
بقلم :أ/الأخضر رحموني
(مذكرات مجاهد من الأوراس ) عنوان كتاب المجاهد محمد الوردي قصباية المعروف خلال الثورة التحريرية المباركة باسم الوردي سُليماني. الصادر خلال سنة 2017 و يقع في 310 صفحة من الحجم الكبير .حاول الكاتب التأريخ لمسيرته الجهادية منذ التحاقه بالثورة التحريرية إلى غاية الاستقلال سنة 1962 ،هذه المرحلة يعتبرها أهم و أعز و أحلى أيام قضاها في حياته ،مع التركيز على أبرز الأحداث من معارك و اشتباكات و كمائن حضرها و عايشها في الجبال.
جاءت هذه المذكرات كإضافة نوعية في رصيد مكتبة التاريخ الوطني التي هي بأمس الحاجة إلى شهادات الرجال الذين صنعوا الأحداث من أجل حفظ الوقائع في الذاكرة و تدوينها للأجيال الصاعدة.
و بمناسبة الذكرى 70 لثورة أول نوفمبر 1954 نتوقف عند شهادته المهمة في حق شيخه الفاضل نعيم النعيمي أحد رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين و الذي يعتبر المجاهد محمد الوردي قصباية أحد تلامذته ،حيث تلقى عليه العلوم بمدرسة سطر الملوك بمدينة بسكرة التي فتحتها شعبة الجمعية تحت إشراف الشيخ محمد خير الدين من سنة 1945 إلى سنة 1947.
كتب يقول / وأتشرف كثيرا في أن تضم مذكراتي في سطورها اسم الشيخ نعيم النعيمي ـ وما أدراك ما الشيخ النعيمي علما وتعليما وجهادا /
ثم سرد في الصفحات من 64 إلى 71 من الكتاب تفاصيل لقائه في الجبل بالشيخ النعيمي الذي ساهم في نشر الحركة الإصلاحية بمنطقة الحضنة ،و أطلق على نفسه بعد التحاقه بالثورة في جبال الأوراس اسم (صالح منصور) تفاؤلاً منه بالصَّلاح والنَّصر على أعدائه،وجرح في إحدى المعارك بجروح بليغة ،ممَّا اضطرَّ قادة الثورة نقله على مراحل إلى تونس للعلاج. ثم كلف من طرفهم القيام بمهام الإرشاد و التوجيه في أوساط اللاجئين.
اللقاء كان بالصدفة في ناحية كيمل بالأوراس خلال خريف سنة 1957..يقول:/
كان الشـيخ النعيمي مجاهـدا مـنذ سـنة 1956 بالمـنطـقة الـثالـثة الـتابعة للولايـة الأولى التاريخية بالأوراس التي كان يقودها الضابط الثاني أحمد بن عبد الرزاق المعروف ب(سي الحواس)،و التي تحولت إلى الولاية السادسة بعد قرارات مؤتمر الصومام.وكان قد بعثه رفقة مجاهدين اثنين و هو راكب على ظهر بغل لأنه لا يطيق السير على قدميه في تلك الجبال الوعرة. أوصلاه إلى مركز المجاهدين بناحية كيمل بالمنطقة الثانية لتتولى بدورها توصيله إلى تونس للاتصال بقيادة الثورة التحريرية إداريا والمتواجدة هناك ، و صادف أن كنت في تلك الأيام متواجدا مع فوج من المجاهدين بجهة (القصباية) في مهمة انتظار قافلة من الجمال المحملة بزاد من التموين.
لكن دورية من مركز جيش التحرير المتمركز بواد غسكـيل أعلمتـنا أن مسـؤول المركز يطلبني شخصيا للقدوم بهدف حضور اجتماع بقيادة الضابط الثاني عمار عشي ، وأعلمتني الدورية بأن الشيخ النعيمي حل عندهم. سررت بخـبر وجـود الشـيخ فأسرعت بمرافـقة أربعة مجاهـدين للاتصال بالمكان لحضور الاجتماع من جهة ،و ملاقاة أستاذي الشيخ النعيمي من جهة أخرى. المسافة التي نقطعها مشيا كانت حوالي أربعين كيلومتر. وصلنا قبل طلوع الشمس . و بمفاجأة و دهشة كبيرتين رأينا الشيخ النعيمي ملتفا في برنوسه مستندا على جذع نخلة. اعترتني الهـيبة التي تعـتري طالب العـلم لما يرى بغـتة شيخه المعلم فـناديته :
الشيخ النعيمي.. يا للفرحة و يا للفرصة السعيدة..
سمع صوتي وعرفني و قال :
أنت الوردي… (بترقيق حرف الراء) كما كان يناديني أيام الدراسـة.
لما عرفني حاول أن يقف وهو يكرر: أنت الوردي، الوردي، ..
رجوته أن لا يقف لنا، بل نحن الذين نجلس له احتراما و تقديرا.لكنه رفض وأصر على الوقوف .فكررنا تحيته طالبين منه أن يدعو لنا بالنصر و التوفيق .ثم جلسنا معه في حلقة بكل تواضع و وقار، و كررنا شكرنا له، ومن جهته قال :
أنكم منصورون و سوف تتغلبون على هذا العدو اللئيم في أقرب وقت إن شاء الـله ، و قد وعدنا الـله بذلك حيث قال : ( إن تنصروا الـله ينصركم و يثبت أقدامكم) ، وقال أيضا (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)،
ثم رفع يديه بالفاتحة و رفعنا معه أيدينا و دعا لنا بالنصر المبين، ثم ناولناه قدحا مملوء بعسل مصفى، فشكرنا على هذه الهدية الثمينة كما قال: من أين هذا الخير كله ! .
ثم قدم لنا بدوره عمارته الممتلئة بأطراف كثيرة من الكسرة اليابسة كان يحتفظ بها احتياطا من الجوع في هذا السفر الشاق و الطويل.وربما تضطره ظروف الثورة لأن يصبح في عزلة عن الإخوة المجاهدين ، شكرناه على هذا التكريم الصباحي .و تناولنا الفطور الحلو معا.وإذ نحن نأكل بشراهة ونتحاكى فإذا بطائرتـين كاشفـتين تحومان في انخفاض فوقنا . فكشفتنا ثم تعالتا مستنجدتين .وفي الحين كانت حوالي أربعة عشرة مقنبلة تحلق فوقنا بشكل دائري .وأخذت بقنبلتنا بشدة بالصواريخ والقنابل المدمرة .فأسرعنا بالشيخ لتخبئته في أي كهف يمكن أن يكون فيه سالما، وأذكر أنني أدخلت الشيخ في كهف صغير في الوادي محاطا بصخور كبـيرة .
أدخلـته هو الأول وكـنت أنا على مدخل الكهف ،وفي نيتي إن قدر إصابتنا أكون الضحية وينجو هو ،و سبحان الـله فقد كان الشيخ شجاعا يتسخط على الطائرات بشعـر ويقول :
مالك يا صفراء تنعقين نعق الغراب…، سوف يسقطك المجاهدون الأبطال فوق التراب …،
و يطلب مني في كل حين أن أسمح له بالـنظر. لكنني كنت أمـنعه من ذلك خوفا عـليه من الإصابة بمكروه. و فعلا صدق الشـيخ فـقد تمكـنت فصيلة من المجاهـدين مرابطة تحرس من فوق إحدى القمم من إصابة إحدى الطائرات.و راحت تطلق وراءها الدخان في الجو لتسقط قريبا من منطقة زريبة الوادي.
عندما هدأ الجو بعد انسحاب كل الطائرات من موقع المعركة ، بدأ الجيش يتفقد أحواله.و الحمد للـه أننا كنا سالمين إلا من بعض الجروح الخفيفة ، أما الشيخ النعيمي فلم يصب بسوء لكنه خسر بغله حيث قتلته قنابل الطائرات مع ثلاثة بغال أخرى لجيش التحرير، فاحترت كيف أخبر الشيخ بخسارة بغله وهو أحوج ما يكون إليه في سفره إلى تونس .وقد كان قبل قليل يعبر عن فرحته بهذا النصر ،ويحمد الـله على سـلامة المـجاهـدين ويـقدم لـهم التـشكـرات على بـطولتهم وإسـقـاطـهم للطائرة ، توجهت إليه وقلت له :
للأسف الشديد إن مركبكم أي البغل قد خسرناه مع ثلاثة بغال لـنا. كان الشيخ واقفا ثم جلس و هو يقول :
لا حول ولا قوة إلا بالـله… فشجعته قائلا :
لا تقلق أيها الشيخ المحترم سوف نتدبر الأمر ونجد لك مركبا آخر ،و ستصل إلى الحدود حيث تقصد إن شاء الـله …
فرد متأسفا و متحسرا :
لكن من أين تأتونني بمركب آخر ونحن في هذه الغابة ولا سكان فيها ؟ .أجبته مشجعا : كنت يا أستاذنا المحترم شجاعا كما نعرفك وكما علمتنا ،وقد كنت دائما تقول لنا الـله معنا ،فكن على يقين أنك تواصل مسيرتك بسلامة إن شاء الـله .
فقال : صحيح الـله معنا، حاول أن تجد لي راحلة أخرى وحسنا فعلت والـله معنا..
توجهت إلى الضابط عمار عشي وحدثته عن حالة الشيخ.
فرد بلغة الأمر :لا تقلق على الشيخ ..سوف نجد له راحلة في أقرب وقت ،فليصبر علينا يوما أو يومين وكن بجانبه وشجعه .
وفعلا رجعت إلى الشيخ و قلت له : سوف نجد لك راحلة وتمضي في طريقك قريبا إن شاء الـله ،فأظهر الشيخ شيئا من السرور و قال :
إيه يا الشيخ الوردي .. و لكن لا تقل بغلي مات، بل قل إنه مات في المعركة مع الأبطال المجاهدين .
أضحكنا جميعا بمقولته هذه اللطيفة والظريفة .وفعلا وفى الضابط الثاني بوعده، ففي صبيحة اليوم الثاني من الحادثة أوجد له بغلا ليواصل رحلته برفقة مجاهدين من مركز إلى مركز آخر حتى وصل إلى القيادة بالحدود التونسية الجزائرية سالمـا. /
هذه الشهادة التي حاولت نقلها بأمانة و باختصار تؤكد الاحترام و التقدير الذي كان يحظى به علماء جمعية المسلمين لدى قادة الثورة التحريرية .خصوصا و أنها بقلم المجاهد الشيخ محمد الوردي قصباية الذي اشتـغل في التعليم المسجـدي بصفـته من المعلـمين الأحـرار لجمعية العـلماء المسلمين الجزائريين ،حيث تتلمذ على يديه عدد من الشهداء و المجاهدين الذين انضموا إلى ثورة التحرير منذ تفجيرها ، و بدأ عمله بالتدريس سنة 1948 في بلـدة الولجة التابعة لولاية خنشلة بأمر من الشيخ العربي التبسي أين أسس مدرسة ( اليقين)، و في سـنة 1949 انتقل إلى بلـدة الحـوش بطلب من جمعيتها الخيرية ليواصل تعـلـيمه و تربية النشء لـمدة سبع سـنوات.
بدأ نضاله السياسي مبكرا بنشر الوعي الثوري و الجـهادي في أوساط الشباب ،و المساهمة في جمع السلاح ببلدة الحـوش وما جاورها في سرية تـامة.
بعد تفجير الثورة سنة 1954 مباشرة ، قام و شقيقه إبراهيم بتجنيد عدد من الشـباب من أبناء عرشه – أولاد عبد الرحمان اكباش -، و تقلد فيها عدة مسؤوليات .
ستكون لنا وقفة للتعريف بحياته و مسؤولياته خلال الثورة و بعد الاستقلال بالتفصيل لاحقا.