أقلام

الشيخ محمد علي دبوز

إسهامات في حفظ التراث التاريخي والثقافي للجزائر

عبد المجيد رمضان

في هذا الشهر المجيد، شهر البطولات والتضحيات الذي يصادف ذكرى وفاة الشيخ محمد علي دبوز في 13 نوفمبر 1981، نتوقف لاستذكار مسيرة هذا الرجل وأثره العميق في التاريخ الثقافي والتربوي للجزائر‪.‬‬
يعد الشيخ محمد علي دبوز من بين أبرز الشخصيات الإصلاحية والعلمية في البلاد، تميز بشغفه بالمعرفة وحرصه على نشرها، فتلقى علومه في مدارس ومعاهد الجزائر، وتعمق في مجالات الأدب والشريعة والفلسفة في تونس ومصر. وكان لعودته إلى الجزائر دور كبير في إحياء الحركة العلمية، حيث قام بتدريس الأجيال وإثراء المكتبات بمؤلفاته، إضافةً إلى تأسيس مكتبة “الصفاء” التي لا تزال مصدر إشعاع ثقافي حتى اليوم‪.‬‬

نشأته

ولد محمد بن علي بن عيسى دبوز ببريان بولاية غرداية عام 1337 هجري / فبراير سنة 1919، نشأ وترعرع تحت رعاية أبوين اعتنيا به وربياه تربية إسلامية صحيحة فغرسا فيه حب العلم والعلماء والأخلاق الحميدة والروح الدينية والوطنية، وكان أبوه من أبرز مؤسسي الجمعية الخيرية في بريان سنة 1927‪.‬‬

دراسته

في سنة 1928 بدأ الدراسة في المدرسة القرآنية عند افتتاحها وهي مدرسة الفتح، ودرس على الشيخ صالح بن يوسف أبسيس، وفي سنة 1934 توجه إلى القرارة لمواصلة الدراسة فتتلمذ على يد الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض والشيخ عدون، وما لبث أن استظهر القرآن الكريم، ثم في سنة 1935 انخرط في معهد الحياة بالقرارة، وكان من أبرز وأنجب تلامذته، وتشهد له مجلة “الشباب” وتحفظ له الكثير من مقالاته المطوَّلة وفصوله الأدبية الرفيعة‪.‬‬
في شهر شعبان من سنة 1944 بعد تخرُّجه من معهد الحياة، أرسله والده وأستاذه الشيخ بيوض إلى تونس ليلتحق بجامع الزيتونة ومعهد ابن خلدون، فدرس فيهما الكثير من الكتب القيِّمة في كثير من الفنون كالأدب والشريعة والفلسفة. ومن تونس، انتقل في شهر شعبان من سنة 1946 إلى مصر برًّا، متنكرا متخفيا عن الاستعمار وهو لا يحمل جواز سفر، حتى بلغ مصر بعد ستَّة وعشرين يوما سيرا على الأقدام‪.‬‬
وبعد دخوله مصر توجَّه إلى كلية الآداب بجامعة القاهرة، ورحب به الدكتور عبد الوهاب عزام عميد الجامعة، حيث أبدى إعجابه باهتمامه ونباغته. وفيها درس على كبار أساتذتها الأدب وتاريخه، والتاريخ الإسلامي والفلسفة، كما انكبَّ على أمَّهات الكتب في دار الكتب المصرية، فدرس كتبا قيمة في الأدب، والتاريخ، وعلم النفس، والتربية والعلوم الاجتماعية، وأصول الفقه وفلسفة التشريع، والفقه والحديث. وبقي في القاهرة حتى سنة 1948 إذ رجع إلى الجزائر بعد أن نال بغيته من العلم هناك‪.‬‬
عودته للجزائر

بعد رجوعه من القاهرة إلى الجزائر، اختاره معهد الحياة مدرِّسا فيه لمادتي التاريخ والأدب، ثم أضاف إليهما التربية وعلم النفس، وقد كانتا مادتان مجهولتين لا يعرفهما المعهد قبل ذلك، وقضي في تربية النشء وتكوين الأجيال ما يقارب ثلث قرن، أي حتى آخر جوان 1981. وقد سعى سعيا حثيثا للتعريف بالمعهد داخل الوطن وخارجه، وكابد من أجل أن تعترف الجامعات المصرية بشهادة المعهد، فتمَّ له ذلك بعد عدَّة محاولات مضنية في شهر جانفي 1963. تخرَّجت على يده أفواج من الطلبة والباحثين، مـمَّن كانت لهم مراتب رفيعة في المجالات الفكرية والسياسية، خارج الوطن وداخله‪.‬‬

إنتاجه الفكري

بداية من سنة 1950، تصدى الشيخ محمد علي دبوز للتأليف وأصدر أحد عشر كتابا في التاريخ الجزائري والإسلامي. جمع مادتها العلمية من المكتبات، ومن أفواه العلماء بصفة خاصة، فقد كان يقوم بجولات عبر الوطن وخارجه لهذا الغرض. أصدر “تاريخ المغرب الكبير” في ثلاثة أجزاء، تناول فيه الأحداث التاريخية من العصر الحجري إلى الدول الإسلامية المستقلة في المغرب الكبير‪.‬‬
وأصدر كتاب “نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة” في ثلاثة أجزاء، حيث تناول فيه مراحل النهوض الوطني الجزائري وأحداث الثورة التحريرية، مقدماً تحليلاً دقيقاً لتطورات الحركة الوطنية وجهاد الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، كما سَلط الضوء على الأبعاد الفكرية والسياسية التي أدت إلى اندلاع الثورة وأثرها على بناء الجزائر المستقلة. وقد ورد في مقدمة الكتاب تأكيده على دور نهضة الجزائر الحديثة مبينا أنها “أسفرت عن ثورتها المباركة، وجهادها للاستعمار الفرنسي الصليبي الغشوم في الميادين الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، تلك المعارك الكبرى التي سقط فيها الشهداء كثيرون، وقدمت فيها الجزائر تضحيات كبرى، واستمرت قرنا كاملا من الزمان، وكان النصر فيها حليف الجزائر، فاستطاعت أن تثور فتتحرر، ولولا انتصارها في جهادها الأول للاستعمار، سيما في الميدانين الاجتماعي والثقافي، ما استطاعت أن تزحزح أقدام المستعمرين التي كانت تطأ على رقابها لتزهق أنفاسها، وما تكونت فيها تلك الطاقة الجبارة التي صارعت فيها المستعمرين الأقوياء في ثورتها فصرعتهم‪”.‬‬
وعن دوافع اهتمامه بهذا التأليف تحديدا، يضيف الشيخ محمد علي دبوز أن المستعمرين الفرنسيين كانوا يحاربون تاريخنا القديم منه والحديث، ويمنعون أبنائنا من كتابة تاريخهم فيكتبونه كما يريدون، فيصوّرون ماضينا لنا كما تسوّل لهم أحقادهم الصليبية وعداوتهم الموروثة، وكما تريد أغراضهم الاستعمارية. فكانت كتبهم مملوءة بالأكاذيب والأغلاط والسموم، فأضرت بأبنائنا في مدارسهم الاستعمارية، وأضرت بكتّابنا ومدرّسينا الذين يعتمدون عليها في التأليف والتدريس، وبالمؤلفين المدرسيين من إخواننا المشارقة الذين يتوقون إلى معرفة تاريخ الجزائر الحديث فلا يجدون إلا تلك الكتب الفرنسية، فيعتمدون عليها، فيرون الأمور كما يريد الاستعمار‪.‬‬
وألف الشيخ دبوز أيضا كتاب “أعلام الإصلاح في الجزائر من 1921 إلى 1974″، وهو عمل موسوعي من خمسة أجزاء، يعرض فيه سيرة وأثر الشخصيات البارزة التي ساهمت في حركة الإصلاح السياسي والاجتماعي في الجزائر خلال النصف الأول من القرن العشرين‪.‬‬
وله إلى جانب ذلك عدة مؤلفات مخطوطة: تاريخية وأدبية ونقدية وتربوية ومسرحيات، وله عشرات المقالات نشرت بمجلتي “الشباب” لمعهد الحياة و”البصائر” لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين‪.‬‬
وبهذه الأعمال الجليلة، يكون الشيخ دبوز قد ساهم في المحافظة على الهوية الثقافية والتاريخية للجزائر، وعمل على توثيق تاريخنا الوطني وإبراز تراث الجزائر من خلال مؤلفاته، فساهم في حماية التراث الثقافي والديني والتاريخي للجزائر من الضياع، ونقله للأجيال القادمة‪.‬‬

تأسيسه لمكتبة “الصفاء‪”‬‬

أنشأ الشيخ محمد علي دبوز في حياته ببريان مكتبة ثرية غنية بالوثائق المصورة والمسجلة حافلة بأمهات الكتب سميت بمكتبة “الصفاء”، تيمنا بأبرز خصائل الشيخ دبوز وبأهم ما يكون يدعو إليه بقوله ” إن صفاء القلوب والنفوس من الأحقاد والضغائن هو سبب كل النعماء، فما ساد في أمة إلا وسادت في كل ناحية وبلغت كل مراد‪”.‬‬
تم تدشين المكتبة يوم الجمعة 02 ربيع الأول 1419هجري يوافق 26 جوان 1998م، من طرف الشيخ عـدون رحمه الله، بحضور مشايخ وأساتذة وأصدقاء وطلبة الشيخ محمد علي دبوز‪. ‬‬
من أهدافها تنمية مهارة القراءة والبحث للطلبة والطالبات، غرس ثقافة القراءة والتنمية الذاتية لدى أفرد المجتمع من خلال الأنشطة العلمية التي تنظمها، تهيئة بيئة إيجابية للدراسة والبحث وتطوير الخدمات التي تقدّمها لروادها، توفير تراث الشيخ محمد علي دبوز للباحثين من أجل دراستها والاستفادة منها، وتنشيط الحياة الثقافية في المجتمع بإقامة برامج علمية ودورات تكوينية‪.‬‬

وفاته

دام الشيخ محمد علي دبوز في جهاده إلى أن توفي في مسقط رأسه مساء يوم 16 محرم 1402 الموافق لـ 13 نوفمبر 1981 حضر جنازته جمع غفير من المشايخ والأساتذة وتلامذته وأصدقائه. وبذلك اختتم مسيرة حياته الحافلة بالعطاء، تاركا وراءه إرثًا ثقافيًا وعلميًا خالدا، ومثّلت مسيرته نموذجًا يُحتذى به في حب العلم والإخلاص للوطن، حيث قدم كتبًا ومؤلفات تجمع بين العلم والتاريخ والدين، إضافة إلى مكتبة “الصفاء” التي أصبحت منارة للعلم والمعرفة. لقد بات يستذكره أهل مزاب والجزائريون عامة اليوم بفخر، عرفانًا بعطائه ودوره الريادي في نهضة الجزائر العلمية والفكرية. رحم الله الشيخ محمد علي دبوز وأسكنه فسيح جناته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى