منذ ثلاثة أيام فقدت الساحة الإعلامية صحفية من خيرة الصحفيين في الجزائر، إنها ينبوع الأمل الذي يتدفق من أعين الحالمين ليعكس النور على أناس الظل، فيضيء أرواحهم الباهتة بالحرمان، ويعيد للقلوب المرتعدة من قساوة الظروف الأمان، تضمد بالبشائر جروح الأحزان، وترقع ببعضها نقائص المحتاج، وتسعى بكل قواها لتخفف عن البسطاء ثقل الحياة، تسعى باليد واللسان والقلب والوجدان..
إنها حفيظة بوقفة، لم تكن هذه المرأة مجرد موظفة في قطاع الإعلام، بل كانت مترجمة دقيقة للآمال والآلام، وباحثة عن الحقيقة في مواطن الغموض والخذلان.. حفيظة رحمها الرحمن كانت تخدم الإنسان في أي كان دون أن تبتغي من وراء ذلك جزاء ولا شكورا..كانت قلما حبره الإنسانية، ورغم أنه امتزج بالتراب بعدما كسرته ريح المنية، سيبقى حبره خالد على صفحات الأيام، وستبقى هذه المكافحة مثالا للمرأة الناجحة في حياة كل من عرفها عن قرب، وقد كان لي شرف معرفتها عن قرب.
علاقتي بالمرحومة أنار الله قبرها:
عرفت أختي وصديقتي حفيظة أسكنها المولى فردوسه الأعلى لأول مرة في ملتقى أدبي بولاية أم البواقي، جمعنا الله دون تخطيط منا في المحطة، فسألتني عن دار الثقافة لأخبرها أني ذاهبة إلى هناك..فاكتشفنا بعد أخذ ورد أن وجهتنا واحدة، ولازلت أذكر كم سر الأمر كل واحدة منا، خاصة أن الملتقى سيدوم أياما، وأن كلينا تأمل رفقة طيبة تشاركها الغرفة واللحظات وربما حتى الشعور..ولعل ما زاد ارتياحنا لبعضنا أننا كنا نشترك في صديقة واحدة، هذه الأخيرة كانت قريبة لحفيظة حد الأخوة، إنها رقية بن لحمر التي كنت قد عرفتها مؤخرا من خلال تعاملي مع جريدة الأوراس نيوز.
أمضينا أيام الملتقى بحب، وبقينا بعدها نتواصل يوميا على مواقع التواصل الاجتماعي، ليتجدد لقائي بها يوم أقمنا تكريما للأستاذ بوساحة حفظه الله في مكتبة الإحسان، وقد صادف ذاك اليوم ذكرى ميلادي مما جعل الأحبة يغرسون الفرح في عيني بهدايا مغلفة بالحب.. قضيت رفقتها بقية ذاك اليوم وكانت جمال كل تفاصيله.
ومنذ ذلك الحين ومواعيدنا تتكرر، وكنا قد رتبنا موعدا لنلتقي لكن الله شاء غير ذلك، فآخر مرة أخبرتني أن هاتفها تعطل، وأنها ستتصل بي، ثم أخذتني مشاغل الأيام، فلم أعلم أن الحبيبة تصارع المرض الخبيث في المستشفى، ولعل هذا ما زاد حرقتي لوفاتها، فقد حز في نفسي كثيرا أني لم أزرها في أيامها الأخيرة، ولا يمكنني وصف وقع فاجعة موتها على قلبي حين صادفت الخبر يتداول على مواقع التواصل الاجتماعي.
ميلاد شاعرة أبت أن تكبر
حفيظة بوقفة طيب الله ثراها لم تكن كاتبة فحسب، بل كانت شاعرة برقة قلبها الذي يعج بالأطفال، وبامتداد عالم الشعور في عينيها الذي يحتوي ألف خيمة للاجئين، وبتدفق الإنسانية من قلمها الذي كرسته لنشر الخير والإصلاح في المجتمع.
وما يعرفه الجميع عن حفيظة أنها كانت تكتب قصائد لا تطلع عليها إلا القلة من المحيطين بها، وقد اكتشفت ذلك في الملتقى الأدبي حيث جاءت كصحفية، ثم قرأت لي في تلك الليلة قصيدة لأقنعها بأن تلقيها على مسامع الحضور صباحا، وفعلا قرأتها ونالت إعجاب الجميع، فحفيظة كانت شاعرة في صمت، وكاتبة في صمت، فضلت أن تخرج إلى المجتمع كقلم إعلامي محتفظة بشاعريتها وأدبها لنفسها، فلعل الكتابة كانت متنفسا لها في زحمة الوظيفة.
قلم سيال وإنسانية طاغية
تميزت حفيظة في مجال الصحافة في سن مبكرة، وبرزت كصحفية نشيطة في جريدة الأوراس نيوز، فكان قلمها سيالا ميالا لمواساة الآخرين، ودعمهم، ونقل معاناتهم إلى الرأي العام، ونصر الحق، والوقوف على واقع نشاطاتهم وتنميتها، ضف أنها كانت من الناشطات في العمل الجمعوي خاصة نادي السيلياك، وجمعية السواعد البيضاء.
ولعل أهم ما تميزت به حفيظة أنه لم يربطها بالصحافة الراتب فحسب، بل كانت إنسانيتها الطاغية تدفعها نحو الاحتكاك بمختلف شرائح المجتمع، والوقوف على ظروفهم، ومحاولة مساعدتهم بشتى الوسائل، ولا شك أن عملها الجمعوي خير دليل على ذلك.
فحفيظة رحمها الرحمن كانت أم اليتامى، وابنة البسطاء، وأخت الضعفاء، وحبيبة الجميع وقلبي.
أعمال لا تنسى وأثر لا يزول
توفيت الصحفية والكاتبة والشاعرة والإنسانة قبل كل شيء تاركة أعمالا حية تنبض بطيب ذكرها، وقلوبا صادقة تتضرع لله عز وجل أن يتغمدها برحمته، ويجعلها من الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فهذه هي الحياة الدنيا متاع غرور ودار عبور، وتلك هي الآخرة منتهى الرحلة ومبتغى المؤمن، وإن كانت مرارة الفقد لا تطاق، وشدة الشوق بعد الفراق لا تحكى ولا تبكى، فإن عزاء المحب في فراق محبوبه تذكره، وذكر محاسنه بين الناس، والدعاء له، والتصدق عليه، وما كلماتي هذه إلا محاولة لتجفيف دمعي الفياض لفراقها، وتضميد قلبي المنفطر لغيابها، ورجاء القراء بالدعاء لها بالرحمة والمغفرة ولموتانا أجمعين.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.