كلّ صغيرة وكبيرة في المعهد كما كان كثير الارتياد لقاعة الأساتذة يسأل عن أحوالهم ويطمئن على وجود إبريق الشاي أمامهم. وكان من فضولي أنّي أرى السيارة التي تقلّ الأساتذة إلى المعهد قادمة من وسط المدينة تمرّ تقريبا كل أسبوع في يوم الراحة بمحاذاة المعهد باتجاه مدينة تازولت ولما سألت عن هذه الرحلة قيل لي بأن الشيخ عمر يرافق الأساتذة من أجل ضيافتهم في منزله وإكرامهم بوجبة غداء.
كان الشيخ عمر يقوم بالمهام التربوية والبيداغوجية أحسن قيام وأكثر من ذلك فقد كان ينسّق مع أغنياء المدينة ورجالها المحسنين لجلب الإعانات التي تُنْفق على الطلبة من إيواء وإطعام.
لم يكن الشيخ عمر دردور مدير مؤسسة فحسب لكنه كان صاحب رسالة وليس ذلك بغريب على تلميذ الشيخ عبد الحميد بن باديس. ومما لاحظته آنئذ وأدركته فيما بعد أنّ الشيخ عمر كان في بداية الإجازة (العطلة الشتوية مثلا) يلتقي بنا في المطعم ويتناول معنا وجبة العَشاء، وغالبا ما تكون هذه الوجبة مميّزة ينتهز فيها الشيخ عمر الفرصة ويُلقي فيها كلمة يوجهنا فيها لكيفيّة قضاء هذه العطلة ويؤكد على الدور الهام الذي يجب أنْ يلعبه طالب العلم في توعية أهله من أبناء القرية التي يقطن فيها، وكان يركّز كثيرا على دور الأخلاق والتربية، ويُحمّلنا المسؤولية في نشر ما تعلمناه من العلوم الشرعيّة في وسط أهلنا وأقاربنا من سكان القرى التي نرجع إليها في فترة العطلة.
وإن أنس لا أنس ذلك اليوم الذي غاب فيه أستاذنا الأزهري في مادة الفقه وتكفل الشيخ عمر بتعويض حصّته وأتذكر أنه جاءنا في الساعة الرابعة صباحا والزمن بداية الصّيف وشرع في الدرس بعد انقضاء صلاة الصبح مباشرة ودأب على ذلك عدة مرّات وهو الذي أكمل المقرّر واستوفى بقيّة الحصص ولما جاء موعد الامتحان هو الذي تكفّل بصوغ السؤال وبنائه بطريقة حديثة جدا ما كنا ندرك مغزاها. فقد كان السؤال العام يتشكّل من أربعين سؤالا جزئيا على طريقة هذا صح وهذا خطأ وهذا حلال وهذا حرام، وهذا يُجزئ وهذا لا يجزئ، وعرفنا فيما بعد أن هدف الشيخ كان تربويا محضا؛ لأنه يريد أن يمنحنا الاستفادة من أربعين مسألة فقهيّة وهي طريقة تربوية عالية المستوى تعمل بها المؤسسات التربويّة الحديثة حاليا..)).
كما عمل على ترميم وإصلاح وإعادة بناء زاوية ومسجد (الحمزة) من ماله الخاص، كما حبس جزءاً من أراضيه على المسجد والمقبرة، كما تبرع بأرض له بقرية بوزيزة لبناء مسجد ومدرسة وسكنات للمعلمين.
كما كانت له مشاركات أدبية ودينية وثقافية وتاريخية كثيرة، فكان يحضر الندوات والملتقيات واللقاءات، وكانت مشاركته فعالة في مناقشة وثيقة الدستور سنتي 1996-1997م. كما ربطته صداقات وعلاقات بالكثير من السياسيين الجزائريين كالرئيس عباس فرحات ولمين دباغين وأحمد فرنسيس ..
وبعد تاريخ حافل بالعطاء والتضحية والبناء أسلم روحه الطاهرة لبارئها يوم النصر 19/مارس/2009م 1433هـ عن عمر ناهز الخامسة والتسعين، وقد حضر جنازته الجموع الغفيرة من المعزين وأبّنه الكثير من الشخصيات والعلماء، وترك من خلفه ذرية صالحة، فليرحمه الله في الخالدين
شهادة الشيخ حسن رمضان فحلة في الشيخ عمر دردور:

في الجزائر ثانية أستاذا في معهد سيدي عقبة 1981م:
استقبل الشيخ حسن استقبالا حافلا في الجزائر بكل فرح وسرور من قبل الكثير من الإخوة الأكارم، وتكفلوا بجلب عقد العمل له من وزارة الشؤون الدينية ليصير الأستاذ حسن أستاذ للعلوم الإسلامية في معهد الإطارات الدينية في سيدي عقبة بمدينة بسكرة.
يروي الشيخ وقائع وصوله إلى الجزائر بقوله: ((.. وزادوا في إكرامهم لي بأن أخذوني في سيارة خاصة إلى سيدي عقبة، وطلبوا مني عدم ذكر أسمائهم، لأنهم فعلوا ذلك مرضاة لله تعالى. وفي المعهد لقينا الرجل الفاضل المؤمن المجاهد أحد رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وهو الشيخ عمر دردور رحمه الله رحمة واسعة، وجعله في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. فرحَّبَ بنا، وأخذني إلى غرفة خاصة للمبيت ضمن الغرف المعدة للأساتذة..)).
وكانت إقامة الشيخ حسن مريحة وطيبة في رعاية مديره الشيخ عمر دردور، حيث استأنف العمل في العام الدراسي 1981-1982م، في شهر ديسمبر 1981م صحبة فريق من الأساتذة المصريين والتونسيين، وهناك طلب منه الشيخ عمر دردور مدير المعهد أن يعينه على التسيير الإداري بجانب التدريس، مستفيدا من خبرته في الإدارة التربوية، وليكون المعهد قويا، ويستطيع تحقيق كل أهدافه القريبة والبعيدة من إنشائه.
وفي الـ 31/ديسمبر/1981م حضر ولداه أمجد وأنس إلى الجزائر قبل التحاق بقية أفراد الأسرة لمتابعة دراستهما في المدرسة الجزائرية، ولقيا كل حفاوة وتكريم من مدير المعهد الشيخ عمر دردور، الذي سارع إلى ضمهما ليسكنا مع والهما في الغرفة نفسها، وقام بتسجيلهما في مدرسة سيدي عقبة الإعدادية، ولقي الشيخ حسن وابناه كل تقدير واحترام من مدير المعهد الشيخ عمر دردور، وعمل الشيخ حسن بجد ونشاط، وهو ما بين تدريس وإمامة وتعليم ووعظ وإرشاد ونصح وتوجيه وتسيير وإدارة لتكوين أئمة المستقبل الذين سيؤدون واجبهم الشرعي على أكمل وجه في المستقبل، وكان الشيخ عمر مسرورا من أداء الشيخ حسن الإداري والتعليمي، نظرا لتكوينه العلمي والإداري القوي.
استشهاد زوجته وأبنائه في مأساة حماة 1982م وموقف الشيخ عمر دردور:
‪ ‬‬
ومع حلول شهر جانفي 1982م بدأت الأوضاع تأخذ بعدا دراماتيكيا فتسارعت الأحداث الأمنية والسياسية واشتدت حدة المواجهات بين النظام وفصائل حركة الإخوان المسلمين في مختلف أنحاء سورية وبالخصوص في مدينة حماة المحاصرة والمطوقة بالنخبة القوية من الجيش السوري، ولم يكن الشيخ حسن يعلم ما يدور من وقائع وأحداث في سورية بشكل دقيق ومفصل، إلاّ أن جاءه يوما الشيخ عمر دردور وأخبره عن حال أهله وأسرته وبلده ومدينته حماة، وكان الشيخ عمر ينصت كل مساء إلى إذاعة لندن ليعرف أخبار العالم من خلال نشراتها الإخبارية، وفي الفاتح من شهر مارس وبعد الانتهاء من الدوام الرسمي لذلك اليوم أخبره الشيخ عمر بأنه سمع من صوت الإذاعة البريطانية بلندن بأن ثورة كبيرة قائمة في مدينة حماة، وأن الجيش السوري نصب أسلحته الثقيلة وصواريخه على قلعة المدينة، وهي ترمي بحممها على أحياء المدينة، حيث يسكن الشيخ حسن وما تبقى من أسرته (زوجته وخمسة من أبنائه) الذين ما زالوا لم يلتحقوا به للجزائر بعد. وهنا رفع الشيخ عمر دردور يدبه إلى السماء وسأل الله أن يفرج على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن وقائع تلقيه نبأ استشهاد زوجته وأبنائه وتدمير منزله كتب الشيخ حسن: ((.. وفي اليوم التالي سألني الشيخ عمر قائلا: هل سمعت خبرا عن أهلك؟ فقلت له: لا. فقال لي: اِذهب إلى غرفتك واطلبهم بالهاتف للاطمئنان على حالهم وصحتهم. وكان من المعتاد في البريد أننا إذا طلبنا الاتصال بالهاتف الخارجي يكون الاتصال في اليوم الموالي، ولكن الذي حدث أن موظف الهاتف قال لي: انتظر قليلا كي أُصلك بأهلك بسرعة، وفعلا بارك الله فيه وفي أمثاله من الطيبين، فقد جاء الرد سريعا وبعد عشرين دقيقة. طلبت منزلنا فما من مجيب. قال الموظف: أعطني رقما آخر، فأعطيته رقم بيت عمي ظنا مني أن زوجتي وهي ابنة عمي قد تكون عندهم، ولكن ما من مجيب. ثم قال لي الموظف الحنون الذي كان قلبه عامرا بالشفقة والرحمة: اُطلب رقما آخر. فطلبت رقم بيت أختي التي كانت تسكن في الحي نفسه، فردت عليَّ أختي –رحمها الله تعالى ت 2015م- فسألتها عن أحوال زوجتي وأبنائي وسائر أفراد الأسرة والعائلة، وما الذي جرى لهم، إذْ لم أتلق اتصالا أو ردا من أحدهم البتة، وهو ما زاد مخاوفي وضاعف قلقي.. وفي بداية المكالمة سمعت صوت بكائها ونحيبها، وهي تقول: يا أخي كن كما عهدتك مؤمنا صابرا محتسبا، أجرك على الله تعالى. وإن من ينظر إلى مصيبة غيره تهون عليه مصيبته، وإذا عمت المصيبة على الناس كان وقعها أخف عليهم.. وغيرها من تعابير المواساة. وهنا طلبت من شقيقتي أن تحدثني بكل شيء، وهي التي ربتني ولها فضل علي، الرجاء أن تحدثيني بكل تفصيل. فعادت المسكينة تطلب مني التأسي بسيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لها: آمنت بالله تعالى وبمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حدِّثيني عما جرى في البداية لزوجتي وأولادي، ثم لأخي وأهله وأولاده، ثم لأختي وأهل بيتها الذين كانوا يقطنون في منزل بجوارنا. فقالت: اُطلب الرحمة والمغفرة من الله جلَّ وعلا. وطلبت منها التفصيل فقالت والحشرجة تعلو صوتها الخافت: الرحمة من الله تعالى على زوجتك وأولادك الأربعة. وعلى أخيك وأولاده السبعة. وعلى أختك وزوجها وأولادهما وحفيدهما فصاروا عشرة شهداء. استشهدوا كلهم جميعا في غرفة واحدة رميا بالرصاص، مع أسرة أخرى من الجيران..)).
