أقلام

الفقيد الرمز محمد سيد إبراهيم بصيري

بقلم الدكتور:غالي الزبير

 

يمثل الفقيد محمد سيد إبراهيم بصيري في وجدان الصحراويين رائداً للحركة الوطنية المعاصرة في الصحراء الغربية وباعثاً للفكر الوطني، نقل كفاح الشعب الصحراوي الممتد عبر القرون من أطوار العفوية والظرفية العابرة إلى مرحلة متقدمة من التنظيم وصورة أرقى من الوعي الجمعي، عبر تأسيسه لأول تنظيم سياسي صحراوي هو “منظمة الطليعة لتحرير الصحراء”، ثم تقديمه نفسه فداء لهذا المشروع الوطني، رابطاً بذلك بين التنظير والممارسة في مثال نادر لقادة الشعوب، فلا غرو إذن أن يرتبط اسمه في الذاكرة الصحراوية بمعاني التضحية والفداء من أجل حرية الوطن واستقلاله، هذا هو بصيري كما عرفته الأجيال الصحراوية المتلاحقة، غير أنه ومنذ سنوات قليلة بدأ المخزن المغربي بعد تجاهل دام قرابة الأربعة عقود في تقديم سيرة ذاتية مناقضة لشخصية الفقيد بصيري، الشيء الذي يعد مثالاً بيناً لسياسة تزوير التاريخ ومحاولات استلاب الذاكرة الجمعية الصحراوية المتبعة من طرف الاحتلال المغربي، وهو ما عرضنا لأمثلة عنه في أجزاء سابقة من هذه المقالات التي تناولت جوانب التزوير والتحريف في سير الشخصيات التاريخية الصحراوية، ولكن قبل تناول المزاعم المخزنية حول سيرة بصيري والرد عليها لا بأس أن نقدم تعريفاً ولو موجزاً بالفقيد محمد سيد إبراهيم بصيري.

من هو بصيري؟

هو محمد ولد سيد إبراهيم ولد سيد أمبارك، المزداد في أكتوبر 1942، ينتمي إلى عائلة “أهل لبصير” الصحراوية التي عرفت باهتمامها بنشر العلم وتعلمه كابراً عن كابر، والتي مثلت زاويتها المعروفة في جنوب المغرب – بعد هجرتها إليه من شمال الصحراء الغربية- مركز إشعاع علمي ومعرفي بارز، ظل لعشرات السنين يمد المنطقة بأجيال من العلماء والفقهاء والأدباء.

ورغم يتمه المبكر، فقد نشأ محمد بين مجالس العلم وحلقات الذكر، متتلمذاً بداية على إخوته الكبار من أساتذة الزاوية، ثم على أيدي كبار الشيوخ المتفرغين للتعليم بزاوية آل لبصير، وهو ما سهل عليه الحصول على شهادة الباكالوريا في العلوم الأصلية والآداب وبعد دراسات متقطعة في كل من الرباط ومراكش والدار البيضاء شد الرحال إلى مصر لدراسة الصحافة، ومن القاهرة سافر إلى دمشق، التي حصل من جامعتها على شهادة الإجازة في العلوم السياسية ثم تركها مسافراً إلى بيروت التي تلقى بها دراسات متخصصة.

ويبدو أن رحلته إلى المشرق العربي، وإن أفادته على مستوى التكوين الشخصي والمعرفي، إلا أنها قد طبعت بصعوبات مادية اضطرته إلى قطع دراسته والعودة إلى عائلته، وهكذا عاد بصيري سنة 1966م من رحلته المشرقية التي مكنته من معايشة التجارب الوطنية والقومية في مصر وبلاد الشام حيث واكب عياناً حجم التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي كانت منطقة الشرق الأوسط تحبل بها حينئذ، في وقت كانت بلاده وقومه يعيشون عزلة خانقة فرضها عليهم المستعمر الإسباني لعشرات السنين، فكان المجتمع الصحراوي ينتمي ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وحتى اجتماعيا إلى أزمنة سالفة دون أن يعي أو يشارك في التغيرات العميقة التي عرفتها المنطقة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين.

وما أن عاد بصيري من رحلته حتى شرع بالتعاون مع بعض أصدقاءه في مدينة الدار البيضاء المغربية في إصدار صحيفة لم تعمر طويلاً سماها “الأساس”، أبرز من خلال مقالاته فيها، جوانب مشرقة من التاريخ الصحراوي، مذكراً بواقع الاحتلال الذي كانت الصحراء الغربية حينها ترزح تحته، ومعرفاً بالثقافة الصحراوية المتميزة، داعياً إلى الحفاظ عليها وتثمينها، وقد كان الفقيد يوقع مقالاته الصحافية باسمه الذي اشتهر به وهو “بصيري” بالإضافة إلى اسم آخر هو”الصحراوي”، وفي السنة اللاحقة أصدر جريدة شبابية أخرى باسم “الشموع”، ولكنها هي الأخرى سرعان ما تعرضت للمنع والغرامة من طرف السلطات المغربية بعد صدور عددها الثالث لتضمنه مقالاً بعنوان “الصحراء للصحراويين”.

بدأ الصحافي الشاب يحس بمراقبة بوليسية مغربية لصيقة، أبانت عن انزعاج السلطات المغربية من قلمه وأفكاره، فلم يكن بمقدور مغرب الحسن الثاني المحكوم حينها بسياط “أوفقير” أن يتقبل فكراً جديداً ورؤى صحراوية مغايرة لما يبيت له المخزن من نوايا، وما يعد له من مخططات تجاه الصحراء الغربية أرضاً وشعباً، فبعد أيام من توقيف جريدة “الشموع” وتغريمها، علم بصيري بنية السلطات المغربية في القبض عليه وتصفيته، فقد أسر له أحد أصدقاء العائلة بأن السلطات المغربية على أعلى مستوياتها قد قررت اغتياله خلال أسبوع، فعزم بصيري على الانتقال من المغرب إلى الصحراء الغربية، ملتحقاً بأفراد من عائلته يقيمون بمنطقة رأس الخنفرة ومنها دخل مدينة السمارة الواقعة بشمال شرق الصحراء الغربية في شهر مارس سنة 1968م،وقد تبع ذلك اعتقاله من طرف السلطات الإسبانية لثلاثة اشهر، ثم أفرج عنه تحت ضغط عائلته وبعض الوجهاء الصحراويين لتتراجع اسبانيا عن قراراها بتسليمه للمغرب الذي فر منه.

الصحافي الصحراوي المثقف

كان الصحافي الصحراوي المثقف والعائد حينها من شرق أوسط تتوالد فيه الحركات السياسية والفكرية وتتصارع على ميادينه القوى العالمية وتتصدر وقائعه عناوين الأخبار الدولية، يقف مذهولا أمام حجم التخلف الفظيع سياسياً واقتصادياً وصحياً وتعليمياً الذي لازال يعيشه الصحراويون المنسيون والمحكومون بقوة استعمارية مستبدة، تستنزف خيراتهم دون أن تجود عليهم إلا بما يبقيهم أحياء لخدمة مشروعها الاستعماري ويطيل في عمر احتلالها المديد في زمن كانت فيه رياح التغيير والتحرر تهب في جهات الدنيا الأربع، كل هذا دفع بصيري إلى الجمع بين نشر العلم ومحاربة الأمية من جهة، ومن جهة أخرى السعي إلى استنهاض الهمم لتغيير الواقع المزري للمجتمع الصحراوي.

لقد كان لشخصية بصيري الجذابة الدور الأكبر في جعله محور التفاف الشباب الصحراوي من حوله فقد كان متواضعاً، محباً للضعفاء، شديد العناية بهم، شغوفاً بالعلماء، محاوراً لهم، كثير الاهتمام بالتراث الصحراوي، ساعياً للتعرف عليه واستكشاف ما جهل منه، كما كان مولعاً بتاريخ المقاومة الصحراوية، حريصاً على لقاء رجالاتها ومعرفة أيامها ووقائعها، وعلى الرغم من ثقافته الواسعة وحنكته السياسية فقد كان قادراً على الحوار والتواصل مع المتعلم والجاهل والكبير والصغير على حد سواء، كما كان زاهداً في المناصب والرتب، فقد كان يحدث رفاقه أنه لو استقلت الصحراء الغربية فلن يكون رئيساً ولا حاكماً، بل يرغب في أن يكون ناقداً صحافياً، يكتب من أجل تغيير السلبيات والنقائص التي يراها في مجتمعه.

التباين المشين بين الماضي الصحراوي المجيد الذي يطالع الشاب المثقف صفحات مضيئة من جوانبه في أحاديث جلساءه من رجالات المقاومة الوطنية وبين الحاضر الصحراوي المذل الذي يعايشه بنفسه ويرى تجلياته في تبعية مهينة لما يعرف بشيوخ “الجماعة” للإدارة الاستعمارية الإسبانية السادرة في غيها والممعنة في تجويع وتفقير وتمزيق أبناء شعبه، عجل في نضج مشروعه الوطني الذي نتج عنه تكوينه لأول تنظيم سياسي صحراوي معاصر هو “منظمة الطليعة لتحرير الصحراء” التي كانت ترمي إلى تحرير الصحراء الغربية الممتدة من وادي درعة حتى وادي الذهب، وإنهاء التبعية المخجلة للاستعمار الإسباني أسوة بالبلدان المجاورة التي حصلت كلها على استقلالها وتمكنت من التحكم في مصائرها بنفسها.

مقولته الشهيرة “الصحراء للصحراويين”

باشر بصيري لقاءاته ومشاوراته مع أبناء شعبه، جاعلاً من مقولته الشهيرة “الصحراء للصحراويين” محور التعبئة والتجنيد لإحداث التغيير المنتظر للوضعية البئيسة التي كان الشعب الصحراوي يرزح تحتها، وهي الفكرة التي استقطبت أعداداً كبيرة من الصحراويين خاصة بين أوساط المتعلمين والعمال والجنود وموظفي الإدارة الذين كانوا يتعطشون للخلاص من براثن الاستعمار الإسباني والسعي الحثيث إلى تأسيس كيان وطني صحراوي ينهي الاحتلال الاسباني ويوقف عملية الاقتطاع والمصادرة للأراضي الصحراوية التي أدت إلى إلحاق مناطق واسعة من الصحراء الغربية بالمستعمرات الفرنسية السابقة لفترة الاستقلال وبأراضي الدول المجاورة المستقلة حديثاً وهو ما نتج عنه وقوع مئات الآلاف من الصحراويين خارج مجالاتهم التاريخية والسياسية والاجتماعية.

لقد قام مشروع “منظمة الطليعة” على ضرورة جمع الصحراويين على فكرة التحرر الوطني ومحاربة عوامل الفرقة والتمزق القبلي من جهة، ومن جهة أخرى رفض التمثيل الصوري الذي أناطته الإدارة الاستعمارية بزعامات قبلية تنعدم فيها أدنى شروط النضج السياسي والتكوين العلمي في أبسط مستوياته.

وقد تمكن بصيري ورفاقه في “منظمة الطليعة” خلال نصف سنة، هي عمر المنظمة، من تأسيس الحركة وتشكيل هياكلها وصياغة أدبياتها وتأطير مناضليها، ونشر أفكارها بين قطاع واسع من المجتمع الصحراوي وربط علاقات جيدة ببعض الأطراف المؤثرة داخلياً وخارجياً، ووضع برنامج طموح لنشر فكر الحركة في المناطق التي لم تصل إليها بعد من التراب الصحراوي، كل هذا رغم ضعف التكوين السياسي وتدني المستوى الثقافي للعديد من إطاراتها وانتشار الجهل والأمية والفقر والقبلية في المجتمع الصحراوي حينها، وهذه انجازات معتبرة في زمن قياسي وفي ظروف أمنية وسياسية غير ملائمة على الإطلاق.

وأمام شراسة الديكتاتورية الإسبانية وانعدام تجربة العمل السياسي في الصحراء الغربية كان تحرك بصيري ورفاقه في “منظمة الطليعة” يتم من خلال منظور استراتيجي يتسم بخاصيتين،

الأولى، طابع السرية الكاملة، الأمر الذي مكنها من الانتشار والتوسع في ثنايا الجسم الصحراوي زمناً دون أن تتمكن الإدارة الاستعمارية وعملاءها من التنبه لوجودها.

سياسة التدرج في المطالب

والثانية هي سياسة التدرج في المطالب الموجهة لإدارة الاستعمارية كما يظهر جلياً في المراسلات التي شرع بصيري في توجيهها للحاكم الإسباني للصحراء الغربية، وهي سياسة رمت إلى تجنب أو على الأقل تأجيل التصادم العنيف بين حركة ناشئة تعوزها الإمكانيات المادية والبشرية وإدارة عسكرية استعمارية تميزت بالشراسة والقسوة في ظل نظام الديكتاتور فرنكو الدموي.

غير أن الصدام الحتمي أبى ألا يقع و”منظمة الطليعة” مازالت في مراحل نشأتها الأولى بعد أن أحس المستعمر بحراك سياسي غير معهود يدور في بلد لم يعهد الحراك السياسي، ولم يعرف النشاط الحزبي، إلا أن الطابع السري للحركة منع الإدارة الاستعمارية من معرفة حجمها الحقيقي وتركيبتها التنظيمية وصلاتها الخارجية، رغم استنفار المستعمر لجميع وسائله المادية والبشرية، فلجأت السلطات الاستعمارية إلى تنظيم تظاهرة أرادتها أن تكون ضخمة، دعت لها المواطنين الصحراويين من جميع المدن والبوادي الصحراوية ووفرت لهم وسائل النقل المجاني، وحرصت على أن تحضرها وسائل الإعلام لتظهر فيها مدى “التفاف” الصحراويين المزعوم حول اسبانيا، الأمر الذي دفع المنظمة إلى الظهور إلى العلن من خلال تنظيمها في حي الزملة الشعبي بمدينة العيون تجمعاً جماهيرياً حاشداً أظهر انخراط عشرات الآلاف من الصحراويين في صفوف الحركة والتفاف الجماهير الصحراوية حول برنامجها الوطني.

حقيقة كون التجمع الذي دعت إليه الإدارة الاستعمارية كان هزيلاً وضعيفاً مقارنة بالحشد الجماهيري المنظم بالزملة أذهلت السلطات الاستعمارية الإسبانية، مما اضطرها إلى التفاوض مع المنظمة، فترددت بعثة تمثل الإدارة الاسبانية مصحوبة بمجموعة من الشيوخ إلى تجمع المنظمة لتطلب من أعضاءها فض التجمع الجماهيري المقام بحي الزملة والالتحاق الفوري بالتظاهرة المقام من طرف الإدارة الاستعمارية.

وأمام رفض قيادات المنظمة الانصياع لهذا الطلب بل وطلبها من مبعوثي الحاكم الإسباني ضرورة حضوره لتسليمه مذكرة موجهة من قيادات الحركة إلى الحكومة الإسبانية، لم يجد الحاكم العام الاسباني بالصحراء الغربية مناصاً من الرضوخ لإرادة الجماهير الصحراوية، فجاء بنفسه وتسلم مذكرة المنظمة الموجهة إلى حكومة بلاده، معتقداً أنه بذلك سينهي الحشد الجماهيري المتواصل بحي الزملة.

غير أنه أمام إصرار المنظمة على استمرار التجمع الجماهيري بالزملة، جاء الرد الاستعماري قاسياً، ففي مساء السابع عشر من شهر يونيو 1970 فتحت قوات مسلحة من فرق “الترسيو” الإسبانية نيران بنادقها الآلية على جموع المدنيين الصحراويين المتظاهرين سلمياً بحي الزملة، مخلفة بينهم عدد من القتلى والجرحى، وقد تبع ذلك مداهمات متواصلة للمساكن وعمليات اعتقال واسعة طالت المئات من أعضاء الحركة وقياداتها، وعلى رأسهم قائدها محمد سيد إبراهيم بصيري، الذي رفض الهروب والنجاة بنفسه رغم العروض التي قدمت إليه راداً بمقولته المشهورة: “لن أدفع الجماهير إلى المواجهة وأتخلى عنها”.

ما مصير بصيري؟

وبعد أن امضي بصيري رفقة بعض من زملاءه عدة أسابيع بسجن العيون تم اقتياده من طرف المحتلين الإسبان إلى وجهة غير معروفة، ليبقى إلى اليوم فقيداً، مجهول المصير، مما فتح الباب على تأويلات متعددة، كالقول أنه سلم للسلطات المغربية التي أعدمته، أو القول أن اسبانيا قد صفته ودفنته بالمنطقة الحدودية الصحراوية- المغربية أو غيرها من الفرضيات، وهي تأويلات يرى الأخ موسى ولد لبصير أنه كان بالإمكان تجاوزها لو تمت مبادلة بصيري حياً أو ميتا بالأسرى العسكريين الاسبان، حين تمكن المقاتلون الصحراويون يومي 9 و10 ماي 1975 من القبض على16 عسكرياً اسبانياً ، بينهم 4 ملازمين و12 آخرين مابين جنود و ضباط صف، وكان الهدف من اعتقالهم تحقيق ثلاثة مطالب هي: معرفة مصير بصيري وإطلاق سراح المجموعة التي هاجمت الحزام الناقل للفوسفات التي كانت تعتقلها اسبانيا حينها وعدم التعرض للجماهير الصحراوية عند قدوم بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في الصحراء الغربية والتي زارت المنطقة يوم 11 ماي 1975، وقد تم تحقيق الهدفين الأخيرين، في حين لم تدرج مسألة بصيري على جدول التفاوض بين البوليساريو واسبانيا الذي جرى في شهر سبتمبر 1975م.

بصيري في الرؤية المخزنية المغربية

بعد تجاهل مقصود استمر لعقود بدأ المخزن المغربي في صياغة سيرة مختلقة للفقيد محمد سيد إبراهيم بصيري نطالعها من خلال عدد من المقالات الصحافية والمواقع الالكترونية وفي “وثائق” ما يسمى بالندوات التاريخية ذات الصلة.

غير أن التكرار الحرفي لمحتويات هذه النصوص بما فيها من أخطاء إملائية وتركيبية فضلاً عن وحدة المحتوى واللغة فيها يظهر أنها تصدر عن نفس المصدر، أي إدارة الاحتلال المغربي التي تمول وتجند القائمين على مثل هذه الصياغة المحرفة لتاريخ وسيرة الفقيد محمد سيد إبراهيم بصيري، مستندة للأسف على بعض أفراد من عائلته كما هو الحال مع تاريخ الشيخ ماء العينين أو الشيخ أحمد الهيبة، وفي كل هذه الحالات يتاجر الأحفاد بتاريخ الأجداد، خدمة للمشروع التوسعي المغربي الهادف إلى استلاب الذاكرة التاريخية للمجتمع الصحراوي عبر تزوير تاريخه وتشويه رموزه ورجالاته الذين يشكلون مصدر الهام وقدوة تحتذى في الوطنية والإباء.

وتتلخص السيرة المزعومة للفقيد بصيري في القول أنه لم يكن رجلاً ثورياً ولا وطنياً صحراوياً، بل كان رجلاً صوفياً، سعى إلى تحرير الصحراء الغربية من اسبانيا وإلحاقها بالمغرب وتتبرأ من كل صور التحرر والاستقلال التي قدم بصيري نفسه فداء لها، مع استخدام عبارات حق يراد بها باطل من قبيل: الوحدوي في مقابل الانفصالي والبار مقابل العاق والمؤمن مقابل الشيوعي وهي عبارات تستعمل في غير سياقها على عادة القاموس التوسعي المغربي.

المزاعم المخزنية 

المزاعم المخزنية حول سيرة بصيري يرد عليها الأخ سيدي ولد لبصير الذي كان احد الستة الأوائل الذين أسسوا “منظمة الطليعة”، كما كان عضواً في المكتب الوطني للمنظمة، إذ كان مكلفاً بصندوق الحركة، وهو الذي رافق بصيري مند وصوله إلى السمارة سنة1968 حتى انتفاضة الزملة التاريخية 1970 وقد كان بصيري يقيم في بيته طوال وجوده بمدينة السمارة:

“لقد كان بصيري يلح على ضرورة العمل من اجل استقلال الصحراء الغربية، وأذكر أنه قال لي ذات مساء: إن الهدف من قدومي إلى هنا هو استقلال الصحراء، فكيف تستقل كل البلدان وتبقى الصحراء مستعمرة؟

ثم لو كان بصيري ساعياً لضم الصحراء الغربية للمغرب فلماذا لم يستقبل أعضاء “منظمة الطليعة” الغزو المغربي بالورود والأحضان؟ وواقع الحال يقول أنهم بصورة تكاد أن تكون جماعية قد انخرطوا في جبهة البوليساريو مقاتلين ومناضلين وكوادر لها، وللعلم، فإنه من بين سبعة عشر ألف عضو في منظمة الطليعة لم يخن قسمها ويتخلى عن هدف التحرير ومقارعة الاحتلال المغربي سوى عضوان، وفي هذا مافيه من دلالات ومعاني!!!

عند تأسيس المنظمة كان بصيري يقول لنا، أن البلدان العربية التي يمكن أن نتوقع منها الدعم أو المساندة هي الجزائر وليبيا ومصر فقط، فموريتانيا ضعيفة ولا تنتظروا منها أي مساعدة، لأنه ليس لديها ما تقدمه، ولكن يمكن الاعتماد على صلاتنا وروابطنا التي تربطنا بها كـ”بيضان” نتشابه في كل شيء، أما المغرب فلا ترجون منه أية مساعدة أبداً.

وحين تقرر في اجتماع المنظمة الذي انعقد في شهر مارس سنة 19700م أن يرسل مبعوثاً إلى الجزائر لطلب الدعم وأن توجه رسائل إلى كل من مصر وليبيا وموريتانيا، تسأل البعض عن سبب عدم توجيه رسالة إلى المغرب؟ فرد بصيري بالقول أن المغرب نظام عميل ذو علاقة وطيدة بالمستعمر، لا يجب أن تنتظروا منه سوى الشر والخيانة فهو معروف بأطماعه…”

 

مزاعم باطلة وسخافات فارغة

 

ويضيف الأخ موسى ولد لبصير ابن عم الفقيد بصيري، الذي سكن في بيته بمدينة العيون واستخرج له بطاقة تعريف تسمح له بالتنقل بين مدن الصحراء الغربية المحتلة حينها ، والذي صاحب بصيري حتى ليلة القبض عليه قائلاً:

“هذه مزاعم باطلة وسخافات فارغة، بغض النظر عن مصدرها”، ثم يعلل هذا الحكم بالأدلة التالية:

“إن الفكرة التي جمع بصيري الصحراويين حولها هي مقولته المعروفة “الصحراء للصحراويين”، فكان يرفض إلحاق الأراضي الصحراوية بالبلدان المجاورة وأولها المغرب، وكان مشروع بصيري الذي جاء من أجله من المغرب إلى الصحراء الغربية هو قيام كيان سياسي حقيقي للصحراويين مستقل عن المغرب وموريتانيا، ثم انه لو كان بصيري كما يزعمون فكيف انخرط كل أنصاره تقريباً في جبهة البوليساريو عند نشأتها، وهي التي أعلنت مشروعها الاستقلال فور تكونها، بل كيف يتصور عاقل أن يشكل بصيري مشروع حكومة يحدد وزراءها إذا كان يرغب في ضم الصحراء إلى المغرب وهو بلد له حكومته ووزراءه؟ ضف إلى ذلك كونه كان معجباً بالتجارب التقدمية والقومية في المشرق العربي وفي مصر وسوريا خاصة، وبين تلك التجارب الثورية والنظام الرجعي في المغرب ما بينهما من تباين”.

ويمكننا هنا أن نشير إلى الاتصالات التي أجرتها “منظمة الطليعة” مع الجزائر قصد الحصول على السلاح وتدريب المقاتلين الصحراويين وهو الطلب الذي قوبل بالإيجاب، فهل يتخيل أحد أن بصيري ورفاقه سيطلبون دعم الثورة الجزائرية لتحرير الصحراء الغربية من اسبانيا، ثم يضمونها بعدئذ إلى المغرب وهم يعون حجم التباين القائم بين الثورة الجزائرية والنظام العلوي في المغرب؟ ولماذا لم تتصل “منظمة الطليعة” بالحكومة المغربية لطلب الدعم والمساندة؟ والجواب عن هذا السؤال يكمن في معرفة بصيري بصورة شخصية بالواقع المغربي المتسم في حقبة الستينيات بالبطش والتنكيل بكل من يحمل فكراً تحررياً، وهو الواقع الذي فر منه بصيري بنفسه حين أصبحت حياته معرضة للخطر بمجرد نشر مقالة تؤكد على أن “الصحراء للصحراويين”.

ولا بد هنا من الإشارة إلى غياب كامل لأحداث انتفاضة الزملة وتبعاتها في وسائل الإعلام الحكومية المغربية وهو إهمال مقصود ومتعمد نتيجة للطابع الاستقلالي والوطني لهذه الحركة الصحراوية، رغم تناول وسائل الإعلام الدولية لتفاصيل المجزرة الرهيبة خاصة بعد نشر وسائل الإعلام الموريتانية والفرنسية لمجمل وقائعها المخيفة.

وأنا أعد هذه المقالة قابلت بعض المواقف خاصة من طرف بعض الذين عايشوا بصيري وكانوا أعضاء في “منظمة الطليعة”، تستغرب مجرد الرد على هذه المزاعم المخزنية نتيجة لتفاهتها وسطحيتها، وأذكر هنا رد أحد أصحاب هذه المواقف حين سألني مستنكراً: “قل لي بربك لو كان بصيري كما يصفه المحتلون المغاربة وأذيالهم، فهل كان سيحظى بكل هذه المكانة في قلوب ووجدان شعبه؟، وهل كان المئات من الشباب الصحراويين سيحملون اسمه ويتمثلون تضحياته؟ ثم هل الاكتشاف المغربي لبصيري بعد حوالي أربعين سنة على فقده ؟”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى