العفوية من العاطفة الصادقة والأخلاق الطيبة، فهي ارتجال لا يخضع لإملاءات سابقة ولا لتخطيطات مصلحية, إنها تلك النية الطيبة التي لا حدود لعطائها, هدفها إسعاد الآخرين ومفاجئتهم بالبشائر السارة وإسعادهم, والتي تصدر عن أشخاص يتمتعون بتفكير سليم وحس مرهف وعاطفة جياشة وإيثار لا حد له, ورغم طيبتهم وشفافية تصرفاتهم, إلا أنهم في بعض الأحيان يصطدمون بجدار قوي من الصد والنفور ويقعون فريسة لمشاكل جمة جراء طيبتهم الزائدة, كما تفهم تصرفاتهم على أنها غباء ووقاحة وجنون.
وبما إننا في زمن الانفتاح والعصرنة وهرج ومرج التكنولوجيا, أصبحت العفوية (نية) ويقصد بها التخلف عن الركب الحضاري, لأنه في نظر البعض العفوية دفنت مع الأسلاف, أصحاب النخوة والشهامة والكلمة الصادقة, الذين حاربوا المستعمر بصدور عارية, وبنادق صيد قديمة, حفاة عراة و مع ذلك انتصروا, لأنهم أمنوا أن الله ينصر من ينصره, ولأن نيتهم كانت خالصة لوجه الله تعالى, وسجلوا واقعا روحيا بأبعاد بطولية ثورية, فنسجت حولهم قصص غريبة فاقت الخيال, فهناك من المجاهدين ممن يرمون الرصاص في وضعية الوقوف عند احتدام المواجهة مع العدو الفرنسي, يكبرون ويهللون وفيهم من يرفع الأذَان, ورغم وضعيتهم المكشوفة للعدو لم يصيبهم أي أذى.
الأفكار البناءة والمفيدة لم يعد لها دور فعال في وقتنا هذا، بتلاشي الرغبة في المطالعة وقراءة الكتب، بل حتى الجرائد لم يعد لها مهتمين، اقتصر الأمر على تصفح العنوانين دون الغوص في المحتوى، واستنباط أفكاره الجزئية والعامة، بالرغم من ثراء الساحة الأدبية وتنوع المواضيع، قل النقد الأدبي وأصابه احتباس، مما أثر سلبا على الإثراء والتنوع الثقافي، حتى المسرح تلاشى، واخترقت الرداءة الإنتاج السينمائي، غابت السيناريوهات الهادفة التي تخدم المجتمع وحل محلها الرقص وإبراز المفاتن وإقحام بعض المشاهد المخلة بالحياء وحشوها حشوا، طلبا للربح من ورائها، ولا يهم دورها إن كانت تخدم المجتمع أو تضره.
المظاهر والمال أثرت سلبا على التقدم بكل أنواعه، وانحصاره في مجموعات ضيقة في زاوية معينة ومكان لا يتعدى مدى الصوت، لذلك سادت سياسة التهميش والإقصاء، فكم من مثقف وحامل لشهادات عالية، ماجستير، دكتوراه، تخنقهم البطالة ولا يسمع بهم أحد، بل فيهم من يمارس تجارة بسيطة ليسد بها رمق العيش، لكي يحفظ على ماء وجهه ومنابع عينيه, وأنا أعرف منهم من يعيش بين ظهرانينا.
الاهتمام بالمثقف، لم يعد سيد الموقف، في الستينات من يحمل شهادة التعليم الابتدائي، نحترمه ونقول له سي فلان، حافظ كتاب الله يبجله ويحترمه الجميع، اليوم أصبحنا ننظر للمثقف البسيط المعدم على أنه لا شيء، يتحاشاه الجميع، أصبح مالك المال هو المبجل، لذلك عم الفساد وأصبح الربح السريع مطلب الجميع، الكل يحلم بسيارة من النوع الفخم وفيلا بها طوابق وتطل شرفتها على ساحة التعالي والفخفخة، علما أن الفخفخة هي صوت القرطاس والثوب الجديد، وهذا من أجل أن يحترمه الجميع وينصبون له ديوان المتعة على حطام الدنيا.
حتى السياسة اخترقها المال من أجل الإجلال وجمع المال، كثر النصب والاحتيال واكتظت المحاكم بهذا النوع من القضايا، لذلك ٱانعدمت الثقة وقل فعل الخير، وضاع الفقراء وأصحاب النية في زحام الأقدام، ساد سوء الظن ولم يعد للأخلاق أي معيار.
السياسة لعب أفكار، تناقض مصالح، تكتلات وبرامج، تصل وتنتهي، تعلو وتنخفض، ونحن لنا عقول نميز بها المصلح من الفاسد، فلنكن يدا واحدة وفكرا إيجابيا لا يقبل القسمة على أثنين، لنعبد الطريق لغد مشرق، يعيش فيه الجميع سعداء، يحلمون هم كذلك پآفاق جديدة ومستقبل زاهر، يرون فيه وطنهم متقدما متألقا بين مصاف الدول الكبرى.
بلخيري محمد الناصر