
العلماء ورثة الأنبياء, فهم نجوم هداية وأنوار حق¸ شمسهم دائما مشرقة وأرضهم عامرة, وخطاهم مباركة ومجالسهم دائمة, فضلهم كبير على الأمة في حَرِّها وقرِّها, في سلمها وحربها, يقول تعالى في سورة المجادلة الآية 11″ يَرْفَعُ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والذِينَ أُوتوا العِلْمَ دَرجاتٍ” , ومن بين هؤلاء العلماء الفضيل الورتلاني, الذي يعتبر من أبرز علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين, التي كانت بعون الله وممده, رغم حصار المستعمر رأس النهضة الإسلامية في الجزائر والعالم العربي ورمز التحرر في الشمال الافريقي, منذ أن أسست سنة 1931.
فقد امتد نشاطه الثوري المهم والمؤثر إلى عدد من الدول العربية, وهو نشر فكر العمل التحرري في شمال إفريقيا, والحركة الإسلامية بأبعادها الوطنية والثورية, ومن هذه الدول اليمن ومصر ولبنان, وخاصة فرنسا, فقد امتاز نشاطه بالصبر وطول النفس والحركة الدائمة, وهذا ما زاد لعمله الميداني الدعوي قوة وتوسعا وتثبيتا, وقد نجح في التمكين مبادئ جمعية العلماء المسلمين وخاصة في أوساط العمال الجزائريين والطلبة وغيرهم من الجاليات العربية في فرنسا, فكانوا إشعاعا تنويريا يسطع من الغرب, كما ساهم بحنكته في توحيد صفوف المعارضة في اليمن وإزالة الخصام وتقريب وجهات النظر بينهم. فكان أينما حل بلسما شافيا.
ومن نشاطاته أيضا تأسيس عدة جمعيات خيرية وسياسية في مصر مثل اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر، وجمعية الجالية الجزائرية سنة 1942, وجبهة الدفاع عن شمال إفريقيا سنة 1944, والتي كان أمينها العام, ومن أبرز أعضائها الشيخ محمد الأخضر حسين, حفيد الأمير عبد القادر, والأمير عبد الكريم الخطابي المغربي.
مولده ونشأته
ولد العالم الجزائري إبراهيم بن مصطفى الذي عرف بإسم الفضيل الورتلاني نسبة لمسقط رأسه مدينة بني ورتيلان بسطيف, بتاريخ 2 جوان 1900, نشأ وترعرع في محيط أسرة من أهل العلم, درس علوم اللغة العربية على يد علماء بلدته, ثم انتقل إلى مدينة قسنطينة مدينة العلم, أين أكمل دراسته على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس, بحث برع في التفسير والحديث والأدب والتاريخ الإسلامي, بحيث تأثر تأثرا كبيرا بشيخه و بنهجه المتبع في الفكر الإصلاحي والدعوة بأبعادها الدينية والسياسية, الشيء الذي جعله يختار مرافقته ومساعدته في التدريس, بداية من سنة 1932, ومتجوّلاً لصالح مجلة الشهاب ومشاركاً بقلمه في كل من البصائر والشهاب.
اختياره كمبعوث للجمعية خارج الوطن
ونظرا لبروز الرجل ونجاحه على أكثر من صعيد في مهامه كالتدريس ومساعدته لشيخه عبد الحميد بن باديس, لذلك اختاره كمبعوث عن جمعية العلماء المسلمين سنة 1936, أين أقام بالعاصمة الفرنسية, وانطلق منها في مهامه بكل روح وطنية وشجاعة, وقام بالاتصال بالطلبة والعمال , وقام بتأسيس فصولا لتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي, وخلال سنتين استطاع أن يفتح العيد من المجتمعات الثقافية في باريس وضواحيها وبعض المدن الفرنسية, كما كانت اتصالات ببعض الوجوه العربية النافذة مثل الدكتور محمد عبد الله دراز, والشيخ عبد الرحمن تاج, والعلامة السوري محمد المبارك والشاعر عمر بهاء الدين الأميري.
تهديده بالقتل من طرف المنظمة الإرهابية “اليد الحمراء”
نظرا لاتساع رقعة نشاطاته في فرنسا ومدنها، التي أقلقت السلطات الاستعمارية، لذلك قامت بشد الخناق على تحركاته والتضييق عليه, وعندما علم بتهديد تصفيته من طرف المنظمة الإرهابية اليد الحمراء, غادر فرنسا إلى إيطاليا ومنها إلى القاهرة, حيث انتسب إلى الأزهر وتحصل على شهادته العالمية, وأسس بالقاهرة مكتب لجمعية العلماء المسلمين سنة 1948, استقبل فيه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي سنة 1952.
اندلاع الثورة التحريرية
غداة اندلاع الثورة الجزائرية نشر الفضيل الورتلاني مقالاً في 3 نوفمبر1954 بعنوان “إلى الثائرين من أبناء الجزائر اليوم حياة أو موت” وفي 15نوفمبر1954 أصدر مع الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بياناً بعنوان: “نعيذكم بالله أن تتراجعوا”
جاء فيه ” إن الرضا بسلب الأموال، قد ينافي الهمة والرجولة، أما الرضى بسلب الدين والاعتداء عليه فإنه يخالف الدين، والرضى به كفر بالله وتعطيل للقرآن.
إنكم في نظر العالم العاقل المنصف، لم تثوروا، وإنما أثارتكم فرنسا بظلمها الشنيع وعتوها الطاغي، واستعبادها الفظيع لكم قرنا وربع قرن، وامتهانها لشرفكم وكرامتكم، وتعديها المريع على مقدساتكم”.
“إن فرنسا لم تبق لكم دينا ولا دنيا، وكل إنسان في هذا الوجود البشري، إنما يعيش لدين ويحيا بدنيا، فإذا فقدهما فبطن الأرض خير له من ظهرها”.
وفي 17 فيفري 1955 شارك في تأسيس “جبهة تحرير الجزائر” التي كانت تضم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي وممثلي جبهة التحرير: أحمد بن بلة، حسين آيت أحمد، محمد خيضر، وبعض ممثلي الأحزاب الجزائرية: الشاذلي مكي وحسين لحول، عبد الرحمن كيوان، أحمد بيوض.
لم تَطُل مدة إقامة “الفضيل الورتلاني” بالقاهرة، بعد انقلاب 1954 فقد غادرها إلى بيروت 1955, توفي رحمه الله في إحدى مستشفيات مدينة أنقرة في 12 مارس 1987م وبعد سنوات نقلت رفاته من تركيا ليعاد دفنها في مسقط رأسه.
بلخيري محمد الناصر