
بقلم: صالح عوض
فليختاروا: من يقر شرعية المحتلين فقد أصبح شريكا لهم.. في مهزلة الانهيار الرسمي العربي والهرولة نحو علاقات ودية مع الكيان الصهيوني كشف الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته مخبوء النظام العربي.. فلقد اتضح أن تنازل الحاكم العربي عن فلسطين والاعتراف بشرعية الاحتلال أقصر طرق الحفاظ على ما وصل إليه باطلا من سيطرة على الكرسي، وقمع للحريات.. وثمنا لسلامة الرأس أو شطبا من قائمة الإرهاب أو نكاية بالجيران، وأحيانا لأهداف في إطار الحرب على الإسلام وتاريخه..
وضع حاكم المغرب ملف الصحراء الغربية –وليس سبتة وميلة– مقابل ملف القضية الفلسطينية في مقايضة حرام.. وهنا لا يتردد الأمريكان عن تجاوز القانون الدولي والقرارات الأممية في صياغة الخرائط حتى لو كانت وصفة للقتال والدمار، يقدمون أوهام الانتصارات لحلفائهم أو أتباعهم..
فلسطين المباركة المقدسة التي جعلوا تنازلهم عنها ثمنا لباطلهم تسكن القلوب في الوطن العربي والعالم الإسلامي وأحرار العالم وفي المقدمة شعب المغرب الشقيق وشرفائه ولا مستقبل إلا لفلسطين.
عرّاب التسوية:
العلاقات المغربية الصهيونية بدأت منذ سنوات الكيان الصهيوني الأولى.. ودور المملكة في التصدي لقرار الجامعة بتمثيل منظمة التحرير لشعب الفلسطيني في مؤتمر قمة الرباط معروف ومحاولة الملك الحسن الثاني تغيير موقف الجزائر في الدفاع عن الإرادة الفلسطينية في الإعلان عن كون منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد حيث بذل الملك جهده لإلحاق ذلك بالمملكة الأردنية.. و مبادرتها في اختراق الرفض العربي معروفة. فماذا ظل في جعبة النظام العربي حتى يبيعه مقابل الكرسي ونزعة التسلط؟
عادت إلى الذاكرة بدايات رحلة الانهيار العربي وقيام المملكة المغربية بدور عرّاب الاختراق في جدار الصمود العربي بعد حرب أكتوبر.. لن نتناول بالمتابعة السماح للموساد بتسجيل مؤتمرات القمة العربية المنعقدة في الرباط ومدى الاختراق الصهيوني للاقتصاد والمؤسسة الحاكمة.. فكما يشير “يوسي الفر” كبير المسئولين عن جهاز الاستخبارات الإسرائيلية في كتاب صدر له مؤخرا: “إن الأمر بدء بلقاء بين الملك الحسن الثاني ورئيس جهاز الموساد “إسحاق حوفي” أفضى إلى لقاء بين الملك ورئيس الوزراء اسحق رابين والذي حل بالمغرب متخفيا بباروكة شعر أشقر”.. أرسل الملك الجنرال المغربي أحمد الدليمي برسالة من اسحق رابين الى الرئيس المصري وبعدها أعد الملك لقاء بين المصريين والصهاينة في قصره ممثلا بحسن التهامي نائب رئيس وزراء مصر وموشي دايان وزير الخارجية الصهيوني وتواصلت اللقاءات بين الطرفين والتي انتهت بمبادرة السادات وزيارته لتل أبيب.. لقد تكررت الزيارات الرسمية بين الكيان الصهيوني والحكم المغربي ولقد كان للمغرب ممثليات في الكيان الصهيوني منذ سنوات عديدة وكانت رحلات الطيران تنطلق من عواصم المغرب الى مطار اللد في فلسطين المحتلة.
إعلان ترمب رسميا يعني بوضوح ان المملكة اختارت الخروج رسميا الى صف الحلف المتنامي مع المشروع الصهيوني مع الإمارات والبحرين في محاولة لصناعة واقع سياسي عربي جديد على أنقاض واقع عربي حتى لو اقتضى الأمر تدمير العواصم العربية كما حصل لبغداد ودمشق وطرابلس والخرطوم.. وهذا يعني عدم صلوحية الحكومة المغربية لحمل ملف القدس.. فما هي حقيقة قضية الصحراء التي وصل الأمر بحكام المغرب بمقايضتها مع فلسطين.. وهل حقا يقتصر الموضوع على ضم الصحراء فقط؟.
الصحراء الغربية:
أمام نفاق القرار الدولي وتبعية الموقف العربي الرسمي له، نتساءل بداية لماذا كان العالم كله الغرب والنظام العربي كله يقف بقوة ضد فرد العراق سلطته على الكويت، وجندوا لذلك القوة والإعلام والجيوش فدمروا العراق لكي يمنعوا سيطرته على الكويت، ونتساءل كيف تعاون الغرب مع دول إقليمية لفصل جنوب السودان بالقوة؟ وكيف كان القرار الدولي حاسما ضد وجود الجيش السوري في لبنان مع ان لبنان تاريخيا جزء من سورية او من وحدة بلاد الشام ؟ولماذا يقف هذا القرار الدولي ملتبسا ومراوغا إزاء قضية الصحراء الغربية.
لعلها مناسبة سانحة أن نفتح باب الحديث عن الصحراء الغربية أو الساقية الحمراء ووادي الدهب الواقعة في أقصى مغربنا العربي.. انها قصة اغتيال وطن وتشريد شعب فما هو الحق والباطل في قصة الصحراء الغربية؟
.. لهذه القضية أبعاد عدة لابد أن تتجلى ليتكشف وجه الحقيقة فيها.. إنها قضية شعب ناضل باستماتة من أجل هويته الحضارية ضد كل أشكال الاستعمار.. وكما كل أقاليم العروبة والإسلام أبلى سكان الصحراء الغربية ضد موجات الاستعمار المتلاحقة بلاء عظيما حتى حققوا النصر المؤزر وطردوا الاستعمار الأجنبي.
والصحراء الغربية مليئة بالحياة بقبائل عربية وأمازيغية ضاربة في التاريخ تتقن التجارة والحكم والقضاء وتجيد فن العلوم والأدب والتصوف ..وفي الصحراء الغربية شخصية مزجتها السنين في قالب معين بعادات وتقاليد معينة ونسيج اجتماعي معين جعل من هذا الإقليم وحدة جغرافية تشترك مع أقاليم العرب في الهم والتاريخ والحضارة والدين وتتميز كما يتميز كل إقليم بخصائصه من عادات وتقاليد تدعو للتكامل وليس للانصهار والتبعية.
لم تتوقف المحاولات لاغتيال الوطن الصحراوي وإذابة خصوصياته وإحالته على نموذج من السياسة والمجتمع متميز عنه، واستدعى ذلك تشريد شعبه وقمع تطلعاته نحو تقرير مصيره بقوة السلاح وذلك تحت دعاوى وحدة التراب المغربي والتصدي للانفصال..
حتى يكون واضحا منذ البداية لابد من التأكيد على أن وحدة كلمة الأمة دين، وأن كل من يحاول تفريقها لا يخدم إلا مصلحة الأعداء.. ولكن هذا القول لا يعني بشكل من الأشكال ذوبان مجتمعاتنا الواحد في الآخر لأن ذلك مضر بالوحدة ومضر بمستقبل الأمة وهو مربك لتنميتها وهو حتما لن يحدث على أرض الواقع وإن حدث تحت قوة السلاح فسريعا ما سينهار.. إن وحدة أقاليم الأمة يعني أن الوحدة تكون من خلال التنوع والتعدد، وليس الوحدة القمعية والقهرية التسلطية.. والآن لا يملك أحد الادعاء بامتلاكه مرجعية الوحدة فالمطلوب في مثل هذه الحال التعاون والتكامل بين أقاليم العرب والمسلمين بعيدا عن القهر والعدوان، لا يوجد اليوم سوى أطماع شخصية ونزوات في الزعامة والتسيد على حساب عذابات الناس وجوعهم وارتهان مستقبلهم للأجنبي.. ان الوحدة بين أقاليم العرب تقوم من أجل أهداف مقدسة أولها رد الظلم الغربي الاقتصادي والسياسي والعسكري الواقع على أمتنا ولابد من العمل الجاد من اجل ذلك وهذا يأتي من خلال قناعات الناس وإيمانهم وتكريسا لمصالحهم وتوثيقا لعلاقات سوية بين أقاليمهم.. أما ان تصبح الدعوة للضم غطاء للقتل والتشريد والقهر والظلم ومن الخلف ارتباطات دولية مشينة وتفريط بحقوق الأمة في فلسطين ومستقبلها في الوحدة والنهضة فان هذا سلوك لابد من مقاومته لأنه عبث بمصير الأمة ولهو بمقدساتها.
وحتى يتكشف لنا حجم الظلم الواقع على أهل الصحراء الغربية لابد من معرفة حقيقة وضعهم التاريخي والقانوني والثقافي وهل هم حقا جزء انفصالي عن المملكة المغربية أم أنهم إقليم كما هو إقليم المملكة المغربية نفسه.. وبناء على التقصي القانوني والتاريخي ينبغي اتخاذ موقف بعيدا عن المجاملات والتلكؤ.
وقبل الغوص في القضية نبدي استنكارا واستهجانا للموقف العربي والدولي الذي يقف اخرسا وهو يرى مخيمات المشردين من أهل الصحراء الغربية يلقى بهم على حدود وطنهم ، ويسمع عن قمع الأحرار في داخل الصحراء سجونا وقهرا.. إن هذا الخرس العربي والدولي لا يفسره إلا جهل من بعض العرب أو تواطؤ منهم أما الغربيين فهم من صنع المأساة ليعاقبوا الثورة الصحراوية التي أخرجتهم من الوطن الصحراوي بقوة السلاح وحرمتهم بذلك من موقع استراتيجي أرادوا أن يشرفوا من خلاله على المنطقة كلها..
البعد التاريخي:
في مطلع القرن الثامن الميلادي وصلت هجرات عربية من شبه الجزيرة العربية إلى أرض الصحراء الغربية التي كانت تقطنها قبائل عربية وأمازيغية من قبل وكما تشير الأبحاث الجيولوجية والتاريخية أن ارض الصحراء الغربية لم ينقطع فيها التواصل الإنساني ..لقد وصلت القبائل العربية في موجتها الثانية بعد الفتوحات الإسلامية حاملة معها رسالة الإسلام لتنظم حياة الناس وتأخذ بيدهم نحو العلم والرقي.. وقد قوبل الدين الجديد بترحاب عظيم من القبائل المحلية وانتشر بينها سريعا.
رسخ المسلمون في بلاد الصحراء أساس نظام اجتماعي متطور وأنعشوا الحياة الاقتصادية هناك، وخاصة تجارة الذهب من مالي.., وتوالت الهجرات العربية إلى الصحراء الغربية خلال الفترة ما بين القرن الثامن والخامس عشر ميلادي. فوصلت إليها قبائل من بني حسان وبني هلال عن طريق مصر وتغلغلت في منطقة الساقية الحمراء ووادي الدهب ومجمل أراضي موريتانيا. وبفضل شدتها واستجابة السكان للدخول في الإسلام ازداد توسعها, وهكذا طبعت المنطقة بطابعها العربي الإسلامي المميز.وهي كذلك حتى اليوم .
ومن خلال الاطلاع على تاريخ المنطقة السياسي إبان سلاطين المغرب المتتاليين يتضح بجلاء أن هذا الإقليم إنما هو كأي إقليم من بلاد العرب متميز بشخصية خاصة ككل سكان إقليم في إطار الكل العربي الإسلامي.. وبالنسبة للعلاقة مع دولة المغرب بوضعها الحالي فليس هناك أي مرحلة تاريخية تم فيها توحد الإقليمين في تبعية لإقليم المغرب.. وان كل الوثائق تؤكد ان هذا الإقليم متكامل الشخصية .
كفاح ضد الاستعمار:
من سنة 1909 الى سنة 1975 كانت الملحمة الصحراوية ضد الاستعمار الاسباني والفرنسي.. فمنذ بدأت الأطماع الاستعمارية الغربية في الساقية الحمراء ووادي الدهب وقف الصحراويون مقاومين ومتصدين للأطماع الأجنبية وخاضوا معاركهم جميعها لوحدهم بل لعل بعض دول الجوار حاولت إرباكهم وتفتيت قوتهم..
وبعد منتصف القرن المنصرم اخذ الصحراويون في تنظيم صفوفهم وتشكيل جماعات سياسية للمطالبة بخروج المستعمر والثورة عليه.. فمن مجلس الأربعين الذي تكون من أكثر من 40 شخصية قيادية تمثل شيوخ القبائل في الصحراء إلى المنظمة الطليعية لتحرير الصحراء وكذلك حزب السلام وحزب الاتحاد الوطني الصحراوي وغير هذه الأطر التي سعى الصحراويون من خلالها إلى التخلص من الاستعمار الأجنبي.. وبعد المذابح التي ارتكبها الاستعمار الاسباني بحق الصحراويين سنة 1970 توافق الصحراويون على تشكيل جبهة تضم كل مشاربهم تحت اسم الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الدهب.
ولقد تم الإعلان عن قيام الجبهة في موريتانيا.. وخاضت معارك شرسة ضد الوجود الاستعماري على طول الجبهة خاصة بعد أن تلقت دعما وإسنادا من الجزائر وليبيا.. ارتفع صوت الصحراء قويا بعد المقاومة الباسلة التي أبداها الصحراويون.. وطالبت الجمعية العامة للأمم المتحدة أسبانيا بالانسحاب من الصحراء وان يستفتى الشعب الصحراوي في تقرير مصيره.
تحرك الملك وموريتانيا لملء الفراغ واقتسام الصحراء بعد الانسحاب الأسباني ولكن موريتانيا انسحبت من المنطقة التي سيطرت عليها وبقيت المملكة المغربية على إصرارها مدعية ان الصحراء الغربية إقليم مغربي ليصبح السؤال أكثر قوة ولماذا إذن كانت أراضي الصحراء قابلة للمساومة والمناصفة مع آخرين في الإقليم؟.. ولابد من الإشارة إلى أن الصحراويين قاموا بثوراتهم وحدهم كما فعل كل إقليم عربي ضد المستعمر وهم معزولين عن أي إسناد إقليمي ..
من الواضح ان إقليم الصحراء الغربية يتبوأ موقعا استراتيجيا بربطه بين منظومة إقليمية حساسة على المحيط الأطلسي وهنا تظهر أطماع النظام المغربي ورؤيته لما قد يحققه له هذا الإقليم من فوائد إستراتيجية في علاقاته الدولية فضلا عن الثروات المتوفرة في الصحراء.. فليس فقط التوسع الجغرافي إنما أيضا تعميم التبعية للأجنبي أمنيا ضمن سياقات إستراتيجية تستهدف المنطقة والمحيط الأفريقي العربي كما هو واضح في السنوات الأخيرة من تحركات للقوات الأجنبية الاستعمارية في الساحل.. هنا نسأل لو كانت جبهة البوليساريو قد رهنت قرارها والبلاد لقوى الاستكبار العالمي والكيان الصهيوني هل كان أحد يجرؤ على احتلالها أو ضمها؟
ولقد كان من الأهم للمملكة سياسيا أن تتجه لاستعادة سبتة وميلة المدينتين المغربين المحتلتين من قبل الأسبان وحينها ستكون الأمة كلها مع المغرب وستوفر لها مصدر قوة حقيقية و كان يمكن التفاهم مع الصحراء الغربية المستقلة بتفاهمات عميقة هذا في حال سلامة الاتجاه السياسي!!.. إلا أنها تتجه للسيطرة على الصحراء الغربية لتوسيع دوائر الإغراء للتدخلات الاستعمارية في الإقليم..
تخطو الإدارة الأمريكية هذه الخطوة المزدوجة للضرب في صميم القضية الفلسطينية بتكريس الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس بتطبيع عربي رسمي، وفي الوقت نفسه تكريس الصحراء كجزء من مسرح عملياتها.. ومن هنا تبدو المسألة أكثر من كونها وحدة وسيادة.. انها توسيع رقعة المقايضة لمزيد من المهمات الاستعمارية والصهيونية في المغرب للإشراف على التدخلات الأمنية في المنطقة..
فلسطين أكبر حقيقة تاريخية لن يهزها انهيار المطبعين، وكل من اختار الاعتراف بشرعية اغتصاب فلسطين واحتلال أرضها وطرد شعبها فهو قد حدد موقعه بوضوح.. أما افتعال التصارع بين أقاليم العرب خدمة للتوسع الاستعماري فهو محكوم بالفشل وستظل الشعوب تواقة لوحدتها ونهضتها وقد امتلك كل منها كرامته وسيادته.. والله غالب على أمره.