بقلم: صالح عوض
مع كل الألم لسقوط الضحايا ومعاناة المصابين إلا أن الهلع والخوف على مستوى العالم أكبر بكثير من حجم المصيبة فهل هناك هدف آخر أكبر لكارونا؟.. لا يخفى على أحد دلالة التخويف عندما يبلغ مداه بإنذار رئيس وزراء بريطانيا مواطنيه بفقدان أحبتهم.. انه التخويف الذي يفقد الناس مطالبهم وطموحاتهم فيما تكون الخطط الإستراتيجية قيد التنفيذ فهل آن الأوان لصياغة جديدة للخريطة السياسية للدول والتحالفات والقوى في العالم لفرض التسيد والتفرد الأمريكي؟ وهنا تطرح الأسئلة الكبيرة: هل يمكن أن يظل الأوربيون وقارتهم العجوز التي تعاني النمطية والانكفاء على الذات شركاء يتمتعون بحق التعيش على قوة أمريكا و يمتلكون حق الفيتو ومناكفتها أحيانا؟ هل كان من الممكن أن تسمح أمريكا لتصاعد نمو الاقتصاد الصيني ليكتسح القارات فيما يسجل اقتصاد أمريكا تراجعات كبيرة تهدده بالانهيار؟ وهل تفلت إيران من هيمنة التوجه الأمريكي في المنطقة بمحاولاتها للاستفادة من الاضطرابات الإقليمية فتتجه لتشكيل محور إقليمي وتدخل به في تحالفات عالمية في مواجهة المصالح الأمريكية في العالم؟ وإلي متى يظل النظام العربي الهش يمتلك الثروة فيما تظل أمريكا هي الحارس المرتزق لها؟ لذا فلابد من ترتيب العلاقات الدولية حسب قاعدة التسيد الأمريكي وهذا يحتاج إلى عملية كبيرة لصياغة إستراتيجية كونية جديدة.
أجل إن تعديلات جوهرية أجريت على الإستراتيجية الأمريكية تجاه العالم مع انهيار الكتلة الاشتراكية انطلقت بالتدخل العسكري المباشر في أفغانستان والعراق و بإطلاق خطة الفوضى الخلاقة في المشرق العربي وصولا إلى ليبيا مرورا بانسحاب أمريكا من منظمات وهيئات دولية.. وكان لابد من إجراءات استثنائية تهيئ المناخ العالمي للاستسلام للترتيبات الجديدة مع بداية حقبة تاريخية جديدة فما هو حجم الخسارات العالمية؟ وإلي أي مدى تنجح خطة المقررين في أمريكا؟ ذلك ما نحاول الاقتراب من فهمه في هذا الحيز المختصر.
هل صنعت أمريكا كرونا:
أعلن تشاو لي جيان، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية، عن وجود إثباتات تؤكد على أن وكالة المخابرات المركزية هي التي نشرت فيروس كورونا في الصين.. ولعل هذا أوضح إتهام صيني لأمريكا بنشر الفيروس كورونا في الصين وقد سارعت الإدارة الأمريكية بنفيه محذرة الصين من نشر الإشاعات.. وبعيدا عن الإتهامات المتبادلة والتي تحتاج إلى أدلة وتحقيقات من الصعب الوصول منها إلى نتيجة قطعية فضلا عن الإقرار بها.. لذا يصبح من الضرورة التوجه فورا لفهم أهمية الحدث في السياق العام للسياسة الأمريكية و لمنطق التسيد الأمريكي.. بمعنى محدد ليس هنا مجال لكيل الاتهام لاي طرف بأنه صنع فيروس كورونا ولكن لمعرفة من سيستفيد من كورونا و من سيستغله لتحقيق أهداف إستراتيجية؟ وبالتأكيد من له طموح إمبراطوري وله القدرة ويمتلك أدوات الإعلام والتواصل سيحقق أهدافه.
الإمبراطورية الأمريكية:
اذا وضعت جملة “انهيار الإمبراطورية الأمريكية” على قوقل فسيعطيك مئات السياقات من كتب وأبحاث ودراسات وتعليقات، وبكل اللغات ومن أكثر من بلد كلها يتنبأ بانهيار الإمبراطورية الأمريكية، وهي في المجمل دراسات علمية بحثية اقتصادية واجتماعية وأمنية وفي أطار رؤية كلية لمواقع الفعل العالمية التي تشهد نموا وتبدلات في موازين الإنتاج والدخل المحلي والمديونية.. ومن المؤكد ان هذه الدراسات وما هو أكثر منها إحاطة ليست خافية على صانع حالة التسيد الأمريكية الذي لن يستسلم إلى الاستنتاجات المنطقية لهذه التقييمات منتظرا ان يرى انهيار الإمبراطورية، فكان لابد من التوجه إلى فعل مختلف عن سياق الصراع التقليدي والأسباب المنطقية له في مناخ مناسب يمكن خلاله تمرير انقلابات عميقة في موازين القوى العالمية تحافظ على التسيد الأمريكي وتحدث في القوى المنافسة خللا جوهريا فتحركت الإدارة الأمريكية في انتظار ذلك على أكثر من صعيد:
الاقتصاد الصيني:
على خلفية إعلان الولايات المتحدة عزمها فرض رسوم جمركية على الواردات الصينية قد تصل قيمتها إلى “60 مليار دولار”، توعدت الصين من جانبها بالرد على هذه الإجراءات المحتملة. وأشارت الصين إلى أنها “لا تخشى أبدا من حرب تجارية وأنها ستدافع عن مصالحها الشرعية بكل السبل الضرورية”.. هكذا انطلقت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين ولم تستمر كثيرا حيث اكتشف الأمريكان أنهم هم الخاسرون في هذه الحرب والضرر سيعود على المواطن الأمريكي بشكل مباشر.. هنا اتجه الطرفان في نهاية نوفمبر 2019 الى صفقة يلغيان بموجبهما كثيرا من أنواع الضرائب المرتفعة.. وبالفعل قامت الصين ابتداء من 28 فبراير الماضي بإعفاء 65 سلعة أمريكية من رسوم جمركية عقابية طبقت في خضم نزاع تجاري مع الولايات المتحدة.
ان هذا يعني بوضوح تولد ميزان الردع العقابي مما يشكل خطرا حقيقا على الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني من ارتفاع المديونية.. ان استمرار الوضع بقوانين التعامل الجديدة يعني انهيارا متواصلا في عجلة الاقتصاد الأمريكي وتوسعا مذهلا للاقتصاد الصيني فكان لابد من الخروج عن نص العلاقات الدولية المعتادة والتعامل بغير المتوقع لإحداث الهزيمة بالاقتصاد الصيني أو تعطيله على الأقل..
الخسارة التي لحقت بالاقتصاد الصيني لا يمكن حصرها في مئات مليارات الدولارات المعلن عنها.. ان ضربة عنيفة لحقت بالاقتصاد الصيني والمجتمع الصيني وطموح الدولة جراء عملية كورونا وقد أصبحت الصين في عزلة عالمية وحصار طوعي من قبل جميع دول العالم لن يتعافى الاقتصاد الصيني منه قبل فترة غير قصيرة..
تفكيك الاتحاد الأوربي:
بعد سقوط الكتلة الاشتراكية لم تعد الأهمية الإستراتجية ذاتها التي تتمتع بها أوربا التي تحركت لإعادة الاعتبار لنفسها من خلال الاتحاد الأوربي وتطوير مؤسساته وبدأت ملامح التميز في المواقف إزاء عديد من القضايا الدولية لاسيما فلسطين والعراق وإيران.. هنا بدأت أمريكا الحديث عن ضرورة التحرر من التزاماتها المالية نحو الأطلسي بل وتحللت من اتفاقيات مع الأوربيين واتجهت لفرض سلسلة من الرسوم الجمركية على بعض السلع الأوربية وفي مقابل ذلك ارتفعت أصوات أوربيين لضرورة الانفكاك من الحلف مع الأمريكان..
يتعرض “حلف الناتو” لتصدع داخلي بسبب السياسة الأمريكية، ظهرت في الخلاف مع بعض الدول الأوربية في قمّة مجموعة الدول الصناعية السبع، وكان الرئيس الفرنسي ماكرون قد قال في ديسمبر الماضي بأنّ “الناتو ميت دماغياً”! وقد رد عليه بومبيو وزير خارجية أمريكا:«فكرة أن التحالف بين ضفتي الأطلسي قد مات، مبالغ فيها إلى حدٍ كبيرٍ».
في المقابل تسعي فرنسا وألمانيا تحديداً لتعزيز استقلالية الاتحاد الأوربي عن السياسة الأمريكية، ومواجهة سياستها التي تستهدف تفكيك الاتّحاد الأوروبي بالتعامل مع دوله بشكلٍ ثنائي.. وحذر أمين عام حلف الناتو بأنّ «لا ضمانة لاستمرار الحلف في ظلّ التوتّر الحاصل بين أمريكا وأوروبا».. وقد يدفع هذا أوربا إلى الشرق الأقرب والأقصى “روسيا والصين” وقد لاحت بعض الإشارات لهذه التوجه..
يرى صانع التسيد الأمريكي أن الأمر يختلف الآن عمّا حاولت واشنطن تكريسه منذ مطلع التسعينات، حيث رفعت حرب الخليج الثانية الولايات المتحدة إلى موقع قائدة كوكب الأرض بعد انحسار تأثير الاتحاد السوفييتي وتفككه، وفرضت واشنطن رؤيتها الخاصة للأمور في المنطقة فلقد تولد تعدّدية قطبية في العالم من جديد، وبدا كأن أوربا تتفلت من تحالفها معها.. فلجأت إلى إضعافها بعدة طرق ولعل خروج بريطانيا من الإتحاد الأوربي أحدها.. انها توجيه ضربة قوية تخلل كيان الاتحاد الأوربي وتفقده القدرة على المناورة.
أمريكا والعرب:
طبقت الولايات المتحدة الأمريكية على المشرق العربي والإسلامي المعايير نفسها التي فرضتها وطبقتها على دول أمريكا الجنوبية.. وقد تم إعداد هذا المشروع والتخطيط له منذ عام 1944 حيث سلم الانجليز مواقعهم للأمريكان، كما تولت رعاية وجود الكيان الصهيوني وتحقيق تفوقه الاستراتيجي على المنطقة والتدخل المباشر في الإقليم من خلال ربط أنظمته بأجهزتها الأمنية، وقد كتب نعوم شومسكي: “أن الولايات المتحدة لم تكن تحتاج نفط الشرق الأوسط لنفسها ـآنذاكـ بل الغرض هو تأمين انتقال أرباح هذه المادة الى أمريكا ومن ثم إلى بريطانيا وللشركات الأمريكية النفطية وليس لشعوب المنطقة” إذن كان الهدف هو السيطرة والهيمنة على نظام الطاقة العالمي ولكن فيما بعد أصبح التوجه الأمريكي نحو بناء قواعد عسكرية والقيام بحماية أمنية للمنطقة مقابل الأموال وإغراق بلدان المنطقة بالمنتجات العسكرية باهضة الثمن، وان تفرض على الدول المتمردة في المنطقة العقوبات والحظر والعزلة والركود كالعراق وإيران وليبيا والسودان وسوريا.
كانت ذروة التدخل الأمريكي في المنطقة بتعزيز قوة الكيان الصهيوني وجعله في موقع الابتزاز المستمر للمنطقة وتزويده بما يلزم لحروب ألحقت بالعرب خسائر فادحة في مصر وسورية ولبنان والأردن، ثم جاء التدخل العسكري الأمريكي المباشر في العراق حيث أكبر احتياطي نفطي في العالم وكذلك في سورية حيث حقول النفط في شرق الفرات.. وكان الربيع العربي مناخا مناسبا للاختراق الأمريكي لإرباك المنطقة في سيناريو الفوضى الخلاقة الذي لايزال يلقي بثقله على استقرار المنطقة وأمنها..
أمريكا وإيران:
بعد إسقاط نظام الشاه حاولت أمريكا بشتى السبل إرجاع إيران الى دائرة التفاهمات العميقة معها.. ووصل الأمر إلى حصار شامل وعقوبات متتالية ألحقت بالاقتصاد الإيراني والمجتمع الإيراني أضرارا بالغة.. وبعد 35 سنة حصار وعقوبات توصلت إيران للاتفاق النووي مع أوربا وأمريكا وبموجبه تم الإفراج عن مبالغ معتبرة مستحقة لإيران و دخلت العلاقات مع إيران دائرة التفاهمات في الملفين العراقي والأفغاني والسكوت الأمريكي عن التدخل الإيراني في سورية.. إلا أن ترمب ألغى الاتفاق من طرف واحد وشدد العقوبات والحصار، ودخل دائرة الاشتباك مع إيران في الملف العراقي ووصل الاحتدام إلى الاشتباك، لم تقبل إيران التفاوض المفتوح مع أمريكا، وجاء كرونا ليفرض وضعا قاسيا على إيران وحصارا طوعيا من قبل الدول التي لم تلتزم بالعقوبات الأمريكية سابقا.
أمريكا إلى أين؟
في شهر أغسطس/آب2018 وفي مقال له بصحيفة بوسطن جلوب قال الكاتب الأمريكي “استيقن كنزر” مقارنا بين الإمبراطورية الرومانية والأمريكية: إن الرومان كانوا يصِمون كل مَن يقاوم الطموح الروماني بـ”البرابرة”، تماما كما يصم الأمريكيون اليوم مَن يقاوم طموحهم بـ”الإرهابيين” أو “أنصار التطرف الإسلامي العنيف” أو أي وصْفٍ ينحته أرباب الدعاية من شأنه بثّ الخوف في النفوس.
ولاحظ الكاتب الأمريكي كنزر نتائج ذلك فقال: “رفض قادة الرومان الإقرار بالحقائق فسقطت دولتهم؛ أو ربما قادتهم كثرة الانتصارات إلى الاعتقاد أن بإمكانهم فرْض سيادتهم رغم أية حقيقة.. واليوم نفس سوء التقدير الذي قتل روما يرسم النهج الأمريكي إزاء العالم”.
لقد أصبحت أمريكا اليوم في حالة اشتباك مع كل دول العالم في أوربا وفي آسيا وأمريكا اللاتينية بالسلاح او بالمال أو بالإعلام.. وهي تقوم الآن بتحطيم النماذج المتزامنة لها ولا تقبل تقاسم السيادة على الكون.. وإنها مهما حاولت إيقاف الانهيار من خلال إسقاطها للنماذج المتزامنة إلا أنها لن تكون بدعا من التاريخ.. فهل تدرك أوربا أهمية التفاهم وضرورته مع دول الجنوب وتقيم علاقات على أرضية المصالح المشتركة الحقيقية؟ أم أنها ستسير نحو نهايات تفرضها عليها إمبراطورية أمريكا؟ حينها سيكون البديل أمة تحمل رسالة إنسانية كما حدث بالضبط في أعقاب الإمبراطورية الرومانية عندما انبثقت أمة الصلاح والرحمة.
إن سقوط الإمبراطوريات صيرورة وقدر.. هذا حتمية، ولكن الإمبراطوريات في لحظات انهيارها تكون كالوحش الجريح فالأمر يحتاج انتباها لكي لا تدفع الأمة تضحيات أكثر من اللازم في ربع الساعة الأخير.. فلكل أجل كتاب وتلك الأيام نداولها بين الناس.
تعليق واحد