وهنا وقعت سماعة الهاتف من يد الشيخ حسن، وسقط المسكين المكلوم الحزين المظلوم على الأرض مغشيا عليه، وما درى بنفسه إلاّ وهو متمدد في سرير مصحة المعهد، والشيخ عمر دردور رحمه الله يواسيه ويداويه وينعشه بالأدوية، ويهدىء من روعه ومصيبته، وأقام له واجب عزاء في المعهد احترام لاستشهاد أسرته.
مواصلة العمل في المعهد مع الشيخ عمر دردور:
‪ ‬‬
ثم واصل الشيخ حسن العمل مطلع العام الدراسي 1983-1984م في المعهد الإسلامي بجد ونشاط في ظل إدارة وتعاون الشيخ عمر دردور وطاقمه الإداري والتربوي من أساتذة المعهد، وفي هذه السنة أكرمه الله بمولود ذكر أنجبته زوجته الثانية وسماه على اسم ابنه الشهيد (أحمد).
وفي هذا العام الدراسي اجتمع أساتذة المعهد وقرروا إقامة صلاة الجمعة في المعهد يقوم بها أحد الطلبة كتدريب عملي وتطبيقي على ممارسة الخطابة، وقد كتب الشيخ حسن عن تجربته التربوية والتعليمية والدعوية تلك فقال: ((.. حتى أنني بالاتفاق من الأستاذ الشيخ “إبراهيم يوسف” وبموافقة الإدارة عزمنا على إقامة صلاة الجمعة في مسجد المعهد، إذْ كنا نكلف طالبا بالقيام بمهمة إعداد درس الجمعة وتقديمه، ونكلف طالبا آخر بتحضير خطبة الجمعة وإلقائها على جمهور الحضور من الطلبة والأساتذة والإداريين، وبعد الانتهاء من الصلاة نقوم بالمناقشة والنقد وبيان مواطن القوة والضعف في جهد الطالبين، وتعليم الطلبة الكثير من الفنيات والآليات التربوية والتعليمية والدينية والدعوية.. وكيفيات التبليغ والخطابة والتأثير.. وكانت التجربة مثار إعجاب وتشجيع من قبل الطاقم الإداري والتربوي، ولكن هذا المشروع لم يكتب له الاستمرار لتعصب وتعنت وتعالم وتفيهق بعض أدعياء العلم من صغار الطلبة، الذين اعتبروها مخالفة شرعية، واشتكوا إلى وزارة الشؤون الدينية الأمر، ما جعلها تحظر علينا الاستمرار في هذا المشروع الدعوي الناجح..)).
‪ ‬‬
إلغاء عقد العمل والتفكير في الهجرة للغرب:
‪ ‬‬
وأُسقط في يد الشيخ حسن، وتعقد عليه الأمر، إذْ إن جواز سفره قد انتهت صلاحيته، والسفارة السورية بالجزائر لم تجدد له جوازه إلاّ لمدة قصيرة ليعود إلى سورية. من أجل تدبير أمور تأديبية من النظام تجاهه، وليس له ذنب سوى أنه من مدينة حماة، ومن أهل السنة والجماعة فقط.
وفي هذه الظروف الحرجة زاره في منزله الشهمان الفاضلان الشيخ (عمر دردور) والشيخ (جمال الدين ميهوبي) وطمأنوه بمحاولاتهم تجديد عقده وشرح وضعيته الحرجة للوزارة علّها تستثنيه وتسمح له بالبقاء للعمل في الجزائر.

الخاتمة:
‪ ‬‬
عرضنا في هذه العجالة نبذا من سيرة وحياة ونضال الشيخ عمر دردور في ثلاث مراحل من حياته، الأولى من ولادته حتى اندلاع الثورة التحريرية، والثانية أثناء الثورة التحريرية، والثالثة ما بعد الاستقلال إلى وفاته ومنجزاته الكثيرة لأمته ووطنه ودينه ولغته، فليرحمه الله في الخالدين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى