
الصحافة عرفت منذ عهود قديمة ومنذ أن أصبح للإنسان غريزة حب الاطلاع, فقد بزغ نورها في الصين على فضاء مُخْصِبٌ في كل المجالات, تُدَعمه الطبيعة الغناء الملمة بكل أنواع الزهور والنباتات, محطُّ انتباه البشر من أدباء وشعراء وحكماء, وملهمتهم في تطويع الكلمات وعجنها وبعثها في حلة جديدة على شكل نغمات سحرية تدغدغ القلوب وتزيد لخفقانها قوة ومتعة, لأن الورود والزهور تبقى أفضل الوسائل للتعبير عن الحب والإعجاب والإبداع والخلق, وتصفية الذات البشرية من الشوائب السلبية وترسبات القلق ومتاعب الحياة, وقد كان هذا البزوغ على شكل جريدة رسمية سميت ( إمبراطورية الشمس) ودام وهجها وعطاؤها 1500 سنة دون توقف, من خلال هذه التسمية الشاملة الكاملة والتي كانت في محلها, ندرك أهمية الصحافة ودورها في المجتمع, فهي حقيقة شمس المجتمع بكل ما في دفئها من تنوع وفوائد, تشرق لتنشر نورها المفعم بالحب وتغرب لتبدأ من جديد في زرع السعادة, صانعة هالة من الشاعرية و الأمل, اختصرت كل الجمال في لوحة بانورامية باعثة للارتياح .
الصحافة مهمة تنويرية, توعوية وتربوية , تزود الجماعات والأفراد بما يحتاجونه من فوائد ومعلومات, والتي تدخل في صلب انشغالاتهم اليومية وتطلعاتهم للمستقبل, كما تساهم في صنع القرار والتحفيز عليه, كما لها بعد آخر قد غفل عنه الكثير, وهو التشجيع والإسهام في بناء أجيال واعية قادرة على تحمل المسؤولية وخوض غمار المستقبل, ونشر المعرفة والثقافة والفكر الإيجابي وخلق ترابط بين الشعوب, يخدم التواصل المعرفي والثقافي العام بما فيه من إرث حضاري و تنوع في العادات والتقاليد, ويساهم في تماسك الألفة وتمكينها, فتطور الصحافة يعتبر نهضة حقيقية تسهم بفاعلية في تقدم الشعوب, فهي التي تجعل من العالم قرية صغيرة, كما أن الدول النامية والمتطورة تولي أهمية كبيرة للصحافة وتدعمها ماديا ومعنويا لتزيد لتأثيرها انتعاشا, وتعد مهنة الصحافة من أصعب المهام وأنبلها, فقد تنوعت وكانت جامعة واجتماعية,أدبية,سياسية وفنية, وزاد تدفقها لتصبح من أساسيات الحياة, بحسها تنتعش كل الدواليب وبصمتها تنطفئ ويحتويها الركود.
وقد عرف العالم العربي صدور أول صحيفة بعنوان التنبيه سنة 1800 بمصر, في ظل الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت, كما عرفت الجزائر صدور جريدة المبشر سنة 1847 من طرف المستعمر الفرنسي, بقرار من لويس فيليب, ومن هنا دخلت الجزائر عالم الصحافة الذي كان أجنبيا لغة وفكرا ومعتقدا وأهدافا, الرامي أساسا إلي طمس الهوية الجزائرية وتزوير الأحداث التاريخية, وزرع سياسة تحطيم أساسيات البنى الاجتماعية وخلخلة نسيجها ومقوماتها الأصلية والقضاء على الدين الإسلامي و تدجين الشعب الجزائري و إفراغه من أصالته وامتداده الحضاري العريق, ورغم كل هذه الهمجية الاستعمارية المقننة إلا أن الصحافة الجزائرية عرفت تطورا نوعيا بعد اندلاع الثورة التحريرية المباركة سنة 1954, فبدأت بنشر الوعي الوطني والتحسيس وفضح أهداف المستعمر ووضع الشعب الجزائري في الصورة وتبيان الوجه الحقيقي للعدو الفرنسي ومراميه القذرة, كما ساهمت وبطريقة احترافية في توحيد الجهود الرامية لإنجاح الثورة التحريرية وعمل المستحيل لإخراج كفاح الشعب الجزائري للعلن والتعريف بقضيته في المحافل الدولية, فكانت بزوغا حقيقية أنار العقول في الداخل كما في الخارج.
وقد كان دور كبير للشيخ عبد الحميد ابن باديس في مجال الصحافة , فهو أحد رجال الإصلاح في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي, مجاهدا سياسيا و صحافيا, وآثاره كانت عملية طبقت مباشرة في الميدان, فقد ربى أجيالا كانوا أسودا في المعركة التحريرية, “اقرأ العلم للعلم لا للوظيفة” كما كان يردد دائما, عمل على محاربة الجهل والأميّة ومحاربة البدع والخرافات و إنشاء الكتاتيب والمدارس، كما قام بإصدار الجرائد والمجلات التي عمل الاحتلال الفرنسي على منعها, حيث كانت ذات طابع سياسي وديني تربوي، لأنه كان يرى أنّ النهضة الحقيقية لا بدّ أن تجمع بين العلم والسياسة, وهنا تكمن قوة الصحافة, علما أن فرنسا الاستعمارية منذ بداية احتلالها للجزائر عملت على القضاء على منابع الثقافة الإسلامية التي تراها بعدا روحيا يستمد الشعب الجزائري قوته منها, و قد أصدر جريدة “المنتقد” عام 1926 وتولى رئاستها بنفسه، لكن سرعان ما عطلها الاحتلال الفرنسي, ثم أصدر جريدة “الشهاب” واستمرت في الصدور حتى عام 1939 كما اشترك في تحرير الصحف التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مثل “السنة” و”الصراط” و”البصائر“
كما وقفت الصحافة إلى جانب الكفاح المسلح وساهمت في تلاحم الشعب بجيش التحرير والإيمان بالثورة التحريرية المظفرة, ودفعه ليكون عنصر إسناد ودعم مباشر وغير مباشر, حيث جعلت من التكامل والتضامن مفاهيم للنجاح الثوري وأعطتهما بعدا استراتيجيا بُني عليه مسار الثورة داخليا وخارجيا, زاد قوة لجبهة التحرير في التوسع والإيمان بإلزامية زيادة وتيرة التحدي والمضي قدما نحو الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية, زيادة على هذا كله, فقد قامت الولايات العسكرية التاريخية أثناء الثورة التحريرية بإصدار صحف, مثل صحيفة (الوطن) التي أخرجتها للوجود الولاية الأولى أوراس النمامشة , ناطقة باللغة الفرنسية, تعالج أهم أخبار الولاية وترد على الدعايات الهدامة للمستعمر, كما كانت للولايات الأخرى نشريات وهي كما يلي:
الولاية التاريخية الثانية : نشرة الجيل
الولاية التاريخية الثالثة: نشرة النهضة
الولاية التاريخية الرابعة : نشرة حرب العصابات
الولاية التاريخية الخامسة: نشرة صدى الصحراء
و تحتوي كل نشرية على 300 نسخة , ذات صدور نصف شهري باللغتين العربية والفرنسية, وكانت ترسل عن طريق المناضلين وقوافل السلاح إلي المدن الجزائرية و باتجاه الجمهورية التونسية الشقيقة والمملكة المغربية.
بعد مؤتمر الصومام 1956، أصبحت “المجاهد ” الممثل الرسمي لجبهة التحرير الوطني بعد أن كانت تقاسمها جريدة ” المقاومة الجزائرية , وقد ساهمت الصحافة الجزائرية في التعريف بانتصارات الثورة الجزائرية , التي كانت فرنسا تحاول إخفاءها بكل الوسائل, كما ساعدت في دحر الدعاية الفرنسية الهدامة التي كانت ترمي لطمس قداسة الثورة وضربها في الصميم, وإبعاد تأثيرها عن الشعب الجزائري وخاصة في عمق الأرياف الجزائرية, وهكذا ساهمت مساهمة فعلية وجبارة في الثورة حتى نالت الجزائر استقلالها, وبعد نيل الحرية واسترجاع السيادة الوطنية واصلت الصحافة الجزائرية في ثورة البناء والتشييد, حيث توسعت خبراتها وتطورت قدراتها وإمكانياتها وتعززت بالعديد من الصحف والعناوين الخاصة والعامة والقنوات التلفزيونية التي كان لها دور فعال في بناء الجزائر الحديثة وبعث نفس جديد في التحدي والحداثة ومواكبة العصرنة.
بلخيري محمد الناصر